طيوب عربية

حياة البيكارو في اعترافات الفتى القيرواني وحكايات أخرى

علجية حسيني – تونس

الناقدة علجية حسين تقرأ اعترافات كمال العيادي

 عادة ما يحمل اسم مدينة القيروان رنينا تاريخيا يفيض بالحنين إلى حقب تاريخية مضيئة. فهي أرض الشعراء والعلماء والفقهاء. واعتبرت القيروان على مدى قرون مدينة روحية ومنارة للفكر. كما ذاع صيت نسائها في الكتب التاريخية والروايات مثل أروى القيروانية وأسماء بنت أسد ابن الفرات وفتاة القيروان. هذه الصورة الحلم والمتوارثة في المخيلة العربية والإسلامية تختفي تماما في المجموعة القصصية اعترافات الفتى القيرواني وحكايات أخرى للكاتب التونسي كمال العيادي. اذ افتك المهمشون والصعاليك والفقراء والنساء العنيفات والمعنفات صوتهم في هذه المجموعة القصصية. الحكايات التي دارت أحداثها في القيروان تجعل من الصورة الوردية عن القيروان مجرد وهم تناقلته الأجيال. وصارت القيروان مدينة القذارة والقبح والوسخ والعنف والجهل.

 اعترافات الفتى القيرواني وحكايات أخرى تنتمي لجنس السيرة الذاتية والأدب البيكاريسكي Picaresque أو أدب المهمشين. استعمل الكاتب ضمير “الأنا” في كل القصص التي حدثت في القيروان. كان الراوي “بيكارو”Picaro مشاركا في أغلب المغامرات والأحداث. صور الراوي الحياة البائسة التي نشأ فيها و هو ما يذكر القارىء بالخبز الحافي، السيرة الذاتية للكاتب المغربي محمد رضا شكري،الذي تحدث فيها عن حياة الخصاصة و الفقر التي عاشها في طفولته.

 ركز كمال العيادي في مجموعته القصصية على تصوير حياة المهمشين على أطراف مدينة القيروان. كل شخصيات البيكارو آتين من القاع الاجتماعي ومن بيئة غارقة في التهميش والجهل و القبح أين أمضى الراوي طفولته. ذاكرة الراوي نادرا ما تسترجع مشاهد جمال. الفتيات كن قبيحات، «حَدَّة نحيلة مثل جرادة» و، «رحاب رسمها مجردّ خطوط باهتة، تتعرج بتعثر واهن عند فخذين شُفطا تقريبًا من الشّحم، ينتهيان بكدمة مشطورة كإلية مسلوتة لكبش ألباني». كما يحمل الكثير من الشخوص الذين عرفهم أسماء تبعث عن التهكم و البشاعة، ” عزيزة المصروعة”، “ صلّوحة المذبوحة”،عبد الكريم الأخن”،حمدة ثعلوب السباسب”. واهتم الراوي بوصف حياة الفقر والفاقة في تلك الأحياء القبيحة والقذرة بالمنصورة وحومة علي الباي و حومة أولاد زايد. وتشترك هذه الأحياء في البؤس: حومة علي باي، «معروفة بالفقر والبيوت العشوائية» و حومة أولاد زايد، «تتميز علينا بالوسخ، وكثرة الحفر، والمباني العشوائية». وتسكن هذه الأحياء كائنات بشرية فقيرة وجائعة. وهو ما يفسر إطنابه في التعبير عن متعته في الأكل حتى وإن كان طعاما رخيصا، «حلوى وآيس كريم ومشمش وبرتقال، وسندويتشات بالهريسة والسردين وزيت الزيتون». كما يستعمل أسماء لأنواع أكلات يشتهيها كتعويض لحرمانه منها في وصف مدام وحيدة حين تضحك، «تبدو لي حياتي الكلبة كلها في قالب، بعضها على شكل سفرجلة متدلية، وساندويتش حار بالمرقاز والبطاطا. وأحيانًا كنت أراها فأرى الدنيابكل خراهاكوبًا من الآيس كريم بالشوكولاته والفستق المرحي، ودينارًا مرشوقًا في الوسط».

