كان مرمياً بقربي حين التقطت ديوان “مكابدات” للشاعر جيلاني طريبشان وفتحته على الصفحة 98 – هكذا عشوائياً -، وهي الصفحة التي تحتوي على قصيدة ” العبور الأخير ” وبما يشبه الفتور بدأت قراءتها غير أن الفتور واللامبالاة سرعان ما تحولا إلى اهتمام وانتباه وترقب وأنا أتقدم في شعاب القصيدة، حيثُ طفى سؤال على سطح تفكيري وبطريقة مباشرة – ليس سؤال بالمعنى الحرفي وإنما هي دهشة وتعجب – ذلك أن القصيدة التي قيلت منذ عقود وانتقل صاحبها إلى رحمة الله تعالى أيضا منذ عقود – كأنها قيلت اليوم وكأن قائلها يعيش بيننا ويتابع ما نتابعه من أحداث مؤلمة يتعرض لها الوطن ويتفاعل معها كما نتفاعل نحن الآن، وكأن الشاعر يفكر مثله مثل غيره في ظل التشرذم والفرقة والضياع اللذان تعاني منهما البلاد يفكر جدياً في النجاة بنفسه وبشعره والذهاب قصياً حيثُ لا حروب وحيث السماوات لم تعبرها قذيفة منذ عشرات العقود، إلى الضفة الأخرى حيث السلام حقيقة راسخة ومتجسدة، وكأن الشاعر إذ يرى ما يرى من أهوال ببلاده ويعيش الألم كل حين يفكر في الهروب من الوطن الذي أضحى قطعة من الجحيم، رغم ما في الابتعاد أيضاً من ألم ومن وجع، وكأن الشاعر وهو يصوغ وجعه شعراً يتخذ قرارا بالهجرة لا عودة فيه.
ومع أن الشعر هو أبن شرعي للخيال والمجاز غير أنه يخضع لضرورات الواقع والمنطق ولا تستوي القصيدة إلا بهما في نهاية الأمر – أي أن القصيدة هي خليط من الحقيقة والخيال والوهم والمحسوس.
وتكسر القصيدة هذه القاعدة حين تأتي في شكل إلهام وإملاء من قوى لا مرئية وغير منظورة ومن جهات غير محسوبة ولا متعينة – ألم ينسب العرب الشعر إلى الشياطين – لتقول المستقبل والذي لم يأتي بعد، فمن أين للشاعر أن يعلم بأن ليبيا بعد سنوات غير بعيدة ستصير مرتعا للإرهاب وميداناً لصراع دولي وإقليمي ومحل لأطماع الكل داخليا وخارجيا وبؤرة من بؤر التوتر في العالم ومن اسوأ الأماكن التي من الممكن أن يعيش فيها الإنسان، حيث الموت أقرب إليه من حبل الوريد فعلا لا مجازا وحيث الإبعاد والتهجير قسراً مجرد قرار قد يتخذه معتوه طفحت به أزمنة العطب وجعلت منه صاحب سلطة وكلمة مسموع ومطاعة وقرار إعلان الحرب أسهل من قرار القيام بنزهة مسائية راجلة ، كيف للشاعر أن يعرف إن لم يكن ذو حدس أن الوطن سيحترق .
ولربما قصد الشاعر بقصيدته عبور المسلمين إلى الأندلس كما تبين بعض جُملها ولكن، بشكل من الأشكال لا بد من أن تطابق حالتنا الراهنة في ليبيا ولا ننسى أن الشاعر ليبي حتى النخاع.
دعونا لا نطيل الكلام ولنذهب مباشرة إلى القصيدة ولنقرأها معاً في ضوء ما سبق من كلام حيث الشاعر قال كلمته وأطلق نبوءته قبل أن يرحل ولو كنا نعقل لأدركنا ما قاله الشاعر في حينه لا بعد عشرات السنين حيث لا فرصة لتدارك الأمر وما وقع قد وقع ولا مفر من دفع الثمن الباهظ، رحل الشاعر قبل أن يترك صوته في المدى يردد: –
بين أن تعبر أو
تلتفت
جبل من رماد
غابة من عظام الذين
مضوا في الهزيع
الأخير
عبروا خشب المقصلة
ومضوا تاركين العيون
التي لا تنام
العيون التي ستظل
تحدق في القتلة
العيون التي ستظل
شواهد على عصر المجانين
والسفلة
بين أن تعبر البحر، أو
تلتفت
مدن وقرى، وشوارع
واجمة، خائفة
بيوت الذين تعرفهم
واحدا.. واحدا، واحدا
تعرف أطفالهم
وتواريخ ميلادهم
ومتى يذهبون حفاة
إلى المدرسة
بين أن تعبر البحر، أو
تلتفت
يسائلك الموج والريح
يسائلك الشجر الواقف
منتبهاً في أعالي
الطريق
تسألك المرأة
المستريبة إلى أين
تمضي؟
وترنوا بعيداً تحدق
ساهمة وجلة
ليت سيدة الليل تدري
بأن الغريب الذي
يشتهي في المساء
عبور المضيق
بأن الغريب الذي وجهه
راية ويداه حريق
ليت سيدة الليل تدري
لماذا يظل يحدق في
الصخر؟
لماذا يظل يحدق في
سفن لا تجيء؟
يحدق في أوجه العابرين
ليت سيدة الليل تدري
أن أجداده عبروا
المضيق مرتين
من ثنايا المضيق
وأقاموا جنان العريف
نقشوا في الرخام
تعاويذهم ومضوا
واجمين
ليت سيدة الليل
غير أن الغريب يظل
وحيدا يحدق في
الرمل منفعلاً لا يفيق
بين أن تعبر البحر.. أو
تلتفت
وطن يحترق
فإلى أين
تمضي بك الطرقات؟؟
وحتى تكتمل المعزوفة الشجية التي بلغت ذروتها الدرامية والتنفعالية مع جُملة “وطن يحترق” في تصوري حتى تكتمل القطعة الجنائزية التي ألّفها الشاعر جيلاني طريبشان في قصيدته هذه حبَّذا لو تم تخيلها – من قِبل المتلقي – مُلقاة بصوت الشاعر المحمل بطاقة هائلة من الحزن النبيل الشفيف والترفع عن الشكوى ومغالبة الانين المكتوم، صوت الشاعر المتدفق من بين أشواك الوجع والألم والمكابدة، وكل من استمع للشاعر وهو يلقي شعره على الأسماع ذات أمسية يدرك تماماً ما أقول، فلا يليق بشعر يقول الفجيعة على أحسن وجه ويجسد الأسى الإنساني في اوضح صِوره أن يلقيه صوت لم تصقله الحياة بمفاجآتها الصادمة وضرباتها المخبأة في ثنايا الغيب، لا يليق بشعر جيلاني طريبشان إلا صوت جيلاني طريبشان .
ويُذكر أن ديوان مكابدات التي وردت به قصيدتنا ” العبور الأخير “صدر سنة 2019 بعد مجهودات كبيرة قامت بها الشاعرة حواء القمودي في لملمة لقصائد الشاعر من المتون المختلفة ومراجعتها وترتيبها وتنظيمها وطباعتها حتى تكللت هذه المجهودات بصدور الديوان عن دار الأدهم المصرية .
*****
ناصر سالم المقرحي
8 / 12 / 2019