بقلم وعدسة: زياد جيوسي
الحلقة الأولى
لشمال الأردن جمال خاص بطبيعته وطيبة أهله وتراثه وتاريخه وآثاره، وفي زيارة لي لعمَّان قررت أن أرافق زوجتي ختام جيوسي بجولة في بعض أنحاء الشمال تستمر ثلاثة أيام بسيارتنا مع أجواء ربيعية جميلة وطقس مناسب للجولات والترحال بأكثر من منطقة، فشددنا الرحال مبكرين صبيحة يوم خميس إلى إربد عروس الشمال، حيث استرحنا فيها بعضاً من الوقت وتناولنا إفطارنا واحتسينا القهوة لنواصل المسير إلى موقع معركة اليرموك الفاصلة في تاريخ بلاد الشام، مارين بمناطق ريفية وعبر طرق ريفية بحاجة للصيانة والاهتمام بها أكثر حتى تسهّل الوصول للموقع.
بعد مسيرة طويلة بهذه الطريق الريفية الجميلة بمشاهدها وقبل الوصول للموقع شاهدنا مجموعة من الكهوف على يميننا في سفح الوادي ويظهر أنها استخدمت مدافن في الفترات القديمة للمنطقة وربما استخدمت لاحقا كمساكن وبيوت، وهذا يظهر من خلال حفر الأبواب الصخرية لهذه الكهوف، وأحدها كان له فوق بوابة الكهف الصخرية طاقة دائرية الشكل وكأنها كانت مصممة للتهوية لمن يسكنون المغارة، وهذه الطاقات لم تكن في المدافن، وبعدها بمسافة كنا ننحرف يسارا باتجاه موقع معركة اليرموك، مارين بمتنزهات جرى إعدادها لزوار المنطقة للراحة والتنزه وتناول غداء الرحلات إضافة لبعض ألعاب الأطفال لتجذب الأهالى في المناطق المحيطة.
وصلنا بوابة الموقع حيث مبنى بجوار البوابة ربما يكون مركز استعلامات لكنه مغلق ولم نشاهد فيه أحد، مع أقوس معدنية تعطي نوعا من مسحة فنية للمكان وعدة أشجار معمرة وجميلة، ويافطة من بلدية الشعلة تحض الزوار على المحافظة على النظافة، ويافطة حجرية على البناء تشير أن الافتتاح تم عام 2003، ودخلنا البوابة حيث ممر مبلط يقود نحو “بانوراما” معركة اليرموك، وعدد من الأشجار الحرجية يتناثر في المكان، ونصب مبني من الحجارة السوداء البازلتية على شكل نصل سيف بارتفاع لا يقل عن عشرة أمتار، ثم نصب آخر من صخرة من صخور الموقع، وصولا للإطلالة على وادي اليرموك حيث وقعت المعركة، حيث البانوراما التي ترسم وتروي حكاية معركة اليرموك منقوشة ومكتوبة على مجموعة من البلاطات الرخامية على طرف الساحة بشكل شبه مستو مع انحناء للأعلى، فتتيح للزائر أن يقرأ ملخص المعركة باللغتين العربية والانجليزية مع رسومات منقوشة وهو يقف ويطل على وادي اليرموك، ولكن هذه العبارات بدأت تتعرض للعوامل الجوية فزال اللون الأسود المدهون على الكلمات المنقوشة على الألواح الرخامية في مساحات منها، مما يستدعي معالجة سريعة وإعادة الدهان ومتابعة أن يتم تجديده دوما.
في البلاطة الأولى تبدأ رواية الحكاية بالحديث عن نهر اليرموك وفي القسم السفلي عبارة تقول: “أنت هنا الآن في أراضي بلدة سحم الكفارات المشرفة على موقع معركة اليرموك والمكون من تلة خالد نسبة إلى خالد بن الوليد قائد معركة اليرموك”، وتروي البلاطات الأخرى ملخص المعركة، وهي المعركة التي غيرت مجرى التاريخ حيث أن جيش الدولة الاسلامية لم يكن يصل إلى ثلث جيش روما ولكنه انتصر في المعركة مما مهد الطريق للفتوحات الإسلامية وطرد الغزاة من البلاد العربية روم وفرس، وقتل قائد الروم ماهان وفر هرقل من سوريا وقال عبارته الشهيرة: “وداعا يا سوريا، وداعا لا لقاء بعده”.
كنت أقف بصمت شديد وأنا أنظر لوادي اليرموك حيث أحداث المعركة، وكنت أشعر أني أستمع لصليل السيوف وصهيل الخيول ودكات سنابكها وصيحات التكبير في المعركة، وتذكرت مقولة هرقل قيصر الروم، فهمست بألم: انهض يا خالد وانظر فقد عاد الروم بلباسهم الجديد في كل بلاد العرب ومن سادة أصبح قسم كبير منا عبيد، فليس أشدّ من الألم الذي يمكن أن يعتصر الروح والانسان يقف أمام ذاكرة عظمة التاريخ والأجداد ويقارن ما كان بما هو واقع الآن.
من موقع معركة اليرموك كنا نتجه وزوجتي باتجاه بلدة أم قيس، هذه البلدة التاريخية من مخلفات الاحتلال الروماني لبلادنا، فقد كان برنامجنا يبدأ من موقع معركة اليرموك ثم أم قيس فمطل طبريا فالحمة على ضفاف اليرموك والشونة الشمالية حيث الحمامات المعدنية ومقام معاذ بن جبل فبلدة مخربا وبلدة حوفا الوسط ومن ثم العودة باتجاه عمَّان بعد قضاء 3 أيام وليلتين في جولتنا.
ما أن أطللنا على بلدة أم قيس وقبل الوصول إلى البلدة الأثرية والتراثية كنت أحدث زوجتي عنها، فقد سبق أن زرتها زيارة سريعة وتركت آثارها وموقعها أثراً كبيراً في نفسي فرتبت أن تكون الزيارة الثانية برفقة رفيقة العمر التي زارتها أيضا زيارة منفردة قبلي، وتلا هذه الزيارة زيارة أخرى مع ضيفتينا من لبنان الأشم الأستاذتين بالقانون فاديا سدر وكنانة رشيد زميلاتي في المرصد العربي ومؤتمرات أمن وسلامة المعلومات في الفضاء السيبراني التي شاركت بها في عدة دول عربية، وما أن وصلنا إلى نهاية البلدة تقريبا حتى انحرفنا يسارا باتجاه مدخل “جدارا” وهو الاسم القديم للبلدة الأثرية، حيث أوقفنا السيارة في الساحة الواسعة ووقفنا ننظر للغرب حيث تتعانق جبال شرقي النهر المقدس مع غربيه، وأطراف بحيرة طبريا تتألق بزرقتها تحت زرقة السماء حتى شعرنا بقلوبنا تنبض بين الأزرقين.
توجهنا نحو الدرجات التي تصعد للبلدة الأثرية وفي الساحة توجد مقاهي للراحة والطعام يرتاح بها عادة الزوار لحظة الوصول قبل أن يبدأوا التجوال في المدينة الأثرية أو بعد الانتهاء، فلم نكن بحاجة للراحة فمسيرتنا من موقع معركة اليرموك حتى أم قيس ليست متعبة، ورحلتنا ما زالت في بداياتها ونريد ان نكسب الوقت لإنجاز برنامجنا الذي خططناه، وفي الساحة أيضا يافطات إرشادية لم يتبقى منها إلا حروف لا تفيد بسبب العوامل الجوية، وبكل أسف في معظم الأمكنة السياحية التي زرتها في أردننا الغالي،كنت أرى الإهمال لإعادة الكتابة والرسومات والصور على هذه اليافطات، فأصبح معظمها لا يفيد الزائر والسائح بشيء، فاتجهنا وصعدنا الدرج الحجري وقطعنا بطاقات الدخول بمبلغ زهيد، وعبرنا الجسر الخشبي الحديث والذي تحيطه أدراج حجرية وممرات ترابية، وكنا نرى على اليسار واليمين بيوت تراثية متروكة وبعضها مستخدمة كمكاتب، وهذه البيوت التراثية والتي تتناثر بعض الأعمدة الأثرية بينها وبين حجارتها حجارة أثرية بناها وسكنها أبناء المنطقة قبل أن يتم ترحيلهم بعد أن استملكت وزارة السياحة والآثار البلدة وتحويل المنطقة بأكملها إلى بلدة أثرية.
