طيوب عربية

عاطف الفرّاية: صوتُ العذوبة والتميز في الشعر الأردني

كتاب أنثى الفواكه الغامضة.

 

عند محاولة الاقتراب من نصوص الشاعر الأردني الراحل عاطف الفرّاية لابد من الرجوع إلى بواكير شعره المتسم ببوح إنساني دافق وعميق يصوغ هوية شاعر يعرف ماذا يقول، وقادر على تحديد هدفه وغايته بدقة للفت الانتباه وتوطين علاقة ايجابية مع المتلقي، لذلك نراه يخاطب صديقته ويعرّفها بأصله ومنبت جذوره حين يقدم نفسه في لوحة شعرية تجسد معنى الإنتماء للوطن بكل أبعاده الجغرافية ممثلة في الصحاري الرملية الشاسعة وبحار المياه المالحة وشرائحه الإنسانية الفقيرة المكابدة:

(أنا يا صديقةُ من طلْحِ هذي الصحارىَ

ومِنْ ملْحِ هذي البلاد

ومِنْ صمْتِ كُلِّ الجِياعْ)(1)

ولمزيد التعريف بكينونة هويته، وتوحد ذاته، وتميزها بتحديات ومكابدات معيشية عنوانها الضنك والمرارة، يسرد معاناته الحياتية مع التأكيد على ثبات موقفه ومبدأه الذي ارتضاه لنفسه، متحملاً كل تبعاته القاسية:

(كبرتُ على صمتِ هذي الصحارىَ

شربتُ عصارةَ حنظلِ أرضِ الحيارىَ

فافرز طعمُ المرارِ بحنجرتي لحنَها

وتوالت عليَّ الحناجر

لكنني… رغم هذا المرار

زجرتُ الحناجرَ عني

وصرتُ أُغنِّي

وما كنتُ صوتاً لغيري

وما كنتُ يوماً صدىً مستعارا….)(2)

وفي بوح آخر يسرد فيه شاعرنا الراحل شيئاً من معاناته والخيبات والخيانات التي أصابته سهامها المؤلمة، كاشفاً بعض التجارب المعيشية القاسية التي عاشها، وتراكمات عذاباتها المريرة التي عصفت به:

(أنا كلُّ شيءٍ … فقط

وما كنتُ يوماً سوايَ .. فقط

وما خانني قطُّ إلاّ الهواءُ

ودِفءُ القصيدةِ.. حتى أنا خُنْتَنِي

خانني الناسُ

والماءُ

والبحرُ

والريحُ

والأرضُ

والشجرُ المستريحُ على بابِ شعري ..فقط)(3)

إن صوتاً شعرياً ضاجاً بكل هذا التوهج والاعتزاز لابد أن ينال الكثير من الاهتمام داخل الأردن الشقيق وخارجها، فشاعرنا الراحل عاطف الفراية لا يبذر لغة نصه ليغرقها في الهامشي أو التفصيلي الممل، ولا يسرف في تأثيت الكيان الشكلي الفضفاض والمترهل لجسد وبنيان قصيدته، بل نجده قد تخلص مبكراً من الثرثرة الشعرية التي هي كثيراً ما تفكك وتشوه الصورة التعبيرية الجمالية للنص، وتشتت أنفاس المتلقي في التماهي مع أجواء القصيدة، فتفقدها عذوبة الدهشة والابهار، وانحاز بفطنة وذكاء إلى الصورة الشعرية المكثفة والمفردة الدقيقة المعبرة، وهذا المفهوم العميق والأسلوب اللغوي البليغ أجده يتلاقى مع نصوص شاعر الياسمين في ليبيا الأستاذ محمد المزوغي الذي يقول:

(والحرفُ إنْ لمْ يكنْ

كوْناً بأكملِّهِ

فليسَ إلاَّ سواداً

ضَمَّهُ الورقُ

قد يوجزُ الكرمُ في كأسٍ

ويمْـثُـلُ في قارورةِ العطرِ

روضٌ بالشذا عَـبِـقُ)(4)

إن أشعار الراحل عاطف الفرّاية هي خلاصة الخلاصة، يصدح بها صوت تعبيري يملك هويته وبصمته المميزة التي تبتعد كلياً عن الإغراق في بحار المفرادت اللغوية والمضامين الاستهلاكية المقولبة، لأن الشعر عنده ومضة ولمحة خاطفة، ودفقة مكثفة، مثل غيمة حبلى بالمطر تهزها البروق والرعود المدوية فتتهاطل قطرات الخير غزيرة من أحشائها، وسرعان ما تتحول إلى سيول عشق ومحبة تمنح أديم الأرض كل الخصب والجمال والاخضرار. ولاشك بأن هذا النمط الشعري فيه العديد من ملامح القصيدة الومضة المكثفة المكتنزة بكل معاني رسالتها الشعرية النبيلة.

