توحي رواية (زمن الاخ القائد) للكاتب فرج العشة لنموذج اخر، من نماذج ما يمكن أن نسميه (أدب المنفى)، وهي تتماهي مع أزمان عدة تتجاور خطوطها في اتجاه تشخيص مرحلة ليبيا المجتمع والدولة، قبل وبعد منعطف 1969، في اسلوب يجمع بين تقنيتي الراوي والزمن المسترجع مثل (كنت وحدك)، (كنت صغيرا)، (كنت جالسا)، هكذا كان البطل في قبضة الراوي، وفي النهاية وجدت الذاكرة نفسها قادرة على صياغة متروية، حبلى بالتفاصيل، بعد تحررها في فضاء الغرب الالماني.
ولكن كيف يمكن لهذه الرؤيا أن يتبلور قالبها بعيدا عن سطوة الراوي، واقتحامه المستمر لعالم البطل الذي لا نعرف له أسما، ولا مجال للخروج من تأثيره، فهو ينام ويصحو، يصرخ ويجادل، يبكي ويضحك، كل ذلك بحس الراوي، الراوي الذي اغتال البطل.
الا أن هذا الاستسلام لا يدوم في تجاذبات التفاعل الانساني، حيث للذات أوضاعها المتمردة، وقد تمكنت سلمى رفيقة البطل من تحقيق شرط من شروط المرادفة لصالح حبيبها أمام الراوي، اذ مثلت كيانه الغائب الذي يسعى دائما لاستعادته من خلالها، حتى وهو يغيب عن عالم الوجود بطعنة الشايزا الليبي بألمانيا، حيث كانت سلمى اخر ما تبقى من الصور، يقول النص:( ها هي السيدة البيضاء عند السفح، تلتقط لك الصورة الاخيرة، وانت تلهج باسم سلمى يغرغر في حلقك المغرورق بالدم في النزع الاخير) ص278.
تبني الرواية على صيغة السؤال عن الهوية المتأرجحة بين الحضور والغياب، وكيف يمكنها التخلص من التهميش المركب، الاول في عالم القذافي والثاني في عالم المنفى حتى وهو يمثل بوابة الخلاص، بذا تم الاتجاه رأسا الى تحديد خطوط المواجهة (من أين والى أين والى متى) ص11، اصبحت الحاجة ملحة لمراجعة حدود المواجهة بين ضرورة الفعل من عدمه وبين المعطيات وما تستوجبه حالة الوعي، الامر الذي ترتب عليه في كل مرة السؤال لماذا؟ بشكل مباشر او ايحائي، وخلق تباينات في ردود الافعال بين البطل وسلمى عندما رأت فيه اصرار ه على الرحيل.
تقول لك (قدرنا سخيف) تقول لها (لا مفر الا نقلع عن هذه البلاد الكريهة بأسرع ما يمكن قبل أن ندمن القبوع في واقعها اليباب.. لا تحاولي معي.. ما لذي لايزال يمكن أن يربطنا بهذه البلاد) ص107.
ذات السؤال تحول الى مقارنة أو مكاشفة بين شخص البطل كهوية وافدة وبين عالم الغرب بعد الهروب الكبير، بين المنفى في امنية المهاجر وبين تجسده واقعا حيث (لا مجال للحوار السوي الا ما بعد الخير والشر برعاية نيتشه في قلعة كافكا.. انه أيضا الغرب الذي انتهك نسق سرد جدتك للحكاية الهلالية) ص137.
سنرى السعي باستمرار لاستحضار صورة الشرق الذهبي في الغرب الاوروبي المتسربة عبر الاماني الذائبة في هاجس العبور للآخر، فهي بمثابة نقاط دالة، حيث سيقرأ كتاب (الاشارات الالهية ) للتوحيدي، وفي مرحلة أخرى سيبدو ايجاد العلاقة ممكنا مع توافر التوازنات المطلوبة، ففي علاقته مع صديقته الالمانية (مارتا ) سيكتشف في مكتبتها رواية موسم الرحلة الى الشمال للطيب صالح فهل كانت هي الاخرى متشوقة لرؤية الاخر الشرقي.
ربما كانت الرغبة موجودة لدى الاثنان للذهاب أبعد من ذلك، في ايجاد الرابط الخفي بين الشرق والغرب، من خلال ذهابهما الى (قصر الحمراء) حيث زفرة المغربي الاخير، المكان الذي تلتقي فيه ذاكرتهما، فهو حفيد صاحب الزفرة وهي حفيدة شاهد السقوط، وقد يستدعي البطل المشهد المتواري خلف ستار ذاكرة التاريخ، صورة عبد الله الصغير حاكم غرناطة في زفرته عند التلة الشهيرة وكأنما يلتمس مبررا لها بقوله (لابد أنه وصل الى الهضبة مجهدا) وترد مارتا (لم تكن زفرة صعود وانما زفرة سقوط) ص261.
الرواية في بنيتها العامة تجسد صراع المثقف مع السلطة، اذ أضحى الشكل الايقوني الذي يجب أن نراه، فهو يجسد ملمحها الابرز، ولأن التدافع بينهما موجودا بقوة، فان اثاره تركت بصماتها واضحة في مواقف الشخوص المتباينة بين خياري المواجهة والحياد، ففي حين نرى غيث رفيق البطل يواجه العقيد (معمر القذافي) بالقول (لماذا لا تنزل الى الواقع، لقد انقرضت خرافة فرعون الرب الاعلى) ص169، يكتفي الراوي (البطل) بالصمت، وفي حين تقرر سلمى تعرية القمع المركب وهو قمع المثقف للمثقف بالقول (اسمحوا لي أن أقول اننا نضيع بلا أثر، احببنا ام كرهنا و ان خيانتنا لأنفسنا لن يقتفيها أحد) نرى حمدان الذي كان يحتقر عمله في الوكالة يبقى في عمله لأنه بحاجة للنقود ليعيل اسرته، وفي النهاية فان البطل وسلمى وحمدان هم يمثلون حالة المثقف المأزوم العاجز عن الفعل فاستحقوا لقب (مثقفوا لا ضرر ولا ضرار ).
السرد في الرواية جاء مازجا بين الاسلوب الحكائي والوصف الشعري وهو ما اعطى ظلالا رومانسية على النجع والقرية والمدينة، وجعل الواقعية في الرواية تستجيب للسرد الشاعري دون مبالغة، وابعدها من مأزق الواقعية الفضة كما يسميها سارتر، اضافة للزمن الذي كان جاهزا لخدمة الشكل السردي المتصور، منساقا مع ضرورات الحدث واشتراطاته الفنية.