ردُّ الرّوائيّة فاطمة ذياب على قراءة د. منير توما في أدموزك وتتعشترين!
مَقالةُ د. منير توما بعنوان البوْحُ الجنسيُّ الرّمزيُّ الاستعاريُّ في مَجموعةِ- أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ- للشاعرة آمال عوّاد رضوان قرأتُها وأُثمّنُها عاليًا، وبصراحةٍ، كادتْ تَعابيرُهُ الحلوةُ المُترابطةُ أنْ تَسحبَني لفِكرتِهِ، لكنّها لم تفعلْ، فلكلٍّ منّا قراءتُهُ ونظرتُهُ ورؤيتُهُ المَعيشةُ والمُتخيّلةُ، وبمُجرّدِ أنْ تأخذَنا نصوصُ “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ“ إلى تناقضاتِ المَعنى وازدواجيّةِ الإيحاءِ، فهذا يُدلّلُ على قدرةِ الشّاعرةِ آمال البلاغيّةِ، مِن حيثُ الاتّكاءِ على عكّازِ الرّوح لبعض القرّاء، أو على عكّازِ الجنسِ عندَ بعضِ القرّاء، أو عكازِ شيءٍ آخرَ تمامًا.
قد رأيتُ د. منير توما يَقفُ على ضفافِ شاطئٍ آخرَ مِن بَحرِ المَعاني الدّالّةِ والمَدلولةِ في شعر آمال عوّاد رضوان، فشتّانَ ما بينَ الدّلالاتِ الصّوفيّةِ الّتي أستشِفُّها شخصيّا، وبينَ الإيحاءِ والبوحِ الجنسيِّ الرّمزيِّ الاستعاريِّ الّذي عناهُ د. منير توما، إذ رأى الذّكوريّةَ في عكّازٍ يتوكّأ عليهِ النّصّ الذّكوريّ، والغيمةَ المُستمطَرةَ وعاءً للرّغبةِ، بقدرِ ما كانتْ تعبيرًا للخصوبةِ والعطاءِ، ولكنّي كمحاوِرةً وقارئةٍ تعشقُ الماوراء بتحفّظٍ، وليسَ بقصدِ الدّفاعِ أو الاتّهام، عدتُ إلى النّصوصِ مُجدّدا، أحاولُ استدلالَ الما وراء مرّة أخرى، فلم أجدْني إلّا أكثرَ تَمَسُّكًا بما كتبتُ مِن مدلولاتٍ جاءتْ ضمنَ قراءتي الأولى “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ“! فمِن وجهةِ نظري، النّصوصُ روحيّةٌ صوفيّةٌ، تتّكئُ على عكّازِ البلاغةِ التعبيريّةِ والصّورِ المُترابطةِ، ولعلّ جَماليّةَ النصّ تنبعُ مِن تعدُّدِ المَلامحِ للوجهِ الواحدِ وللجسدِ الواحد، بوجهاتِ اختلافٍ وائتلافٍ تثيرُ الجدل!
لا نُنكِرُ على الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان جرأتَها وتَميُّزَ مُفرداتِها، لكنّ مجموعتَها الشعريّةَ العشقيّةِ هذه أدموزك وتتعشترين، ورغمَ الصّياغةِ الفنّيّةِ المُتراسِلةِ والطّانبةِ في أبعادِها، فإنّ قصائدَها تتضمّخُ بصوفيّةٍ عذراءَ وبعشقٍ صوفيٍّ أسطوريٍّ، ما كانَ لبني بَشرٍ إلّا كعشقٍ آخرَ لوطنٍ ولبلدٍ وأرضٍ، تلكَ العلاقةُ الجدليّةُ بينَ شاعرةٍ تتوهّجُ بالحُلمِ، وتُطرّزُ مَعانيها مِن عصارةِ نبضٍ يُوجعُها، فتختارُ صنوفَ المَعاني المُستقاةَ مِن الأسطورة بثيابِ عاشقٍ حدَّ الثّمالةِ، حيثُ تصبحُ المُناجاةُ صلاةً، وكأنّي بها تخاطبُ الأرضَ فتقولُ:
“صُدَاحُكِ.. شَهِيًّا.. يَتَعَالَى/ يَجْرِفُ سُيُولِي بِشَغَفٍ.. إِلَى مُدُنِ خَيَالِي/ وَصَوْتُكِ.. يَأْتِينِي مُتَلَبِّدًا.. بِجَفَافِ شَوْقِي اللَّاهِبِ/ مُبَلَّلًا.. بِشَظَايَا آهَاتِي!/ رُحْمَاكِ.. أَدْخِلِينِي غَيْمَةً شَهِيَّةً/ وَبِلَمَسَاتِكِ الْمُضْرَمَةِ بِالرَّغْبَةِ/ أَمْطِرِينِي.. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ/ فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!
