المقالة

الحاسي.. باحث عن وطن يخلد فيه الفن.. لا عن نرجسية التشكيلي

فن البر وتريه الساخر فن قديم وعريق.. ولقد كانت لعلاقته بالصحافة زمن غياب الصورة الاثر الكبير في انتشاره بل وايجاد جمهور وذواقة له بل وصارت تقام للوحاته المزادات ويدفع لأجلها الكثير من الاموال وما يثبت هذا انه والى الأن لازالت العديد من الصحف العالمية والفرنسية خاصة تعتمده كمتن صحفي لها بدلا عن صورة ( الفوتغراف )  هذا الفن العالمي لم نجد له الا القليل  من الاثر في بلادنا ، وخاصة فترة السبعينات زمن استعانة صحافتنا بالمخرجين المصريين ، لكنه كان من الندرة بحيث لم يلاحظ وجوده حتى .. لم يكن  ثمة من امتهن هذه الحرفة كما فعل الفنان التشكيلي (محمود الحاسي ) بعد ذلك بعقود ، فعلها  بإخلاص بل باستمرار ومثابرة ودوام على الأقل الى الفترة التي احس بها انه انجز مشروعه واستكمل ملامحه ..

الفنان التشكيلي محمود الحاسي.
الصورة: الفيسبوك.

أول مرة التقي بلوحة (الحاسي ) كانت بمعرض مشترك وكانت مع الفنان (حسين الديهوم ) كان حينها يغوص في بحر التجريد وكانت المناسبة  بمهرجان لمئوية شاعرنا الكبير (ابراهيم الاسطى عمر) والتي أقيمت بدرنة.

وشارك الفنان ورفيق دربه رحمه الله أيضا بنفس التجربة  بدار الفنون بطرابلس ، لكن ومن خلال تتبعي لسيرة (الحاسي ) وجدت أن ( البروتريه )  ليس غريبا عنه فمنه كانت بداياته ، كان ينقش الوجوه الليبية بواقعية وبحرفية عالية.

( يلح علي سؤال الآن الم يمر على.. الحاسي..  سؤال أن يجعل تلك الوجوه تنطق ببعده الساخر حين ذاك)؟

أتجاوز سؤالي ، لأقول أن تلك الوجوه التي كان ينقشها كانت ليبية بامتياز لم تكن من (بَر) آخر بل هي وجوه من بنغازي تحديدا ، فصل فيها وفي ملامحها كثيرا جعلها صور تنطق بما أكد عليه من ملامح وليس بما أضاف  عليها ، أخذت الطفولة حيزا كبيرا من هذه (البروتريهات) لم يلبسها بدلة العيد ولا المواسم ولا بداية العام الدراسي بل قدمها كما هي كما يراها في أزقة وإحياء بنغازي بنظراتها القلقة للمستقبل بحيّرتها وبنظرها البعيد أكثر من اللازم وفرحها القصير اقصر من اللازم .

كان (الحاسي) يرسم حقيقة طفولتنا بتلك السنوات لذا ساد الحزن وان وجدنا فرح فهو لحينه (مؤقت ) لا تجد فرحة العمر في كل تلك الوجوه  ، كذلك كان في نقله الواقعي لرسوم الشيوخ واقعيا ولأبعد حدود فتراهم وكأنهم يعدون خسارتهم أكثر مما يحسبون انتصاراتهم ، والعجائز كذلك بل والرجال الأصحاء فبدلا أن تعتد اللوحة بفتوتهم فنجدها كشفتهم فهم مجرد وجوه لرجال لا أحلام لهم . .

أولا لن نناقش في قيمة الإعمال الفنية ، فانا هنا اسرد سيرة لوحة (الحاسي) وهذه حكاية ترويها العين ، لذا أنا لست إلا عين واحدة في عالم أوصلتنا فيه التقنية للبعد الرابع للأشكال ، ثم أن جميع التشكيليين اجمعوا على التقنية العالية والتي اوصلت (بروتريهات)  الحاسي الأولى تلك لقمة الجودة والامتياز ، وبما أننا في مقام السرد فتلك الأعمال  روت لنا بشفافية وصدق عبر تلك الوجوه مرارة تلك الأيام وقسوتها بكل وضوح وبدون إكسسوارات أو مكملات ، حكّت الوجوه وأجابت ابعد من أسئلتنا حتى.

بعد تلك المرجلة كانت مرحلة التجريد  بأعمال فناننا .. وتابعت شخصيا  بعض هذه الإعمال مباشرة واغلبها  كان بمعارض مشتركة مع الفنان حسين الديهوم  رخمه الله ، رغم أن النقلة كانت تختلف عما فات وبــ 180 درجة ألا أني وأظن أن الكل حينها من تشكيليين ومتابعين أيقنوا أن الحاسي يرسم ملامح للبحث عن الذات وانه يجهز للخطوة القادمة ، لكننا لم نمسك رأس الخيط فالإعمال كانت مميزة مما أبعدنا عن التفكير على أنها (كروكي ) ومخططات لعمل   سيأتي بعدها

( هل الحاسي نفسه كان يعلم هذا ما ننتظر إجابته عنه )

فاللوحات رغم بعدها في التجريد إلا أنها كانت تحوي في نسيجها من مكون هذا الوطن تاريخه وتراثه وماضيه الكثير ، كانت ليبيا واضحة العيان في العتمة والاستفهام الجميل  لذاك التجريد أو اعتقد أنه التجريب بمنطق اصدق .

وقد اثبت (الحاسي) أن نفسه قصير وان قلقه هو ما يقوده ، اختزال لهذا ذكرني الفنان ببيت المتنبي.