ولعل هذا المنحى يقودنا إلى البحث عن مفهوم الشعر ورسالته لدى عاطف الفرّاية الذي نجده يتناوله في لقاء صحفي فيقول (لا يمكن لهذا الكائن الخرافي المسمى شعراً أن يكون بلا غاية ولا رسالة تتجاوز المتعة الجمالية الممتعة التي تشكل بحد ذاتها غاية أولى ولكنها ليست نهائية في رأيي. مطلوب من هذا الجمال أن يؤدي رسالة ولو عبر قرون من التراكم .. وإن كان الشعر كما تفضلت أضحى ضربا من التلاعب باللغة لدى البعض فهذا لا يخلد.. النص المفعم بالشعر الحقيقي هو المؤهل للخلود.. والهرطقة اللغوية تذهب أدراج الرياح.. وشعر المناسبة يتلاشى بتلاشيها..)(5)

وإيماناً منه بدور الشعر وأهمية وظيفته نجد شاعرنا عاطف الفراية يمنحه المحراب الأول كاملاً في ديوانه (محاريب الأنثى) ضمن المجموعات الشعرية الثلاث الصادرة باسم (أنثى الفواكه الغامضة)(6) حين احتفى وتغنى به تحت عنوان (قصائد للقصيدة) بسبعة نصوص هي (حين تنأى القصيدة، كن أكون، الشاردة، الشاعر، شعراء، الصدى، المبتورة) ويؤكد في جميع هذه المحاريب الأنثوية إيمانه القوي بجنس الشعر كمنجز إبداعي يستحق كل العناء والاهتمام، يعول على دوره ووظيفته الحياتية على الصعيدين الاجتماعي العام والشخصي الخاص. ولذلك فهو لا يكتفي في نصوصه بتكرار سرد طقوس ولادة النص الشعري أو غايات الشاعر الظاهرة البيّنة والمستترة المخفية من ذلك، بل يُضمِّن نصوصه العديد من الأسئلة الفاعلة التي تدير محركات التأمل والتدبر والتفكر في النص الشعري ذاته وأبعاده وانعكاساته، وهذا الهدف التفاعلي المنشود هو أبرز ما يُلقيه النص الشعري في ساحة وذهن المتلقي حتى تزهر ورودها الفوّاحة وتشدو بلابلها بأعذب الأغنيات. ولا شك فإن تدفق أنهار الأسئلة المتوالدة والمسكونة بالكثير من الانشغال والحيرة والقلق هو إعلان عن تقاسم الشاعر همومه وهواجسه وأحلامه مع قارئه، وإشراكه في التحليق معه والبحث عن إجابات لعلها تبعث فيهما بعض الأرتياح والانبساط والنشوة :

(فما لي إذا ما اقتربتُ من الشعـر

ما لي إذا ما أردتُ الكتابة

فرّت غزالاتُ روحي

وفرّت قواميسُ كلِّ اللغات

وما حلَّ ربُّ القصائد عقدةَ صدري الذي

فاض حتى اختنقتُ به؟

وما ليَ .. لا حظ في الشعر لي

غيرُ هذا الذي أسلتُ من الدمع والدم

في دفترٍ لم يزل عاصياً

ويؤلبُ صمتي عليّ

وينأى إلى طرقات

المحالْ؟

هل لأني مددتُ عيوني طويلاً

لعليَّ أطُولُ الذي

لا يُطالْ؟

هل لأني أنا من أراد القصيدةَ طازجةً

أن أكونَ أنا ربَّها لكي تنثني

بين ضلعين

من لونيَ القرمزيِّ

الجلالْ؟

هل لأني أنا من يقولُ الذي لم يُقلْ

والذي – عادةً – لا يقالْ؟)(5)

ولا يكتفي الشاعر الراحل عاطف الفرّاية هنا بزرع أسئلته العميقة في أرضية القاريء الذهنية بحس نمطي مجرّد، بل يُحيك له عوالم فضاءه الشعري وعناصر قصيدته، وما ينتابه خلالها من هواجس وريبة تتقاذف مشاعره وقلقه وحيرته، مناشداً عونه ومساعدته دون الإعلان عن ذلك بشكل صريح أو مباشر. ولذلك فإن مثل هذا النص الشعري لا يمكن الخوف عليه من خفوت بريقه، أو انحسار تأثيره في القاريء، لأنه يملك سره وسحره الوهّاج وعبقه الخاص، المتأسس على صدقه وانتمائه للحياة، وإفراد أجنحته نحو دروب المستقبل فيظل نصّاً حياً حتى بعد رحيل الشاعر. وهذا بلا شك أثمن ما يبتغيه أي مبدع طوال رحلته العمرية وهو أن يظل حياً في الوجدان الأدبي والفكري الوطني بعد غياب جسده، وهذا ما يتأكد معنا هنا الآن ونحن نتفاعل مع نصوص الشاعر عاطف الفرّاية بينما هو يرقد هانئاً في مسكنه الأبدي رحمه الله.

وتكشف لنا المجموعة الشعرية (أنثى الفواكه الغامضة) اعتزاز مبدعها الشاعر الراحل عاطف الفرّاية بوطن الشعر الذي ينتمي إليه، ووفاءه لكل الأصوات التي صدحت بأنفاسها وأثرت المشهد الشعري بنصوص وقصائد وطّنت قيم الخير والجمال والمحبة، وانحازت إلى الأرض التي ألهمتها كل ذاك الألق والتألق والحضور الإبداعي، غير عابئة بالصعاب والمخاطر والأهوال والسهام التي تصوب نحوها، وظلت شامخة في تحديها الإنساني طوال مسيرتها الزاخرة بالثراء الفكري والشعري، فحصدت أبلغ عبارات التحايا والإشادة والتوطين والتخليد في مدونة الوطن التشريفية:

(آآآآه يا شاعراً ..

أينما بثّت الريحُ إعصارَها ..

كنتَ في وجهِهَا واقفاً ..

ما انحنيتْ.)(6)

ويبدو أن الشاعر عاطف الفرّاية يلامس في بعض ما يصبو إليه هنا من معاني نبيلة وتضحيات جمة تؤسس لمفهوم وقيمة الشعر، وإن كان بدرجة نسبية، تلك الدفقة المدثرة بالحكمة والشغف والبوح الصادق التي صدح بها شاعر الياسمين محمد المزوغي:

(المرءُ ما لمْ يكنْ حُراً

فلاَ أحدٌ

والشعرُ مَا لمْ يكنْ حُـــبّاً

فتضليلُ

إنَّي وهبتُ دمّي للأرضِ تُنْبِتُني

حَبَّاً لِتأكلَه الطيرُ الأبابيلُ

غداً سنحَيا هنا

عِطراً وقَافيةً

يزهوُ بنا الوردُ أو تزهو المواويلُ

نُضِّيءُ باللهِ

لاَ شمسٌ ولاَ قمرٌ

هيهاتَ تخبُو لنا يوماً قناديلُ)(7)

ويمضي شاعرنا الراحل عاطف الفرّاية يقرعنا بسؤاله الفلسفي العميق الموغل في البحث عن أسباب رحيل الشعراء، مانحاً عقولنا برهة من التفكر في تناقضات ودلالات السؤال، وتاركاً لنا الإبحار في شتى مسارات التأويل والإجابة:

(لماذا إذنْ

نحنُ منْ يرحلونَ سريعاً

ويكبرُ بنيانُ منْ يسرقون

الحياة؟)(8)

وكعادة الشعراء الأوفياء الخُلّص لم يبخس شاعرنا الراحل عاطف الفرّاية إناثه حقهن في الاستذكار والتوثيق بل ظل وفياً لهن جميعاً فأسكنهن محرابه الثاني في (أنثى الفواكه الغامضة) مسجلاً تقريعات ودقات تساؤلات عدة لها إشاراتها العميقة نثرها في نصه (تفاح خديجة) :

(مالِ القصيدةِ التي لا تمدُّ إليّ إلاّ

ما تبقّى من

حنيني ..؟

من أين تأتيني العصافيرُ التي

رحلتْ

وقمحي بعثرته الرّيحْ!

من أين لي بخديجةٍ أخرى

تُـدثـِّرُني

بتفاحاتِها من بردِ جوفي؟)(9)

ثم احتضن (أنثى التوت) و(أنثى الثلج) التي شاكس فيها اللغة بصورتها المرئية البصرية حين كتب كلمتي “يتساقط” و”يتدلى” بشكل عمودي لافت، وواصل نحو (أنثى الرمان) و(أنثى العنب) التي برز فيها اقتباسه بعض مضامين النص القرآني من قصة سيدنا نوح:

(لا نوحَ هنا …

أو سُفناً يركبُها

العُقلاءُ الحَمقى ..

فيفرُ الناسُ إلى جبلٍ يعصِمُهم.

وحدهم العشاقُ

يظلونَ على السورِ

ويرتفعون على سطحِ نبيذِ النهر)(10)

أما في (أنثى الورد) و(أنثى الغيم) فقد تراقصت فيهما الأسلوبية السردية التعبيرية بكل ألق وباحت بالكثير من الجماليات اللغوية والتي تجلت كذلك في (أنثى النهر) و(أنثى النحل) و(أنثى الشجر) و(أنثى الوجود) لتؤكد جميعها بأن مئات السطور من النثر الجميل لا تعطيك صورة شعرية واحدة مما ينسجه عاطف الفرّاية في قصائده، وما تحمله إضاءاته السريعة والقصيرة الخاطفة من قدرة على الغوص في مشاعر وأحاسيس المتلقي وهزها بكل العنف والإمتاع مستحضراً في عتبات بعضها ذكريات (سلمى طوقان، أمل، حسام الودغيري، الأمهات، سلفادور دالي) التي لم يخبو الشوق إليها، بل ظل محافظاً على الدفء المنبعث من سيرتها جاعلاً من تلك العلاقات الخاصة جسراً يمتد زمنياً بين نصه الشعري وقارئه الذي ترك له الباب مفتوحاً للبحث مجدداً عن تفاصيل تلك الخصوصية خارج دواوينه الشعرية.

وجاء المحراب الثالث (محراب الغزالة) في ثمانية نصوص قصيرة هي على التوالي (ركض، غزال، صقر، جدائل، رمل، ناي، نداء، ثناء) إضافة إلى ما أسماه “نوستالجيا مشهدية” أهداها إلى مدينة “عمان .. بمناسبة غازي الذيبة” وطاف خلالها بخيال القاريء في “شارع بسمان” متنقلاً في أجواء المكان وشخصياته البسيطة بكل حميمية وتشويق:

(يتعثرُ بيّاعُ الشاي

ويسقطُ منه النعناع

ماسحُ أحذيةِ المارةِ يدهنُ للركبةِ

قَدمَ زبونٍ ينظرُ للأعلى.

إبرُ الحائكِ

تدخلُ في عظمِ أصابِعهِ

ومُصلِّحُ ساعاتٍ ..أوقفَ

كلَّ عقاربِهِ

بيَّاعُ الكُتبِ المستهلكةِ

يسارعُ في شتمِ البرجوازيين)(11)

وليست هذه كل الشخصيات التي استعرضها في نصه فحسب، بل هناك “العتّال المستعجل” و”بيّاع الذرة المشوية” و”بيّاع البخور” و”بيّاع الكعك” وغيرها التي أطلقها خياله لتلاحق “طقطقة الكعب العالي” في مشاويرها بالشارع وبصماتها في الحياة عامة.

أما المحراب الرابع بالمجموعة وقد أسماه (قصائد) لمزيد الإصرار والتأكيد على إنحيازه للشعر ونصوصه وقصائده فيقدم فيه الشاعر الراحل عاطف الفرّاية سبعة نصوص كتبها خلال 2007-2012 وهي (اتساع، بيت، غربة، كرز، طيوف، طائر، كوكب) تميزت ببلاغتها المكثفة التي توجز الصورة الشعرية بأدنى عدد من المفردات وفي أضيق المساحة التعبيرية مثل نصه “اتساع” الذي جاء في ثلاث كلمات متعامدة فقط:

(أنا

المكان

اسكنيني)(12)

وكذلك في نصه “طائر” الذي تربع على ثلاثة سطور قصيرة لا غير:

(بأية أجنحةٍ سيطير الجبل!

إذا لم يطر فوق بيت من الشعـر

مثلي)(13)

وجاء المحراب الخامس (نكايات) ليبرز مواكبة شاعرنا الراحل عاطف الفراية للتطور التقني في مجال التواصل الاجتماعي فنجده ينشر ملصقات فيسبوكية قصيرة كان قد أدرجها على صفحته بموقع الفيسبوك خلال سنة 2009 وهي (صباح 1، مساء 1، صباح 2، صباح 3، مساء 3، صباح 4، صباح 5، مساء 3، صباح 6، صباح الغزالة، نصف)، بينما المحراب السادس والأخير (نسك) فقد أهداه الشاعر إلى “إبراهيم محمد إبراهيم” وجعله يتكون من (نسك، اختلافات، يوميات نشوان)، وفي نص “اختلافات” تعرفنا على عدة أوجه تحدد اختلافات شاعرنا الراحل عن (العيون، الزاهدين، الحاسدين، العصافير، الكون، البيت، السماء، بائع التبغ) تظل أبرزها اختلافه عن الشعراء:

(اختلافي عن الشعراء

أنَّ العُيونَ لو سُئِلتْ عن لَونِي

لَمَا أدْركَتْ كـُـــــنْهَهُ !!

ولاَ بقيتْ مُعلقةً على شبَابيِكي

رُغم رَحيلِ أصْحَابِهَا)(14)

إن الشعر شهادة إنسانية وتاريخية يسجلها الشاعر بكل أمانة وحرفية ليوثق فيها صور مكابداته، وأزمنته التي عاشها، وأمكنته التي استوطنها وتلك التي احتضنته وتفاعلت مع فكره وكيانه فاستنطقته. وتعتبر لحظة البوح الشعري من اللحظات النادرة والثمينة في حياة الانسان، ولذلك تتسامى قيمة الشعر وتسمو أهميته بالنسبة للشاعر والمتلقي معاً، ولكننا للأسف نجد العديد من الشعراء يتورطون في إنتاج القصائد التقليدية المرتهنة لرنين الجرس الموسيقي أو النصوص الشعرية الاستهلاكية المتأسسة على الزخرفة اللغوية البرّاقة وخواء المضمون الموضوعي، وبالتالي يفقد الشعر عذوبته وموسيقاه ونشيجه وفحوى وقيمة رسالته الإنسانية الخالدة. إلاّ أن الإضاءات التي تركها الشاعر الراحل عاطف الفرّاية في المدونة الشعرية الأردنية تختلف عن كل ذلك كلياً، وتجسد بكل امتياز معاني الشعر النبيلة في أبهى صورها الموضوعية والشكلية المتنوعة، والتي التقطها من عذابات روحه، ومعاناته الحياتية، وأسبغ عليها بعضاً من فيوض خياله الخلاب فانصهرت في بوتقة متناغمة تحمل الدهشة والحكمة والعذوبة والإيقاع الخفي والظاهر، وتجعله متميزاً في شعره، الأمر الذي يمنح الشاعر عاطف الفرّاية الكثير من الثقة الحاسمة في ذاته المبدعة، والاعتزاز المطلق وكامل اليقين بأن غياب صوته الشعري سيكون خسارة جسيمة على القصيدة كما يصف نفسه:

(يا حسرةَ الكونِ ما ظل شعـرٌ

يضيءُ الوجود

لأني أنا خاتم الشعراء….)(15)

