رواية من مكة إلى هنا للكاتب الصادق النيهوم
المقالة

من مكة إلى هنا

اندبنتنت عربية

انشغل الكاتب والمبدع صادق النيهوم، منذ البدء بالمسألة الدينية، وبالعلاقة بين الدين والسياسة، ولعل لذلك صلة غير مباشرة، بكون البلاد التي ينتمي إليها، نظامها السياسي الملكي، سليل الحركة الإصلاحية الدينية السنوسية، واهتمامه بالمسألة الدينية تجلى في دراسات عدة، من أشهرها “الرمز في القرآن”، التي نُشرت مسلسلة، بجريدة الحقيقة الليبية أواخر الستينيات، لكنها أوقفت عن النشر، بعدما اعتبرتها جماعة علماء المسلمين في البلاد، تحريفاً وتجديفاً دينياً، غير أن صادق النيهوم تابع دراساته تحت عنوان آخر “العودة المحزنة إلى البحر”، وقد يكون ما واجهه من منع، المحفز المضمر، لأن يكتب صادق النيهوم السرد، فلقد نشر في الفترة ذاتها تقريباً، روايته الأولى “من مكة إلى هنا”، في حلقات على صفحات جريدة الحقيقة، ما قدمتهُ ككاتب، ونشر من خلالها ما كتب، حتى إغلاقها بُعيد الانقلاب العسكري في سبتمبر (أيلول) 1969.

وعلى الرغم من أن رواية صادق النيهوم “من مكة إلى هنا”، لم تنل شهرة رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، إلا أن البنية الروائية، وما تثيره هاتان الروايتان، تُظهر وشائج بينهما، فكل منهما رواية الشخصية، التي هي شخصية زنجي أفريقي، من في “من مكة إلى هنا”، مهاجر إلى شمال قارته الأفريقية، بينما هو مهاجر إلى القارة الشمالية: أوروبا، في “موسم الهجرة إلى الشمال”، المهاجر مصطفى سعيد يواجه الآخر، الاستعمار “ما يصبح جرثومة فتاكة، إذا جعلنا، من أنفسنا مسرحاً لها، ونظرنا إليها، على أنها قدر، تحكم في ماضينا، وما زال مستمراً في الحاضر، والمستقبل“.
أما مسعود الطبال، بطل “من مكة إلى هنا”، فساحته قرية سوسة البحرية، المندسة في الجبل الأخضر في ليبيا، ومسألته مع فقيه القرية، القابض على سلطة تفسير الدين، فمسعود الطبال يصطاد السلاحف، ما هي في دين فقيه القرية، مباركة ومحُرم اصطيادها، بينما هذا الزنجي الآبق، لا يبتغي اصطيادها فحسب، بل يريد زيادة عدد ما يصطاد من خلال تزويد القارب المهترئ الذي يملك، بالموتور، ما ينوي شراءهُ من الإيطالي، من لا يغادر “بار” القرية، هذا الخنزير السكير يريد المال.
“من مكة إلى هنا” تداع سردي في مونولوغ ، ما هو بنية الرواية، رواية الشخصية، إذ إن مسعود الطبال المتمرد على سلطة الفقيه، يعيش هذا التمرد في محاورةٍ مع نفسه، كي يجابه خرافات الفقيه، ما يملأ بها رأس زوجة الطبال، التي تأمل في الحج، وتحتدم المعركة بين الطبال ونفسه، فخرافات الفقيه الشائعة في القرية، تُربك ليله، بل أحياناً تظهرُ له كشبح.

لذا معركة الطبال مع الفقيه، من يقف في وجهه، ويعرقل سبيله لتحسين معاشه، بينما السرد يضع الإيطالي، على هامش الحدث، على أنه مجرد مالك لموتور قديم، قد يتمكن الطبال من شرائه.
ومسعود الطبال صياد ماهر، يملك جسداً قوياً، يعرف أن موتور الإيطالي، يزيد مقدرته على صيد السلاحف، لكن ضعف الطبال، كامن في ما أشرنا إليه، أن للفقيه سلطة حتى على زوجته.
النيهوم ينسج قماشته، من الاصطراع داخل الطبال، ومن صراعه مع الفقيه، فالمسألة واضحة عند النيهوم، أن المشكل هذه السلطة الدينية، القوية والمتجذرة في القرية، ما تمنح الفقيه تفسير وتأويل النصوص، فالسلطة المطلقة، وأن هذا من بواعث، ما يعتري الطبال من خوار.
الهجرة من الشمال راسخة، في التاريخ البشري، لعل ذلك لأن الجنوب المهد والفطرة، وهذه الهجرة الطبيعية، مواجهتها خروج عن الطبيعة، والشمال طبيعة صعبة، في عوز لمن يشكمها، لذا الأساطير والحقائق، تبني على المعمار البشري، من شكم الطبيعة وجعلها فرسه، هذه كما الحقيقة المغدورة.
أيقونة النيهوم، مَسُ ما لم يُمسّ بعد، لقد ولد في القارة المفقودة ليبيا، ثم عاش في أقصى الشمال في فنلندا، لذا مسّ العالم في علائقه الغائبة، لقد رأى أن الشمال الأفريقي شمال بالنسبة الى مسعود الطبال، الأسود الذي يعتبره فقيه سوسة، القرية الشمالية: عبدٌ مارق لأنه تمرد عليه.

النيهوم التقط مُهاجره من القارة ذاتها، حيث تعدى بحر الرمال الأعظم، ليغوص في بحرٍ من ظلمات السلطة المقدسة المطلقة، ومن هذا، رأى أن الموتور، الخلاص، ليس بالإمكان امتلاكه، طالما أن صولجان السلطة الدين القوي النفوذ، ما عند زنجي “من مكة إلى هنا” علاقة روحية بينه والخالق.
النيهوم المفكر والباحث، سيرى في ما بعد أن “الإسلام في الأسر”، ومن خلال مقالات نُشرت، معظمها في مجلة الناقد، الشريك في إصدارها، سيكتب بيانات صارخة لفك أسر إسلامه.

مقالات ذات علاقة

استحالة الحكم الأيديولوجي .. بخصوص الإنسان الهارب من ماضيه

أحمد التهامي

كلاسيك (200/105)

حسن أبوقباعة المجبري

كلام عابر في نقد عابر

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق