المقالة

سرير الفيلسوف وسرير النجار

سلسلة: الصورة والخيال

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

7 – سرير الفيلسوف وسرير النجار

من المفارقات المدهشة في تاريخ الفلسفة والفن، انه للحصول على اجابات واضحة للعديد من الأسئلة التي تواجه الفكر المعاصر، يجب في كثير من الأحيان الرجوع مئات السنين إلى الوراء، والتنقيب في الفلسفة اليونانية ذاتها، التي تمكنت في أغلب الأحيان من صياغة الكثير من الاسئلة الممكن طرحها أو التفكير فيها في ذلك الوقت البعيد. والكثير من هذه التساؤلات الجوهرية ما تزال تنتظر الإجابة رغم المحاولات العديدة والجهود الفكرية المتنوعة طوال مئات السنين. افلاطون، على سبيل المثال، لم يطرح السؤال الذي يعنينا – ماهية العمل الفني – بطريقة مباشرة، وإنما مرورا بمقولة “الحقيقة” و”الجمال”. ورغم ان جوابه لا يفيدنا كثيرا في هذه اللحظة، غير انه اشار إلى الطريق التي قد تؤدي إلى الاجابة الصحيحة. تسمى الحقيقة باللغة اليونانية “ἀλήθεια – alethea”: وهي كلمة مكونة من الإسم “Lethé”، هذا النهر الأسطوري التي تبعث مياهه على النسيان، حيث الروح البشرية، بعد أن تأملت في “الأفكار والمثل الحقيقية” وقبل العودة إلى الأرض، عليها أن تغتسل في مياهه التي تفقده الذاكرة وتجعله ينسى هذه المثل والأفكار. ومكونة من الحرف ” a- privatif ” الذي يعني النفي، أي نفي النسيان.  لذلك يجب أن نفهم أن “الحقيقة” هي قدرة هذه النفس التي تعود إلى الأرض على تذكر الأفكار والمثل الحقيقية التي تأملتها، فهي لم تنس وما زالت تتذكر “عالم الأفكار” هذا، حيث يمكنها أن تفكر في الجوهر الحقيقي لكل شيء؛ الجواهر التي هي أكثر حقيقية من العالم المحسوس. وقد تم استخدام مفهوم Alethea، من قبل بارمينيدس Parmenides في قصيدته في الطبيعة De la Nature، حيث يضع فكرة الحقيقة aletheia في مواجهة فكرة او مقولة “الرأي – doxa “. فالجمال عند أفلاطون، كما سبق القول، يرتبط بالحق “le vrai” والخير “le bien”، لذلك يميز بين الجمال في التجربة الحسية المباشرة باعتباره صفة نضيفها ونسقطها على الكائنات والأشياء من الخارج، وهو جمال ظاهري ومجرد إنعكاس للجمال الحقيقي أو الجمال في ذاته أو مثال الجمال، بحيث لا تكون الأشياء المحسوسة جميلة إلا بمشاركتها في هذا الجمال المثالي. ذلك أن فكرة الجمال، باعتبار المقاييس الأفلاطونية، تعتبر أكثر رقيا وعلوا من اللذة التي نحصل عليها من تأمل الأشياء الجميلة المحسوسة. فأفلاطون يؤسس نظرية موضوعية في الجمال، إذ يبين في محاورته عن طبيعة الحب المسماة بالمأدة “Le Banquet – Συμπόσιον – Sumpósion ” كيف يمكن أن نرتقي من الرغبة في الأجسام الجميلة إلى حب الأرواح الجميلة حتى ننتهي إلى تأمل الجمال في ذاته. وبهذا التدرج، أو التطور التدريجي لتأمل الجمال في عدة محطات أو مراحل، من التطهير la purification إلى الالهام والإشراق l’illumination ثم التأمل والوحدة مع الألوهية l’union au divin، يبني أفلاطون ويكون ميكانيكية جدلية لصعود الروح وتعاليها نحو الإلهي، وينجز بهذه الكيفية التقابل بين اللوغوس λόγος والأيروس ἔρως. والفكرة الأساسية في هذا البناء هي رفضه الشديد والمطلق لفكرة المحاكاة في الفن عموما وفي الشعر بالذات.

 ففي الكتاب العاشر من الجمهورية يبدأ إفلاطون حواره على لسان سقراط:

سقراط: ثمة أمور كثيرة تجعلني اعتقد أن المدينة التي أقمناها هي افصل المدن، وأعظم ما يؤيد دلك ما حددناه خاصا بالشعر.

غلوكون: أي وجه منه تعني ؟

سقراط: اقصد ألا نقبل البتة شيئا من شعر المحاكاة، و احسب أن هذا الأمر أصبح أكثر وضوحا بعد أن ميزنا أقسام النفس المختلفة.

غلوكون: مادا تعني ؟

سقراط: هذا سر بيني وبينك لا تذيعه على شعراء التراجيديا وغيرهم من أصحاب المحاكاة وهو أن جميع شعر المحاكاة فيما يظهر لي يفسد عقول الدين يسمعونه، اللهم إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة.

ويعطي سقراط مثال السرير المعروف حيث أن الحرفي صانع الأسرة والمناضد وكل ما يوجد على الأرض مما صنعه الإنسان بيده، يصنعها انطلاقا من  صورة أو”مثال” والذي لا يمكن أن يكون صانعه سوى صانع أكبر وأمهر يقول عنه أفلاطون بلسان سقراط “هذا الصانع ليس قادرا على صنع جميع المصنوعات فقط، و لكنه هو الذي يصوغ جميع الكائنات الحية، كما يصنع نفسه و جميع الأشياء الأخرى… الأرض والسماء و الآلهة و كل ما هو موجود في السماء أو في الجحيم تحت الأرض”. إن الإله إذن خلق المثال الأول لسرير كامل الصفات، ثم يأتي النجار و يصنع سريرا عن طريق التقليد أو المحاكاة للسرير المثالي، ثم يأتي المصور أو الفنان ويرسم السرير الذي صنعه النجار، و بهذا التقليد أو المحاكاة يكون عمله بعيدا عن الحقيقة بثلاث درجات. و الشاعر شأنه شأن المصور لا يصل إلا إلى ظواهر الأشياء دون النفوذ إلى طبيعتها أو إلى جوهرها الأصلي. وهكذا فالفن عموما هو”محاكاة للمظهر”. إن الفن لا يحاكي إذن سوى الظاهر، بخلاف الفيلسوف الذي يدرك الحقيقة ويتواصل معها كما هي في عالم المثل. و من هنا فقد ذهب أفلاطون إلى أن إنتاج الشعراء يتسم بالضعف و الرداءة، فالمحاكاة لا تخلق بالنسبة إليه سوى ما هو وضيع، إنها لا تنفذ إلى أعماق الأشياء، فالشاعر في إنتاجه لا يخرج عن إطار الصورة أو الظل أو الظاهري.

فافلاطون انتقد الفنانين عموما، والشعراء بالذات وطردهم من جمهوريته الفاضلة، موضحا ان العمل الفني يتميز بكونه وهما، وليس حقيقة. بمعنى ان العمل الفني يتميز بكونه خياليا ولا ينتمي إلى العالم الحقيقي، وقرر عدم وجوده نهائيا. وليشرح الفرق بين العمل الفني، والعمل غير الفني، ” مثال السرير”. فيفرق بين فكرة السرير- والذي يسميه السرير الحقيقي، والتي تمثل جوهر السرير ذاته، ثم السرير العادي الذي نعرفه، والذي يصنعه النجاراو العامل حسب المواصفات والاحتياجات الانسانية والمادية للسرير، وهو سرير معين محدد له مقاييسه الخاصة، وله وظيفة معينة في استعماله اليومي، ثم السرير الثالث، والذي هو مجرد صورة رسمها الفنان لهذا السرير المادي المعين والذي نستعمله للراحة وللنوم. ويقول بان الفنان لا يحتاج إلى أية معرفة خاصة من أي نوع تتعلق بالسرير، سواء كانت فنية أو تاريخية أو علمية. تكفي عدة خطوط والوان وظلال لتوحي بفكرة السرير. غير ان هذا السرير الثالث لا علاقة له بالسرير الحقيقي كفكرة، أو كمثال متعال، ولا بالسرير الثاني المحدد الذي خلقه الصانع أو الحرفي أو العامل، بل هو مجرد محاكاة لهذا السرير الثاني، مجرد صورة وهمية تعتمد على فكرة المحاكاة  Mimèsis للطبيعة. غير انها لا يمكن ان تصل إلى محاكاة حقيقية مهما حاول الفنان ان يبدع، ومهما كانت وسائله وامكانياته متقدمة. لذلك فإن هذا السرير ـ الفني – مجرد خدعة. والفنانون عموما مجرد كذابين على الجماهير. وإفلاطون يذهب ابعد من ذلك في سخريته من الفنانين الذين يريدون محاكاة الواقع، فيقول – بلسان سقراط – بانه ليس هناك داع لاستعمال الخطوط والالوان، إذ يكفي ان نمسك بمرآة ونوجهها حسب رغبتنا مقابل الاشياء التي نريد محاكاتها، وللتو تظهر في المرآة الاشجار والبيوت والاشخاص والوجوه التي نريدها أن تظهر لنا أو للمشاهد. وكل انسان يستطيع ان يفعل ذلك. فمحاكاة الطبيعة هي مجرد لعبة صبيانية لا نحتاج اليها. إفلاطون اذاً حكم حكما نهائيا بتفاهة الفن وعدم الحاجة إليه في مدينته الفاضلة، وكان نقده موجها بالذات إلى الشعراء اليونانيين في ذلك الوقت ـ هوميروس بالذات ـ والذي اراد طرده من مجتمعه المثالي لخطورته على الناس، لأنه يكذب عليهم، ويقدم لهم معلومات خاطئة. ونيتشه في كتابه عن ميلاد التراجيديا، يعتقد بأن افلاطون كان يحس بالغيرة من شعبية الشعراء التراجيديين الذين كان لهم جمهور واسع وثعبية وشهرة تتعدى بكثير جمهور المهتمين بالفلسفة. يرى أفلاطون أن الفن محاكاة للطبيعة فالمرجع الأول لكل الأشياء هو المثال، ووبذلك يكون العمل الفني بالنسبة لأفلاطون في المرتبة الثالثة من السلم أو النظام الأنطولوجي كما حدده، فأولا الفكرة أو المثال، ثم الأشياء المتعينة وأخيرا الإبداعات الفنية، فإن الفن بالنسبة لأفلاطون إذا وهم والجمال الفني ليس إلا شبحا للجمال الحقيقي الذي هو الجمال المثالي.

وإذا كان أفلاطون يعترض على الفن لارتباطه بالظاهر والوهم دون الحقيقة، فإنه يعترض عليه لجملة من أسباب أخلاقية أخرى، ضرورية لبناء المجتمع المثالي الذي يتصوره. فالفن و الشعر بصفة خاصة يؤثر تأثيرا سيئا في المجتمع ويغير الطبيعة الإنسانية بما يقدم لها من نماذج ضارة، فالشاعرن مهما كان صادقا، لا بد له من أن يفقد شخصيته في شخصيات الآخرين ويتأثر بأخلاقياتهم وتصرفاتهم بالضرورة، ولابد أن يكون قد اكتسب الشاعر التراجيدي شيئا من “الشر” الكامن في بعض شخصياته وأبطاله، إذا أراد أن يتحدث بلسان الأشرار ويحسن التعبير عن مواقفهم. أما السبب الثاني فهو أن الشعر يصور الآلهة بصورة غير لائقة وتحاكي صورة الإنسان الرديء، فالشعراء يصفون الآلهة بصفات لا يقبلها البشر أنفسهم ولما وجدوا فيها ما يشرفهم، إذ تظهر الآلهة غيورة، منتقمة، لاهية، ساخرة وعابثة بل خليعة ومخادعة وتميل إلى الكذب والمراوغة في كثير من الأحيان. أما أفلاطون فيريد أن تكون للآلهة أفضل صورة ممكنة ولاسيما في أذهان الأجيال الناشئة والشباب الذين ينبغي أن تضمن لهم الدولة المثلى أفضل تربية ممكنة. والسبب الثالث فيعود إلى عدم قدرة الشعر على تحقيق الهدف الذي ينشده إفلاطون، وهو تأسيس المدينة الفاضلة وسن القوانين الكفيلة بتحقيق التوازن والسعادة الاجتماعية، والفلسفة وحدها تستطيع تحقيق هذه المهمة. الفيلسوف – في نظر أفلاطون – هو المبدع الوحيد الذي يستطيع التفكير وخلق وإبداع أسس وقواعد صلبة تسمح ببناء مجتمع يسوده العدل والخير والحق والفضيلة، لأن الفيلسوف محب الحكمة، على إتصال مباشر بالحقيقة.

مقالات ذات علاقة

رقصنا مع «روجيه ميلا».. وحملنا مع «بيبيتو» ابنه

أحلام المهدي

الحاسي.. باحث عن وطن يخلد فيه الفن.. لا عن نرجسية التشكيلي

زكريا العنقودي

أسباب غياب الإنتاج الفكري في الحركة الثقافية الليبية

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق