يبقى للأدب الروائي مذاق وطعم لا يهجس به، الا عشاق قراءته المهووسون بكل ما يخلب الذات الشغوفة بالمعرفة الجمالية، ورواية “حين فقدنا الرضا” للأديب العالمي “جون شتاينباك” لا تأخذ فقط عقل القارئ وفكره بأسئلتها الأزلية المحبوكة عبر فسيسفاء رواية مبدعة ثرية بالمعاني الإنسانية التي تزرعها في ذهن قارئها فقط بل تفتح أمامه مغارة المعرفة بتحولات وتقلبات النفس البشرية
الروائي الأمريكي “جون شتاينبك” الحائز على جائزة نوبل للأدب في عام 1962 له كثير من الروايات العالمية التي شكلت بصمة قوية في تاريخ الأدب الروائي العالمي ومن رواياته المشهورة والمعروفة التي ترجمت للغة العربية روايات” عناقيد الغضب” و”العاقر” ” مراعى السماء ” ” وشارع السردين المعلب”
رواية “حين فقدنا الرضا” تطرح السؤال العريض الكبير عن اللهاث نحو الثروة المالية بكافة الطرق والوسائل، وهو اللهاث البشرى المحموم منذ بداية البشرية إلى أوائل الألفية الجديدة التي يعتقد الكثيرون بأنها ألفية التقدم الإنساني عبر كل المنتجات الصناعية والتقنية ووسائل الراحة المترفة التي هي ليست بالضرورة عنوان للخير الإنساني بل ربما تحمل في داخلها بذور الشر المنطلق من معقله منذ الجريمة الأولى لقابيل
الرواية تطرح سؤال المال في حياة الأنسان المال كقوة وكسلطة يسعى اليها كل البشر في سباق محموم لمزيد من الراحة والنفوذ والقوة والمتعة وملذات الحياة فكم على الأنسان أن يتخلى عن إنسانيته ويقتل الخير الفطري بداخله، ويحذف انسانيته بعيدا من قاموس حياته ويدوس فى طريقه الأخرين من أجل الوصول لقوة وسطوة المال
هذا ما ترصده رواية ” حين فقدنا الرضا” للروائي الأمريكي “جون شتاينبك” التي تدور أحداثها حول الموظف المخلص الوفي لزوجته وبيته وطفليه و الذى يقع تحت وطأة النزاع النفسي العميق حين يعجز عن الإيفاء بمتطلبات زوجته المتطلبة المهووسة بتقليد وملاحقة اصحاب الجاه والمال ، بينما زوجها الموظف في حانوت بسيط غير قادر على تلبية كل طلباتها ولكن اصرارها الشديد عليه يجعله يفكر في طريقة للحصول على المال ويجهز خطته للسرقة من مصرف البلدة الصغيرة التي يعيش فيها بطريقة لا يكتشفه بها أحد مبررا فعلته بالقول ” أن هذه الجريمة لن يكون ضحيتها أشخاص ولكن ضحيتها هو المال ، ويرسم الكاتب بفنية مذهلة خطوات بطل الرواية في سيره نحو تحقيق هدفه دون أن تشعر زوجته بما أختمر في ذهنه والذى بدأ يظهر في ارتباكه ولكن لأنها لا تهتم سوى بتطلعاتها لم تستطع قراءة بداية سقوطه من نظرات عيونه المرتبكة الواجفة بل كانت تستفزه بكلماتها اللاذعة حين تقول له” أنى لأتساءل اذا كنت ستصبح رجل أعمال قط أنك شديد الحساسية”، لم تكن تدرك بأنه يخطط بهدوء لأن يصبح أثرى رجل أعمال في البلدة ولكن بطريقته الخاصة جدا فيعدل عن فكرة سرقة المصرف، ويقوم عوضا عن ذللك بالقيام بالوشاية بصاحب العمل ليحل محله ثم يغدر بصديق طفولته تحت غطاء مساعدته له و يستولى على أرضه الكبيرة وبخطوتين يحقق حلم الوصول للمال وتهبط الثروة التي يسعى اليها بسلاسة بين يديه ، ولكن ثمة شيء في داخله يشعره بوضاعة النفس وتأنيب الضمير لأنه وشى برئيسه وغدر بصديقه ويفتقد احساسه بالنبل الذى كان يعمر روحه ، او كما تقول إحدى شخصيات الرواية “أن بعض من أنبل النبلاء ليسوا سوى حشرات زاحفة ” لأنه ليس بالضرورة أن تقترن الثروة بالنبل كما أن ” المال لا قلب له”
الرواية تجسد بتفاصيلها صورة لانعدام رضا إنسان هذا العصر فبطل شتاينبك هو صورة لإنسان هذا العصر الذي يلهث في سباق محموم للحصول على المال الوفير بطرق قد تكون في بعض الأحيان غير انسانية، ودون تفكير في الأخرين الذين قد يدوسهم فى طريقه فبطل رواية شتاينبك كسب المال ولكنه خسر نفسه وفقد رضاءه عنها، تطرح الرواية لفكرة قوة المال كمطمع أنساني يتحقق عبره الأحساس بالسلطة والقوة وتحوله الى غاية في حد ذاته مستعد الباحث عنه ان يوقع _كما فعل فاوست _عقدا مع الشيطان للوصول اليه حتى لوخسر نفسه وفقد رضاه عنها
الجميل في رواية شتاينباك هو حركة الضمير الذي يتأرجح بين الوخز والرضا احيانا وهذه التيمة القوية حول الضمير الإنساني أبدع الروائيين الكبار في تعريتها وجعلها محور العمل المسرحي اوالروائى مثل مسرحيات ” هاملت و”ماكبث” لشكسبير ورواية دستوفسكى ” الجريمة والعقاب” التي كان العقاب الحقيقي فيها للشخصية القاتلة هو تأنيب الضمير الموجع وليس عقوبة السجن في ذاته ورواية “البعث” للروائي ليو تولستوي فلقد كان الأدب الكلاسيكي يعتمد على رسم ملامح الشخصية والحوار وتحليل الأحداث والوصف والسرد التقليدي و يظهر البطل وهو يصارع ضميره حين كان البشر في حقب القرون الماضية لازال في داخلهم ضمير ينازعهم عند ارتكاب الأذى تجاه الأخرين، ولكن روائيين الرواية الحديثة ادركوا واقع الحياة في عالمنا بعد حربين عالميتين قتلت كثير من القيم الإنسانية داخل البشر وأصبح الضمير الإنساني وكأنه يعيش أخر لحظات احتضاره ولتتحول كثير من الشخصيات الإنسانية الى أشباه أمساخ كمسخ “كافكا ” ، وتضمحل الشخصيات التي تحمل في- داخلها الخير والحب والجمال نتيجة تغول العصر المادي الاستهلاكي وتسيد زمن الطمع والزي ولتغدو الشخصيات التي تحمل في داخلها ضمير حي يؤنبها حين تؤذى الأخرين لمجرد شخصيات من ورق لاوجود لها في ارض الواقع الحقيقي.