وعند مراجعة رصيده الشعري نكتشف أن شاعرنا الراحل عاطف الفرّاية هو شاعرٌ مقلٌ جداً وليس كثير وغزير الإنتاج الشعري، حيث أصدر خلال مسيرته الإبداعية ثلاثة دواوين شعرية فقط هي (حنجرة غير مستعارة) سنة 1993 و(حالات الراعي) سنة 2009 و(أنثى الفواكه الغامضة) سنة 2013، ويمكن القول بأن كامل تجربته الشعرية التي نضجت مبكراً تتجلّى فيها عناصر موضوعية واضحة تجسدها ثلاثية الحب والوطن والجمال، وتشكل القاسم المشترك الذي تتأسس عليه أغلب نصوصه الشعرية التي نسجها من وحي استنطاق الذكريات الدافئة، ولهفة الشوق للأرض والوطن والأحبة، ونشر قيم الخير كافة كما يؤمن بها وفقاً لرؤى فكره المستنير وفهمه المتعمق لأبعادها المختلفة إنسانياً ووطنياً. وكل هذه العناصر ذات انعاكاسات حقيقية حاضرة وجدانياً في مشاعره وأحاسيسه، وعملياً في أسلوب تعامله وسلوكياته وعلاقاته مع الوسط الاجتماعي والبيئة الفكرية التي تفاعل فيها طوال حياته رحمه الله، ولذلك فإن نصوص شاعرنا الراحل لا تقوم على صور حسيّة افتراضية ينسجها خيال خلاب جامح ممتع، ولا تغرق في سبحاته وتجلياته الرحبة الحالمة أو القاتمة، بل تقتنص قيمتها من واقعية الحياة رغم ما تكتسيه من مرارة وقسوة، ومن ثم تطلق عنان العقل للتأمل والتدبر فيها وتحليلها ومحاولة الاقتراب منها والتعاطي معها بفكر رصين للشاعر الذي يكابد ويواجه صوره الحياتية، ويتعايش مع مجرياتها بجميع إيجابياتها وسلبياتها، مدها وجزرها، ربيعها وخريفها. ومثلما يتأكد غياب الخيال المفرط والإغراق في مباهجه الوردية، فإن سطوة استنطاق أو استحضار التاريخ والأسطورة كذلك لا نجدها حاضرة في أشعار الراحل عاطف الفرّاية مما يؤكد أن نصوصه الشعرية تنتمي بجدارة إلى زمنه الخاص، وتنبض بثواني واقعه المعاش، وتغوص بكل شجاعة في معاناته وتجاربه الذاتية، والتعبير عنها بكل صدق ومواجهة حقيقية معها، لا تخشى تبعاتها، ولا تهرب منها بالاتكاء على شخصيات ورموز التاريخ والأسطورة لاستنطاقها أو التخفي وراءها أو إسقاطها على الواقع الراهن. وكل هذا يجلعنا نؤكد بكل الثقة واليقين بأن الشاعر الراحل عاطف الفرّاية يستخدم لغة زمنه وفكره ليكتب قصيدته الخاصة التي تحمل بصمة ذاته المبدعة وبالتالي فهي ستظل عنواناً لقلبه وفكره وأشعاره على الدوام.

____________________________________________

(1) عاطف الفراية، حنجرة غير مستعارة، ديوان شعر، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 1993، ص 13
(2) نفس المصدر، ص 14
(3) عاطف الفراية، أنثى الفواكه الغامضة، ثلاث مجموعات شعرية، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2013، ص 71
(4) محمد المزوغي، بعض ما خبأ الياسمين، شعر، دار الساقية للنشر والتوزيع، بنغازي، ليبيا، الطبعة الأولى، 2013، ص 14-15
(5) موقع رابطة أدباء الشام الالكتروني، www.odabasham.net/…/58355، بتاريخ 26 كانون أول 2009
(6) عاطف الفراية، أنثى الفواكه الغامضة، ثلاث مجموعات شعرية، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2013
(5) عاطف الفرّاية، أنثى الفواكه الغامضة، ص 15-16
(6) المصدر السابق نفسه، ص 22
(7) محمد المزوغي، لا وقت للكره، ديوان شعر تحت الطبع
(8) عاطف الفرّاية، أنثى الفواكه الغامضة، ص 24
(9) المصدر السابق نفسه، ص 31
(10) المصدر السابق نفسه، ص 40
(11) المصدر نفسه، ص 94
(12) المصدر السابق نفسه، ص 101
(13) المصدر السابق نفسه، ص 111
(14) المصدر السابق نفسه، ص 148
(15) عاطف الفراية، حالات الراعي، ديوان شعر، ص 179

مقالات ذات علاقة

تقاسيم الحارة القديمة *

إشبيليا الجبوري (العراق)

عدل بعد الممات

زيد الطهراوي (الأردن)

النصر العظيم قادم لا محالة: حوار مع الكاتب الفلسطيني فراس حج محمد

المشرف العام

اترك تعليق