أمطريني: آمالًا، أحلامًا، أمانًا، ..إلخ، ليَحملَ النّاسُ المِظلّات؟ مظلّاتِ الخيرِ والنورِ والمَحبّةِ والسّلام، بدلًا مِن أنْ نظلَّ مُبلّلين بالدّماءِ والدّمع والوجع على ناصيةِ ريحِ الغربةِ والتّشرّدِ والضّياعِ، بلا مصابيحَ ورجاءٍ، بلا بَصيصِ أمَلٍ في عتمٍ دامسٍ!
نعم، بلا مصابيحَ في ظِلِّ غيمةٍ كنّا ولم نَزلْ نُعانقُ هواها، ونتّكئُ على عكّازها: سَأَجْعَلُ الْغَيْمَةَ/ حُـــــبْــــــــلَـــــــــى.. بِشُــــمُـــوخِــكِ/ أَحْرُسُهَا.. أَنَا رَاعِيهَا/ وسَاعَةَ الْوِلَادَةِ.. أَهُشُّ عَلَيْهَا.. بِعُكَّازِي/ وَبِلَا آلَامٍ.. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا.
الشاعرة آمال عوّاد رضوان تتوسّلُ الغيمةَ أنْ تحبلَ بشموخِها الطّاغي، فتستمطرُها كي تحلَّ خيرًا وعطاءً وحلًّا سِلميًّا في جَفافِ الواقع، هناكَ تقفُ الشّاعرةُ ونقفُ معها، حيثُ الغيمةُ حُبلى بشموخِ الآماني، نستمتطرُها ربيعًا بكريًّا لم يُدَنَّسْ، لِينبُتَ الكوْنُ ويُزهِرُ سلامًا في أرضِ القداسةِ! وتقولُ: فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا.. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ.. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا. هكذا أعتمِدُ الحِسَّ الأنثويَّ المُترامي في وَعيِهِ وأبعادِهِ حدَّ الاتّقاد، فهل يمكنُ أنْ نُنكِرَ الجَماليّةَ الرّمزيّةَ والوصفيّةَ، حينَ نرى شقّي الوطنِ الواحدِ المُتجسّدِ في جسدِ المرأةِ الجميلِ الخصبِ الوَلودِ، بنهدَيْها الخِصبيْنِ، وبشفتيْها الباسمتيْنِ، وبشَعرِها ومُحيّاها وقدِّها وأناقتِها؟
الوطنُ امرأةٌ فاتنةٌ لهُ فِعلُهُ في عاشقِهِ، تمامًا كنهْدَي امرأةٍ في جسدٍ جميل، فلمْ تتحدّثْ عن ثدْيٍ واحدٍ وآخرَ مبتورٍ، إذ لا يَكتمِلُ قوامُها إلّا بكِلا ثدْييْها اليمينيِّ واليساريِّ، ولا تكتملُ بسمتُها إلّا بكلتا شفتيْها السّفلى والعُليا، فالشّاعرة آمال عوّاد رضوان تتناولُ جسدَ المرأةِ الخصبِ الولودِ الجميلِ برمزيّةٍ وتفرُّدٍ بليغٍ، يَصِلُ إلى حدِّ التّقديسِ والعبادة، كتقديسِها لكلِّ تفاصيلِ جسَدِها ووطنِها فتقولُ: تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي.. بِمَفَاتِنِكِ/ تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي.. مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ/ فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ.. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ/ وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي/ عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
نعم، هذا الجسدُ الّذي ما فتئَ ينتظرُ هطولَ المطرِ في بوْتقةِ حُلمٍ شهيٍّ، يَتأجّجُ شوْقًا مُضرمًا للخصوبةِ المُشتهاةِ. هكذا استخدمتْ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان العلاقةَ القدسيّةَ ما بينَ الوطنِ الأنثى والمُواطِنِ الذكوريّ، وما التأجُّجُ إلّا أزيزَ مَشاعر تتّقدُ فينا، تخترقُنا ونخترقُها عشقًا لا يُشبهُ أيَّ عشقٍ، فهذهِ الأرضُ المُتراميةُ ما بين الغيومِ والسّحابِ ضفافٌ مِن العشقِ المُوظَّفِ بأسطورتِهِ وبَلاغتِهِ، فيجعلُ القارئَ يَسبحُ بأفكارِهِ، ويَطفو فوقَ موجِ الماوراء، فتأخذُنا إلى بُحورِها المُنتقاةِ، وتُعلّمُنا طقوسَ القُبَلِ المُلتهبةِ على شفتيْ وطنٍ، تستمطرُ حليبَ النّهديْنِ كطفلٍ رضيعٍ، مُقبِلًا بلذّةِ القُربِ والتّلاحمِ والانصهارِ في الآمال الحيّةِ الطّازجة.
آمال عوّاد رضوان شاعرةٌ رقراقةٌ نديّةٌ، تكتبُنا وتكتبُ عشقَنا للوطنِ، فتراهُ مُجسَّدًا ما بينَ نهديْنِ رمزِ العطاءِ وما بين شفتيْ قُبَل! فهل تلتقي الشّفاهُ؛ غزّة والضفّة؟ آمال بعِشقِها الأسطوريِّ استخدمَتْ وأوغلتْ في رمزيّتِها، ما بين رُموزٍ ورومانسيّةٍ حُبلى بالمُفرداتِ العشقيّة:
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي.. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي!/ مَا أَفُلَتِ اللَّذَّةُ.. فِي رَعْشَتِهَا/ وَمَا اكْتَنَزَ ارْتِوَاؤُهَا.. إِلَّا بِتَعَطُّشِكِ الصَّامِتِ/ آآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!/ وَتَظَلُّ خَيَّالَةُ جُنُونِكِ.. نَبْعَ مُشْتَهَاتِي!
نعم، هي رسائلُ عشقٍ ما بينَ الشاعرةِ والمكان، تُوظّفُ أدواتِ لغتِها ببراعةٍ وإتقانٍ مَلفوفيْنِ بالغموضِ والرمزيّةِ، فتتركُنا نلهثُ وراءَ رمزيّتِها ونعيشُ تصَوُّرَنا، والوطنُ الأنثى جَوْعى لتعابيرَ ملفوفةٍ ومكشوفةٍ، هي علاقةُ الرّوحِ بالجسدِ، وعلاقةُ الحُلمِ بالواقع ولا انفصامَ بيْنَهما.
أعتقدُ جازمةً أنّ في ديوان- أُدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْترين- أكثرَ مِن فكرةٍ تُقدّمُها ليتخيّلَ كلٌّ منّا ما يريدُ، وهنا مَربطُ الفرَس؛ إنّهُ نصٌّ عشقيٌّ صوفيٌّ ما بين الجسد والوطن بشقّيْهِ، ونَهدَيْهِ وشَفتيْهِ.
أُدَمْــــــوِزُكِ.. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ.. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ.. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ!
نقفُ أمامَ أوجُهِ المعاني الجدليّةِ، ونَحارُ أينَ تُوجّهُها، لكنّنا نجدُها طفلةً مُسترسلةً بالانتماءِ لمَكانِها وزمانِها، تُجسّدُ العلاقة الجدليّة مِن تحتِ إبطِ مَلاءةٍ، وأعشاشٍ، وعصافير ووطنٍ نراهُ حاضرًا كما العصافير مِن زمنٍ إلى زمن، يُغرّدُنا ونُزقزقُهُ حروفًا مِن علاقاتِنا الوجدانيّةِ، تتحدّثُ عن الطفولةِ برمزيّةِ الأعشاشِ وزقرقةِ العصافير- الأطفال!
إِهْدَاء/ أَيَا عَرُوسَ شِعْرِي الْأَخْرَس!/ إِلَيْكَ/ مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً/ بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا.. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا/ حَلِّقْ بِبَياضِهَا/ صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ/ وَتَطَهَّرْ/ بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!
هي الأرضُ تُطارحُها الهوى بكلماتِ شِعرٍ أخرسَ لا يَصِلُ إليها، أو هكذا يُخيّلُ لك كقارئ، تُخاطبُكَ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان بلغةٍ عِشقيّةٍ تَعزفُ على أوتارِ عشقٍ مُتفرّدٍ لغةً ومَضمونًا، نعم أيّتها الأرضُ الطيّبةُ، لكِ شِعري وحروفُ نثري، (بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا.. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا)، تُحلّقُ وتسمو صوْبَ ذاكرةٍ عذراءَ!
هو الإهداءُ الناطقُ باللّوْعةِ والاشتياقِ عجبًا، تأخذني إليهِ مِن الحرفِ الأوّلِ، وكأنّها رسالةٌ لنا كي نقرأ عِشقَها ولغتَها العشقيّة بعُذريّةٍ، كما ذهبَتْ إليها، عساها تُمطِرُ (بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!)! ونتدرّجُ ما بينَ النّقاطِ والفواصلِ، ونلتقي معَ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في قصيدتِها:
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي/ أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟/ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ.. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ.. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!/ عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ.. مُضَمَّخٍ/ بِــــالْــ~~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي.. صَدًى/ لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!/ قَلْبِي الْــــ يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ بِكِ/ حينَ.. يَـ~~جْـ~~ـمَـ~~ـحُ.. شَجْوًا/ تَــــتَـــيَـــقَّـــظُ.. ثُــغُــورُ رَبــِيــعِــي الْــــ غَـــفَـــا
مَبْسُوطَةً.. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ/ مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى/ حِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي/ وَعَلَى شَفَتَيْكِ.. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي/ فَأَغْدُو وَارِفَ الْمَدَى/ أَلَا يَـــتَّـــــسِــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟/ كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!/ جَمَالُكِ.. لَا تُثْمِلُهُ أَمْوَاجِي/ وَحْدَهَا أَعْمَاقِي.. تُسْكِرُ نَزْفَ أَنْفَاسِهِ!
وَجَــــلَالُـــــكِ/ مِنْ هُوَاةِ الزَّرْعِ وَالسَّوَاقِي.. أَنَا/ وَأَطْيَبُ أَحْلَامِي.. مَا كَانَ.. فِي بَطْنِ سَاقِيَةٍ ضَيِّقَةٍ/ تَوَقَّفَ فِيهَا الْمَاءُ.. هُنَيْهَةً!/ أَنَا/ مَا كُنْتُ.. مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ/ فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ/ مُنْذُ.. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَةٍ/ وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!/ دَعِينِي.. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ/ واُغْمُرِينِي.. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ/ لِأَبْقَى.. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ! تُقَاسِمِينَنِي/ صُورَتَكِ الْـــــ.. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي/ وكَفَرَاشَةٍ.. أَحْتَرِقُ بِرَحِيقِ هُيَامِكِ!/ أَغُورُ.. فِي صَخَبِ لِسِانِكِ/ أُسْرِفُ.. فِي اشْتِهَاءَاتِهِ الْمُعَتَّقَةِ/ وأَغُوصُ.. فِي صَرْخَتِكِ النَّقِيَّةِ!
سماواتُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان يابسةٌ، لا تمطرُ غيرَ الجفافِ والكرهِ والتفجُّرِ والانفجارِ، في ظِلِّ حروبٍ مُدمّرةٍ، فتشتعلُ أحلامُ الشّاعرة كما تشتعلُ ثورةُ حُلمِها شهوةً ورغبةً، وتتماهى إلى حدٍّ بعيدٍ معَ الشّهوةِ الأخرى، ولا عجَب، فإنّ المادّةَ مِن حَرفِها الأوّلِ حتّى الأخيرِ مادّةٌ عشقيّةٌ، تتّكئُ على العلاقةِ ما بينَ الذكورةِ والأنوثةِ، لتُظلّلَ الوطنَ والإنسانَ في شهوةِ اللقاءِ والعناقِ، بأبعادٍ أخرى تنسجُ خيوطَ مَعانيها، كما غليانُ الحُبِّ في مَراجلِ العشّاق، مُستخرَجةً ببوحٍ عذريًّ يتسامى إلى أبعدِ مِن حدودِ العلاقاتِ البشريّة، كي يكبرَ وتكبرَ معهُ ويكبرَ بها في هوى مُستزادٍ، تتأمّلُ الأملَ الظمأى المُتّقدةَ بعبثيّةٍ على الشفاه، ويغدو مداها وارفًا يتّسعُ لأوتارِها البحريّة: أَنَا مَن تَزْفُرُنِي.. زُرْقَةُ أنْفَاسِكِ الْبَحْرِيَّةِ/ كَمْ تُغَبِّطُنِي أَشْرِعَتُكِ.. تَخْفُقُ/ فِي سَمَاوَاتِ مَسَاءَاتِي الْمَحْرُوقَةِ!
إذن؛ هي الشّاعرة الإنسانُ، وهو وطنُها الذي تطارحُهُ الهوى والعشقَ، كي تُزهرَ حقولَ الفرحِ لديْها، ما بينَ الأملِ والقنوطِ: هَاءَنَذا.. أُدَوْزِنُ أَوْتَارَ غُرْبَتِي/ عَلَى كَمَانِ طَيْفِكِ الضَّبَابِيِّ/ وَأَعْزِفُنِي مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ/ لِئَلَّا يَخْبُوَ.. مَجْدُ حُضُورِكِ
وما بينَ الرّغبةِ والحاجةِ تشتعلُ الشاعرةُ شِعرًا ولغةً نرجسيّةً، منتقاةً على مَقاسِ أحلامِها وعِشقِها المُتميّز بأرضٍ ووطن، وتَظلُّ تُصارعُ اليأسَ بقولِها: كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟! فهذا الوطنُ الإلهُ لم يتجسّدْ في رُؤاها وكأنّهُ مُجرّدُ وهمٍ في خيالاتِ شاعرةٍ، فتصبو لتأليهِه!
عزيزتي آمال عوّاد رضوان، صلاتُكِ هي صَلاتُنا، وأمانيكِ هي أمانينا، وحرفُكِ يُجسّدُنا عشقًا وصلاةً ورجاءً، كي لا نظلَّ عالقينَ بحبالِ الضّياع: (دَعِي ظِلالَنَا النَّائِحَةَ.. تُلَامِسُ الْأَرْضَ/ فَلَا نَبْقَى مُعَلَّقَيْنِ .. بِحِبَالِ الضَّيَاعِ!) حتّى نُلامسَ أرضَنا ونُعانقَ عذريّةَ عشقِنا، نحن الهاربونَ معكِ إلى حدودِ الغيم، نستمطرُ الغيثَ في جفافِ سنواتِنا العِجافِ: (وَلَمَّا أَزَلْ.. مُضَاءً بِكِ.. حَدَّ الْهَرَبِ/ صَوْبَ غَيْمِكِ.. جِهَةَ ضِفَافِ الْحَيْرَةِ/ أَرِفُّ .. أَتَلَأْلَأُ.. وَيَفُوحُ عُشْبِي.. بَلَلًا!/ إِلَامَ أَبْقَى عَائِمًا.. عَلَى وَجْهِ وَجَعِي/ تُلَوِّحُنِي الرَّغْبَةُ.. بِيَدَيْنِ مَبْتُورَتَيْنِ؟)
نحنُ أمامَ شاعرةٍ صوفيّةِ الهوى، تفردُ حروفَها بإيحاءٍ عشقيٍّ مُتفرّدٍ حيث تقولُ: أَمْطِرِينِي.. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ/ فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!
مثلها نشتاقُ ونبحثُ في نواصي الريح عن ومضةِ مصباحٍ، يُنيرُ دروبَنا المعتمةَ الغارقة بظلمةِ واقعِها: وَحَقّ جَمَالِكِ/ خَفْقِي.. مَكْتُومٌ أَجَلُهُ/ يَحْبُو عِشْقًا/ عَلَى دُرُوبِ تَوَحُّدٍ.. يُعَوِّلُ عَلَيْكِ!
على دروبِ التّائهينَ في هذا الوطن الحزين ننتظرُ ساعةَ ميلادٍ، ولحظة مَخاضٍ لحُلمِنا الموعودِ، وفي تَعدُّدِ الما وراء تكمُنُ جماليّةُ المعاني: كَرِيحٍ.. تَنْثُرِينَ الشَّهْوَةَ هَسيسَ نَشْوَةٍ/ في أَعْــمَــاقِــي/ وَقَدُّكِ.. يَجْلِبُ لِيَ الْمَطَرَ/ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ فَجٍّ!/ دُونَ نُضُوبٍ.. تَسْفُكُنِي ذَاكِرَتِي/ عَلَى مَسَامَاتِ احْتِرَاقِي/ وَأَظَلُّ فَضَاءَكِ الْمُشَرَّعَ.. عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ!
كريحٍ تنتثرُ الشهوةُ هسيسَ نشوةٍ في تَعدُّدِ مَراميها وسِرُّ بلاغتِها، حينَ تُجسّدُ عشقَها ما بينَ ذكورةِ الوطنِ وأنوثةِ العِشق إلى حدِّ الاشتعالِ، فتخطُّهُ لغةً مِن أدراج العاشقين؛ نشوة، هسيس، اشتعال، شموع!
لغةٌ مُترعةٌ تضمخُ بأبعادها السماويّةِ، وإن كانتْ يابسةً سماواتُها، وحتّى صرختُها الدالّةُ والمدلولةُ (في عبيرِ نهْدَيْكِ أسوحُ)، ونمضي إلى نهدَيْنِ في جسدٍ لكن لا يَلتقيانِ، يَجمعُهما جسدُ الوطنِ الجريحِ، فأراها الضفّة الغربيّة وغزّة المُطوّقة، لكن لن يَتلاشى الجسدُ: سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ مُنْذُ.. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَةٍ وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ! دَعِينِي.. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ واُغْمُرِينِي.. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ لِأَبْقَى.. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ!
عندَ هذهِ الخلاصةِ نقفُ، لنرى الشاعرةَ آمال عوّاد رضوان تضعُ النقاطَ على حروفِها الجوْعى للضّوءِ ولبذورِ الأمل، وقد شاغلتْنا بعِشقِها ومَلامحِهِ السّماويّةِ المُتسامية، حيثُ ترسمُ مَراحلَ تدَرُّجِها الواعي عبرَ ألفَ عامٍ وغيمة، والغيومُ ما انفكّتْ كما سلاسلُ القيدِ حلقاتٍ مِن غيرِ انفصام، فعن أيّةِ صواعقَ وعن أيّةِ نكساتٍ توحي لنا، ونحن الذين معَها نُعايشُها ونعايشُ الوطنَ ولم نزلْ، مِن نكسةٍ إلى وكسةٍ، ومِن خيبةٍ إلى مليون خيبةٍ تختصرُ حدّةَ المسافاتِ، لتقطعَ الشّكَّ باليقين، وترسمَ لنا مَرامي الكلمات!