لِمَ تفعلين بي ذلك؟! باغتني بسؤاله وهو يحاصرني في رُكني القصيّ بالمقهى الذي اعتدتُ أن أخلوَ إليه للكتابة كلما ضجرتُ من الضجر، كأني رأيته من قبل، قوامه الرياضي، ونظرته الجريئة، وشعره الأسود المسترسل خلفه غطّى عنقه كما الفنانين التشكيليين، صرتُ أعصرُ ذهني لأتذكر أين التقيتُه، ثبّتَ ابهامه أسفل ذقنه، فيما باشرتْ سبّابته مهمة النقر عليه استعجالا لإجابتي، جال المقهى الهادئ بنظرة سريعة، واضعا كفّه على الطاولة بهدوء، محاولا كبت غضبه، وانحنى صوبي، وكرر بصوت خفيض وممطوط وهو يعضّ على أسنانه: (لِمَ تفعلينَ بي ذلك؟ مَن أعطاكِ الحق في اتهامي بالتخلي عن “مريم” بعد أن اُتهمتْ بالجنون، ورماها زوجها بالمصحة العقلية! ألا تشعرين بمعاناة الناس أيتها الفضولية! ألا تعلمين إنها محبوبتي التي حرمتِني إياها بألاعيب خيالك!؟)
نعم، نعم، نعم عرفتك، يا للهول! اهدأ رجاء، هذا أنت سيد “عامر”؟! تفضل اجلس. حينها كان النادل يرمقنا في ريبة، بينما أتساءلُ في نفسي: تُرى؟ كيف خرج بطل روايتي “النص الناقص”! وهل يخرج شخوص الروايات؟ فاجأني: نعم. لأننا حقيقيون، ونستطيع الوصول اليك وإلى اسئلتك التي تضمرين، قتلتِ “مريم” مؤبدا في مصحة عقلية، ونزعتِ عني إنسانيتي بوصفك لي بالمهزوز العاطفي الذي لا يستقر مع امرأة. وكأنني دُمية تشكلينني على مزاجك! تسيئين فهم الحب لأنك ما خبرتِ الحبَّ يوما، أنت دفينة شكّك الذي يحرمكِ حتى من الاعتراف به! جرّبي أن تكوني “مريم” لليلة واحدة، “مريم” التي تبتسم وتبكي معي مشاعرٓ دون أن تعي السبب، “مريم” لا تعي إلا إنها أرضٌ، وغيرها أضغاثُ نساء، ليس بائسا أكثر منك يا سيدتي، أيتها الجاهلة المدّعية معرفة كل شيء.
صدمني! كيف أقنعه إني لم أقتلها، هل تأكدّ إنها داخل التابوت، وهو الجبان الذي صلّى عليها خلف الجميع! لا أظنها ماتت فالأبطال لا يموتون، ربما هجرَتْه وهو اللاهث وراء النساء، وصورهن الوهمية، مبررا ذلك بالبحث فيهن عنها، ولم يبحث يوما عن انقاذها من حبّة مخدر المجانين، هو لا يستحقها تلك الرضيّة التي أرادته سندا وكتمتْ حبّه منذ استحلّت لغيره، تلك المهووسة باكتمال “النص الناقص”، ولوحة “تاسيلي”، ومسرح البراميل في مدرسة عائشة، ورغم هذا حاولتُ أن أقرّبه منها، وحقّقتُ له معها حُبا ولقاءً، حتى لا يُجَن هو الآخر كما توهّمتُ. هذا الذي يعيش كل ليلة قصة جديدة.
اخْترقَني: احترمي نفسك يا أستاذة، أتمُنّين عليّ بما ابتليتني به! أبعدَ فقدِها تتلصصينَ عليّ وعلى لحظات سعادة قلتِ بنفسك إنها مع أوهام، ستفقدينني صوابي! أين أنفُكِ عندما اختفى بحث “مريم” من رفوف الجامعة؟ أين احساسك وفراشي كان إرضاءً لأمي، وصلاتي لإمام جامعنا، وحياتي رهن محشّش، وابتسامتي رشوة، وحينا قيد نزوح ؟! أين عدستك لمْ تتابع خجل ابني وعقدته من بلل يتسرّب رُعبا، ولمْ تنقل موتَ ذراع جدّته الأيمن الذي كان يضمّه إثر جلطة فزع!
تجلسين في كافي خمس نجوم، تتأملين البحر، وتدّعين هموم البؤساء بقلم جفَاف وأسلوب عقيم، تجهلينَ إنّ البؤساءَ لا يأبهون لخيال الكُتّاب، تجهلين أن خيالهم محضُ سقف، وعمود إنارة. ولكن لا أكتمكِ تقاسمينها أمرا!
استجمعتُ شجاعتي وصرختُ فيه بأعلى صوتي: لماذا لا يقتحمني سوى المرضى والتعساء؟! اخرجوا من حياتي أيها المُعاقون. وبدكّة قوية من قبضتي تزلزلت الطاولة، تساقطتْ إثرها كؤوس العصير الذي تناثر على قميص زوجي الجالس قبالتي، فقتُ على استهجانه معاتبا:
لماذا؟ لماذا تفعلين بي ذلك في كل مرة أخرج بك فيها لترتاحي؟!
ومعتذرا للنادل الذي هَرعَ بفوطته مرتعبا: لا عليك يا بنيّ، إنها تُعَاني إعاقة.
نوفمبر 2019