جدارا هو الاسم الفعلي لأم قيس ومشتقة من جدار وهي كلمة تعني المكان المحصن، أما اسمها الحالي فهو حديث يعود للفترة العثمانية ومشتق من كلمة “مكوس” وتعني الضرائب، وقد اعتاد سكان المنطقة أن يسموها “أم كيس” والتي تحولت مع الزمن إلى “أم قيس”، وهي ذات موقع مهم ومطل على نهر اليرموك وعلى هضبة الجولان وجبل الشيخ شمالي أم قيس، وأم قيس على ارتفاع 364 م عن سطح البحر مما يمنحها مناخا معتدلا وجميلا، وتقع بحيرة طبرية غربها ووادي العرب جنوبها وهي تعتبر من أكبر مدن لواء بني كنانة، وقد تأسست بعهد البطالمة في القرن الثالث قبل الميلاد وهذه الأسرة تعود إلى بطليموس الأول أحد قادة جيش الاسكندر المقدوني والذي ولاه مصر قبل أن يغادرها باتجاه آسيا ليخضعها لحكمه، وهذه الأسرة رغم أصولها المقدونية فقد تمازجت وتزاوجت وتأثرت بالشعب المصري حتى أصبحت جزءًا منه.
أكملنا السير في الطريق الترابي حتى وصلنا إلى المسرح الغربي على يميننا والذي بني في القرن الثاني الميلادي على المنحدر الغربي للمدينة، وكان هذا المسرح يتسع إلى ثلاثة الآف مشاهد، وكانت تقام عليه عروض الترفيه والمناسبات السياسية والدينية، وبني المسرح من حجر البازلت الأسود من ثلاثة طبقات، وفي جدارا وجد ثلاثة مسارح الشمالي وهو الأكبر حجما ومسرح صغير قرب الحمة في وادي اليرموك إضافة لهذا المسرح الذي دمره زلزال كبير في القرن الثامن الميلادي، وبين الطبقة الأولى والثانية إضافة لحلبة المسرح توجد مجموعة ممرات تم بنائها على نظام العقود النصف برميلية، والدمار واضح في المدرج بسبب الزلزال من جهة وبسبب الإهمال عبر السنوات والجهل بالتعامل مع الآثار من جهة أخرى، فقد كان السكان يسكنون في هذه الآثارات ويبنون بيوتهم من حجارتها وهذا ما لمسته في العديد من المناطق كما المدرج الروماني وسبيل الحوريات وجبل القلعة في عمَّان، وتجولنا جيدا في المسرح وصعدنا المدرجات التي ما زالت سالمة من الدمار والخراب، وفعليا لم يتبقى من المدرج الا الطبقتين الأولى وأجزاء من الثانية غير مدمرة، وأعتقد أنه من الضروري العمل على ترميم المدرج وباقي آثار أم قيس، فهذه الآثارات وهذا التاريخ يجب أن يحافظ عليه، وبعد أن قضينا وقت طويل في التجول بالمدرج غادرنا لمشاهدة الأسواق التاريخية والساحة وبقية آثار جدارا، وهذا ما سأتحدث عنه بالحلقة الثانية إن شاء الله..
صباح جميل في عمَّان مع نسمات الخريف التي بدأت ترخي برودتها شيئا فشيئا في الصباحات، أستذكر زيارتي لموقع معركة اليرموك وأم قيس ومناطق أخرى في رحلة الشمال التي استمرت ثلاثة أيام برفقة زوجتي، ومع فنجان قهوتي على شرفتي العمانية وشدو فيروز وهي تشدو: “في أمل! إيه في أمل، أوقات بيطلع من ملل، وأوقات بيرجع من شي حنين، لحظات تَيخفّف زعل، وبيذكّرني فيك لون الشبابيك، بس ما بينسّيني شو حصل”، فأهمس: صباح الخير يا عمَّان، صباح الخير يا حلوة، صباحكم أجمل جميعا..
“عمَّان 31/10/2019”