شعوب الجبوري – العراق
أما بالنسبة إلى السؤال المتعلق؛ كيف إن تم فصل الابداع عن سياقه الأصلي؟ فيمكننا أن نراه في جميع هذه الحالات، هناك تأكيد وطموح مستمر في فصل شيء ما عن نطفته الأصلية، لتغدو جزءا مما تقدمه، تـدعي اختبار المقدمة دون توغل عمق المحتوى، طموحة لتشرح أو تدعي التفسير والتأويل، وهي التعليق والتقويل، ووضعه في حالة يكون فيها منفردا، حاملا لشروع في ذاته.
إذ إن كل ابتكار لشرح أو تأويل فيه إنما يعد إمكان شروع في دخول حقل ابداع مختلف، ملزم أن يكون موازيا نفعه أو محاكيا ريادته للمعنى الأصلي. وذلك هو أصل اختبار موقع الهامش لجوهر فنون الحكم الفصل بين المؤكد وغير المؤكد، او، ادعاه عليه عن التباين والعيان للأشياء عن صياغنه كلمات المعانى عندما يتم الفصل من سياقه الاصلي الذي نبت فيه وأفهم فيه وكتب عنه لما عليه وله، اي، الإصابة في امكان الافعال والاقتدار على حسن حمل الكلام السديد بتطابق أداء معانيه عن مفتراه في القول المجزؤ.
إنها مؤخلقات المعنى، أو، هي أسر الهامش في فتح خواص بذاته، وترويض ما هو منهمك حقا بتركيز مولد جديده في قراءة المعطى الإمكاني، لتأثيرات طائشة، حمقى، لا يمكن أن تصبح قابلة للوعي إلا من خلال وثيقة سياق لفظي أو بصري تتوجه إلى ذاته، تميز بخاطب انفعال داخله، وأن يكون اقتداره في الوقت ذاته ساعيا ـ ذاته ـ تهاذر الطرف الأخر الذي تم بناء مناقبه على أساس التعارض معه دائما، والغلبة عليه ابدا.
فلن يكون التهاذر توصيفات مروية، اللهم، إلا إذا كان تمكن سعيه على استشعار “تشييد منظومة” داخله. ولن تكون خامة البناء دالة، اللهم، إلا إذا اتخذت تصميما ما، أي أصبحت منبت صفة ناظرة التشكيل بالأشياء، لا تتقاذفها العاب “الهوى”، تثبت، ساعية بأن يكون لا علاقة بينها وبين السياق الأصلي لعناصرها. وبذلك لن تكون سمات خفاياها شيئا آخر غير نمط تشييدها، أي قراءة صورتها الفنية الملفتة لغرض الاستقطاب.
من هذا التصور، الكاشف، ننظر إلى الابداع بأعتباره شبكة متشابكة من العلاقات التي تنظم ولادات فيما بينها إعتمادا على وثيقة حيوية خاصة بها، يعد الإمكان عليها سعيا رئيسيا لتحديد بنية أخلقة “المعنى” أو تشكيل المعاني التي تحيل استيقاظ الابداع إليه/ا. أنه ـ المعنى ـ منظومة دلالية، ميزته الرئيسية أنه ليس متتالية من سلوكيات مهذارة لا رابط بينها، بل تشييد قصدي نافع، ذلك أن السلوكيات، أو، الجمل مرتبطة بتمثلات معترفة في بؤرة القبلية الدلالية، أما “متكاسل” الإبداع حين يكون مضاف مفارق، ليس وفيا دائما لهذه القبلية.
وبذلك، فأنه لا يمكن أن يكون بنية نسقية محايثة، وإنما هو منظومة وظيفية ذو سمة تواصلية. إنه موجه بموجبه دائما، أما: إلى مقدمة وفرضية تفتح “هلالين خاصين بالقراءة”، أي قد يكون استهلالا مباشرا، كما هو في معطى عتبة السؤال، حيث يثبت تحركه جليا نحو المتلقي، وهو يتواصل بموجب نظام معرفي ضمني، ليشكل خلفية انبعاث التصور عنده لظاهرة، يحدد طرق التعقلن، والبرهنة الصريحة، بحيث يبدو صافيا، جليا أن مقياس معرفة الظاهرة ليس هي عينها، ولا بروزها المحض، وإنما هذا البروز وظهوره مؤلا بأسلوب وادوات مختلفة تتعاطى مع تناسبه، بالخطاب المعرفي الضمني الكامن وراء أنشطة التعقلية الموضوعية. وهنا ليس هو التأويل بالمعنى الذي تنقلته “التأويلية القبلية التقليدية” التي تعكس ما أطمسته هيكلية النظام الاخلاقي في استبطانه، بل نوع من تلك الافتراضات الاولية التي تسبق البحث ونتائج البحث. وقد يكون مؤجلا كما هي في كل الاختبارات العلمية أو معالم الفنون الأدبية إو النصوص الادبية، التي تعيد إلى الانبعاث مجددا، لغرض إمكان استمرارها لصالح نمو المعارف المجزؤة “المنفصلة والمكتسبة” من معاينة الوقائع.