( على قلق كان الريح تحتي أوجهها جنوبا او شمالا )

فعاد ألينا الحاسي  سريعا  هذه المرة ليعرض لنا  منحوتات خشبية ( يشوبها المعدن أحيانا كثيرة ) أو مجسمات بدقة اكبر ألا أن الأولى تستدعينا نحو الضخامة في العمل إلا أن مجسمات (الحاسي ) الخشبية كانت عكس ذلك  فهي مجموعه من المجسمات الخشبية  ( اغلبها  أشبه بمستطيلات ) كانت وكأنها أيقونات  موغرة في القدم، ليس لزمن النقوش الأولى لليبيين وهم ينقشون على الصخر أول رسوم العالم على جبال تاسيلي واكاكوس إذ أنها تاريخيا اقتربت إلينا أكثر فقد أخذت شكل منحوتات ما بعد النقش الصخري ، إنها اقرب زمنيا  ألينا بل أنها تحكي عن أخر ما وصلنا من تاريخنا، والذي أخره ربما يكون وشم في وجه احد جدتنا  إلى أخر ما وصلنا منها ( وأسعفنا الحظ كي نراه قبل أن ينقرض ) من  وشم الليبيات الأصيلات ( أو ما يحاكيه ) نقوش الحنَّاء أيضا ومن مصوغاتهم وحليهم ( مسداهم وكليمهم ) ما يتبركون به بمداخل بيوتهم (خميسات وحويتات ) وما يفرشونه بداخلها وحين عاد بنا تاريخيا ابعد  دخل بنا لبعد مهم بمجرتنا التشكيلية الليبية ( البعد المغيب بل) وهو نقوش الامازيغ فتجد مثلثاهم وإشكالهم  وأيقوناتهم  التي يحاكون بها ( تانيت ) رمز حريتهم واستقرارهم ومواسم حصادهم ، زد على كل هذا ما يضيفه (الحاسي) من رؤيا خاصة حول موضوع العمل ككل ،حتى نراها في طورها الأول وقد اتخذت في أبعادها (كشكل ) أطوارا وإشكالا هندسية صغيرة الحجم لا يتجاوز أكبرها حجم ( المسطرة الكبير ) في حين أصغرها قطع خشب بالكاد ترتاح في اليد ( وأين ؟) في  قماشات من خشب .

( يا الهي .. في صغر هذه المسافات كيف وجد الحاسي  أمكنة ليضع وطن بكامله)

لكنه كان يكمل اللوحة في طورها الأخير بتركيب تلك الإعمال وتصفيفها ( كما لعبة الفك والتركيب  ) لكنها تركب لمرة واحدة وكان كل قطعه منها هي بداية لحكاية القطعة التي تصطف جنبها وهكذا دواليك تتجسد كل تلك  المنحوتات في أشكال كاملة متناغمة جوقات موسيقية أن غاب  عنها  العازف ضاع اللحن  ، هنا وجدنا الإجابة عن المرحلة السابقة وسؤالها عما كان يبحث (الحاسي ) في كل ذاك التجريد ؟ نعم وجدنا الإجابة كان (الحاسي ) يبحث عن وطن وفي كل تلك المجسمات وضع هويتنا الضائعة .

ترجل المتنبي عن حصانه لكن (الحاسي ) لم يترجل فقد مر بمرحلة الاحداث في 2011 ككل الليبيين وفقد فيها وإلى يومنا هذا  ابنه ( نور الدين ) والذي لازال ينتظر عودته كل يوم كي يقر عين أبيه الذي عاش عمره وهو يقر أعييننا بجميل إبداعاته .

لم يترجل الحاسي لكنه لم يترك القلق يقوده وعاد إلى مرسمه القديم ، بل عاد إلى المراحل الأولى من تجربته  إلى ( البروتريه ) لكنه نظر أليه ساخرا هذه المرة نفض كل رماد الألم وبإسهاب شديد قرر إن يعود إلى الوجوه  ليرسمها ، ، عاد ( للبروتريه ) الساخر الفن الذي لم يرسو له جذور ثابتة ومستقرة في ليبيا ، ليجعله  الحاسي واقعا مستساغا ، ووحده وضع الأساسات ورفع الجدران  وأكمل المعمار …وها نحن كلنا نقف مأخوذين بالدهشة نتابعه ونشاهده .

. نعم مندهشا كان الجمع التشكيلي وهو يتابعه .. لكننا التفتنا بقوة وتابعنا كل ما ينتجه (الحاسي ) وبسرعة وبإتقان رهيب، مرورا بقلم الرصاص إلى القماشة والألوان والفرشاة إلى المحاكاة بالكمبيوتر ليكون من ضمن أدوات الشغل ومكملاته كأي فنان يرسم في الألفية الثالثة .. متعددة الوجوه التي اطل بها علينا ولا متناهية ساخرة جدا وخالية من أي تهكم لكن من وجنتيها تضخ الحياة .

(الحاسي) خاض كل مراحل التشكيل وأرَّخ لليبيا بطريقته بحث عن الوطن فوجده ..عن الهوية الضائعة فوثق خارطتها وترك الوجوه الكالحة خلفه، وبعد ان وجد ذاته التشكيلية وبتلك المرحلة بالذات رأيناه وهو  يبتسم لليبيا ولليبيين من خلال وجوههم .فشكرا (محمود الحاسي ) فنحن محظوظون لوجودك بيننا . .

______________

نشر بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.

مقالات ذات علاقة

وقفات مع عدل النبي صلى الله عليه وسلم

زهرة سليمان أوشن

أزمة لـبـنان إلى أيـن؟

بشير الأصيبعي

حدائق التاريخ ومزابله

سالم العوكلي

اترك تعليق