يشترك سكان الأحياء الفقيرة في كرههم للعلم والاستهزاء بقيمته. و يصبح المتعلم مصدر سخرية، «وأنت شاذ إذا كنت والعياذ بالله مثقفًا، ومن ذوي الكتب والكرَّاسات وتتقن اللّغات الأجنبية». كما لا يمتلكون اهتمامات فنية أو فكرية. لا تستسيغ ذائقتهم أفكار ومقولات الشعراء والمفكرين الكبار المعترف بهم لدى جميع الأذواق الفكرية. مما يجعلهم يرفضون الطرائف والحكايات التي ينقلها سالم ولد الحنانة المثقف ويتصنعون الابتسام بعد أن يكون خصص جهدا، «مستحضرًا الجاحظ والحسن البصريّ وأبا نواس وألف ليلة وليلة والزمخشري وفيكتور هوجو وإدجار آلان بو والتوحيدي والسّليك بن السّلكة والشنفرى والمقدسي وحبّاب الراوية وجرير وأشعب والفرزدق، وكلّ طرائف العرب المدوّنة». وكانت نهاية سالم ولد الحنانة، المثقف والمحب للأدب والشعر، الانتحار. وهو ما يرمز أن بيئة حومة علي باي ليست العالم الذي ولد من أجله أمثال سالم. عالم حومة علي الباي تخنق و تقتل كل ميل و نزوع لتذوق الفكر الإنساني العظيم. في غياب الاهتمام بالفنون والعلوم والمعارف، تفشت ممارسة الشعوذة. يلجأ الجميع للطاهر المؤدب لمداواة كل الأمراض. ويؤمن سكان حومة علي الباي بوجود أشباح لأشخاص متوفين، «روح صلّوحة المذبوحة؛ فهي التي علّمت وجه رضا ولد السّبوعي بشفرة حلاقة، وهي التي تقلب حاويات الزبالة بعد منتصف الليل».

افتقارهم إلى الاهتمام بالعلم والمعرفة والفن منعهم من ﺇعلاء غرائزهم Sublimation وتحويلها ﺇلى هدف أسمى ومقبول أخلاقيا واجتماعيا. كل شخصيات البيكارو مدفوعون بغرائزهم الفطرية الجنسية والعدوانية. داخل الأحياء الفقيرة تعشش الدعارة والرذائل وينتشر العنف والجريمة، «وكنّا نحن؛ صناديد حومة علي باي، زوَّار سجون وحاملي حديد وشفرات حلاقة، وأبناء لأميين ومجرمين، رجالًا عتاة في السكر والعربدة والفقر، ولا يوجد بينهم مثقف». حتى الأسماء تبث الخوف والشعور بالتهديد بالعنف، «ولدينا أيضًا أسماء ترعب البوليس نفسه:

المولدي البلنز، جلال السلعوة، لطفي دبكه، نجيب الشهبان، الدباية، ساطور الخير، علي ضبابط، راس الملقاط، منير كونوليا، الحنشة، غوار بوراس».

 يصبح الشر عادة يومية و قيمة للتباهي و الافتخار، «حومة أولاد زايد.وهي حومة مرعبة، وتنافس حومتناحومة علي بايفي الشر وسوء الصيت والإجرام وبيع الخمور المغشوشة وتحدي البوليس». لا يمثل الفن ولا المعرفة ولا العلممعارف إنسانية سامية قد تثير انبهارهؤلاء المهمشين الأشرار. وإنما يتخذون مشاهير عالم الجريمة والعنف في القيروان نموذجا للبطولة. ويتحول العنف إلى بطولة و يتفوق ذووا السوابق الإجرامية على الشخصيات التاريخية المهمة في التأثير على حياة الراوي و رفاقه، «صيت ولد العلويني. وقد كان فعلاً أسطورة من أساطير القيروان التي تُذكر بين أولاد الحومة في مجالس الليل بكلّ الأحياء… كان عندنا أهم من بورقيبة ومن سيدي الصحبي حلّاق الرسول، صاحب مقام أبي زمعة البلوي».

استعمل كمال العيادي أسلوب أدبي Diction ينسجم ويتماشى مع مضمون قصصه. استند إلى تقنية السخرية والهزل في سرد مغامرات الراوي. رغم رائحة القذارة والفقر والعنف التي تغمر حياة الراوي ورفاقه المتسكعين، ﺇلا أنهم يميلون دائما للسخرية والهزل. يصبح الهزل موهبة يجب على كل بيكارو أن يمتلكها حتى لا يُبعد عن ومجالسهم، «وفي حومة علي باي، أنت غريب ومكروه إذا كنت لا تتقن رواية النّكت وتأليف الحكايا». وأتقن الراوي سرد حكاياته عبر أسلوب السخرية والهزل لاستحضار القصص التي عاشها في طفولته. و يعود الإتقان الفني و الجمالي للأسلوب لقيمة مادة القصص. يقول آرثر شوبنهاور: «ﺇن القاعدة الأولى للأسلوب الجيد،ﺇذن، هي أن يكون للمؤلف ما يقال»1. تغدو السخرية نوع من الصراخ والتعبير عن الاحتجاج ضد الظلم والتهميش. وهي الوسيلة الأنجع ﻹفراغ غضبهم لحياتهم البائسة ولامبالاة الدولة واحتقار البوليس لهم. البوليس خير أن يفرق احتجاج مظاهرة لعمال مصنع على التحقيق في جريمة قتل وقطع رأس شخص. ولم يأت ﺇلا بعد وقت طويل رغم تسليم الجاني نفسه، «البوليس جاء منذ قليل فقط، من المؤكد أنهم كانوا مشغولين بمظاهرة نقابة مصنع التبغ والوقيد». السخرية طريقة ﻹثبات وجودهم وحماية أنفسهم من الاحتقار الذي تظهره الدولة لهم.وفي هذا السياق يقول سيقموند فرويد: «وتكمن براعة السخرية في انتصار النرجسية وقداسة الأنا المعلنة تفوقها وعدم السماح للمساس بها. فالأنا ترفض أن تنغص عليها دوافع الواقع ومحفزاته وتجبرها على المعاناة… وترى في الصدمات مجرد دوافع لكسب المتعة» 2.

 لنقل الراوي مغامراته وانطباعاته بصدق مثلما عاشها لم يصفي اللغة. توجد كلمات وعبارات في اعترافات الفتى القيرواني وحكايات أخرى تختلف عن اللغة الأدبية المعتادة والمتعارف عليها. قد يعتبرها العديد من القراء لغة بذيئة Slang وتفتقر للجمال الفني الذي يميز اللغة الأدبية. ويمكن تصنيف هذه العبارات على أنها قبيحة وتتعارض مع الذائقة الأخلاقية والفنية. لكن بالتدقيق في مادة القصص نتأكد أن الكاتب يعي جيدا الهدف من وراء اختياره استعمال هذا النوع من اللغة. فمادة القصص تتحدث عن بيئة غارقة في قصص الجرائم والدعارة والروائح النتنة والفقر. كما ينقل لغة الأميين التي عادة ما تفتقد للرقة أو التصفية المتصنعة من الكلام البذيء. فليس من المنطقي أن يستعمل لغة تقوم على إيقاع موسيقي أو شعري أو جمال طبيعي لوصف هذا العالم الذي يخلو من أي مصدر للجمال الإنساني أو الأخلاقي أو الطبيعي. حومة الباي لا تحتوي ﺇلا على شجرة “كالبتوس” واحدة والتي شنق سالم ولد الحنانة نفسه عليها. سيخلق تنافرا بين الهدف والأداة التي تحققه وهي اللغة، ﺇن سعى لتنقية وتهذيب لغته من الكلمات القذرة لنقل عالم الأحياء الفقيرة وتصوير حياة المهمشين المعدمين في بؤرالرذائل والقبح والأوساخ والروائح النتنة. يقول الكاتب السوري هيثم حسين، في استعمال القذارة في الأدب: «حين يتناولها الأدباء بأساليبهم المختلفة، فإنّهم يعيدون صياغة جوانب من الحياة ويقتطعون مشاهد منها ليجسّدوها في أعمالهم، ويوصلوا من خلالها مرادهم ورسائلهم إلى القرّاء» 3.

 استطاع كمال العيادي كاتب اعترافات الفتى القيرواني وحكايات أخرى أن يشد القارئ لاكتشاف عالم المهمشين الذي نشأ فيه. واعتمد الصدق والشجاعة في نقل حكايات طفولته. يقول الكاتب البولندي تشسواف مييووش: «الأدب يولد من رغبة في الصدق. الرغبة في عدم إخفاء أي شيء» 4. واستند على ضميري “أنا” الراوي و” أنتم ” القراء لتغدو القصص كأنها اعترافات شفهية من راوي يتحدث إلى سامعين. وهو ما يضفي الشعور بالقرب والصدق وبين الكاتب والقارئ.

  1. __ مجلة نزوى العدد 98: كتاب نزوى / ألف ليلة وليلة مقالتان لبورخيس في الترجمة و التأثير الأدبي / تقديم و ترجمة: ناصر الكندي
  2. 2         __ الغريزة والثقافة دراسات في علم النفس سيغموند فرويد / ترجمة: حسين الموزاني
  3. 3         صحيفة العرب 17 / 12 / 2018 / مقال “تنقية اللغة من الشوائب “
  4. _ مجلة ابداع يناير فبراير 2019 (حوار: روبرت فاجن – ترجمة: أحمد شافعي)

مقالات ذات علاقة

ربعي المدهون يفوز بجائزة البوكر العربية 2016

المشرف العام

صفاء الهمداني: أكتب عن كل شيء بشفافية ودون زخرفة للكلمات وتضميخ للمعنى

سالم الحريك

نظير شمالي في حيفا 5-10-2017

المشرف العام

اترك تعليق