وهذا شرط مركزي في التفاعل مع المعنى، يتلامح أساس وقوعه في الفعل والاقتدار هو إمكانية تحقيق بين أمرين؛ الحيز والنشاط، وتعقل الافعال المحايثة المتاحة. بكلمة أخرى، هو، مقدرة تسهيل الربط بين الإرادات في القدرة عليها والظفر بها في “منظومة المفاهيم/ مجمع القيم المضافة”، لا لغرض الانشقاق والانشطار، بل بحيث تتعاطى وقوعه بين شيئين لا يمكن أن يكون لأحدهما معنى دون الآخر، وإلا أصبحت خارج السياق، تزين إمكان الاقتدار بإطار تهذر فيها حمق القيم والافكار. تماما كما هو حال الفئات المجتمعية المعزولة في المجتمع، إنها بعيدة التفاعل، أما خاملة كسولة لا ننفع أي شيء، وإما مهذارة في التغافل والتكاسل لا تكل من الحكي، دالة ضارة فاشلة في ممارسة العناية المطلوبة تجاه فعل ما، دون أن تدعو إلى مهمة بعينها.
وقد يكون هذا التموضع هو الذي يدعوه البعض بـ”التناظر”، فهذا الأفهوم يحقق في مشاغله الفكرية، معينا، نحو بناء سياقا دلاليا مشتركا، متجليا يجمع بين كل مجزؤات مكونات فروعه ضمن سياق دلالي واحد.
بمعنى؛ أن الابداع محتواه مصان، في تصور البعض، تحت سيطرة التحديث الواعي، يتسم بمركز الحرص لا الإسراف والهذر، يستند تجليه إلى متابعة منظومة تصنيفات دلالية أولية تترابط وفقها منظومة من الدلالات الصغرى (= الاتمتة) أستنادا إلى منظومة دلالية مفترضة، هي السياق الداخلي للابداع. إن تمسك الابداع وانسجامه قائمان إلى هدفه في أشق الحالات، ولاستهداف فاعله في أعماقه، سيادة سياق المقاصد.
وهو ما يعتبر أن السياق، من زاوية التناظر، معطى مع المعنى بأعتبار حقيقة مجراه موجودة في المعنى بشكل سابق على التلقي. ومصدر هذا السبق هو في طبيعة الأشكال ذاتها في إسالها إليه عبر اللغة. ذلك أن “المؤتمتات” (=الوحدة الدلالية للمعاني الصغرى) ميالة إلى دفع حثها من خلفها على السير، في المساحات الابداعية الواسعة، إلى انتشار الابتكار الفوضوي مما يهدد سلامة الواقعة بالاحتضار، ويخل بدلالتها، لذلك كانت دائما حاجة التعاقب إلى إيجاد مستوى دلالي أعلى يتحكم في هذه (المؤتمتة) التي يقع فيها الحدث أو يساق فيها الأشياء من الظاهرات، ويضبط حركيتها ويحدد لها أشكال انتشاارها؛ وسيكون هذا المستوى هو سياق المحتوى الذي ينتقي هذا المعنى ويقصي أو يعطل العمل بآخر.
لذلك يعتبر تدخلها هنا، ضمانة على قراءة وحيدة للمعنى، لأن الوحدات البسيطة تبدو في المعنى غريبة عن مألوفتها التقليدية، وتسير في اتجاه الارتباط التلقائي مع خارطة معادلاتها غير المكتسبة على مستوى تحولها وتغييرها، مما يحدث نوعا من اختلال في أداء الوظائف والمهام الموكلة إلى قصديتها وافتقار إلى نظمها الدلالية، ومنظومة التقابل يمكن أن يجمع بينها بما يقود إلى رفع تماثل الغموض والالتباس، أي، يضبط دلالتها جعله اقتدار تصنيفي يستمد سماته مما يتحقق ضمن السياق المباشر للإبداع، لا استنادا إلى قبلية الاشياء البعيدة لمكونات الكلمات.
لكن، ماذا لو وضع هذا السياق فرض إسقاط لدى المتلقي، بفهمه جوهر الوحدات الدلالية محض نزعتها افتراضات لفظية تأويلية في استراتيجية عملية التناظر؟! (نعالج هذا الاستفهام، لاحقا)