المقالة

استحالة الحكم الأيديولوجي .. بخصوص الإنسان الهارب من ماضيه

النزوح؛ من أعمال التشكيلي الليبي رضوان أبوشويشة: أكر يليك على ورق مقمش، 100×70
النزوح؛ من أعمال التشكيلي الليبي رضوان أبوشويشة: أكر يليك على ورق مقمش، 100×70

قول رشاد رشدي الناقد المصري المعروف أن جمع ثلاث قصص معا لأي صنع قصة.. ويوصي بأن يتجنب الكاتب القصاص لصق القصص التي تصنعها الصدفة جنبا الى جنب؛ جاء ذلك في كتابه فن القصة القصيرة والذي يستحق- لبساطته وتأثيره وجماله وسهولة عرضه – أن يعد مرجعا لأي كاتب قصصي محترف ؛ ويستند رشاد رشدي الذي ظلمناه في شبابنا كثيرا لأنه اعتبر ساداتيا يستند في فهمه وكتابته عن الفن القصصي الى تراث مدرسة النقد الجديد التي سادت العالم الأنجلوسكسوني في عشرينيات القرن العشرين ويبدو لي هنا أن الاقدار قادت الرواية التي سأكتب عنها في هذه المقالة الى هذا المصير هي أقدار على شئ من الحكمة والأحزان فكاتبها روسي ابيض وهذا مصطلح يعود إلى أيام الحرب الأهلية التي مرت بها روسيا عقب ثورة أكتوبر الاشتراكية في العام 1917م ومثول الرواية بين يدي قاض يحكمها هو مفهوم ربما تعود ارومته الأولى الى مفهوم النقد عند الألماني كانط الذي ربما يكون هو نفسه قد ورثه عن فرانسيس بيكون من فلسفة عصر النهضة الأوربي حيث يمثل النص كواقعة بين يدي قاض محص يلظ اسانيد جدول الحضور كما تماما يلحظ اسانيد الغياب ثم ينطق حكمه بعد موازنة مطولة بين الغياب والحضور >

لذلك يكن الحكم على كاتب روسي ابيض بمعايير الغرب الامبريالي أمرا مبررا فهو قد هرب الى هذا الغرب وفضله على بلده الام … أليس كذلك؟!

قد يكون … وقد لا يكون …! ثمة شؤون يفضل تركها للزمن فهو خير قاض فيها.


الحقيقة أن علاقتي بالأدب الروسي وثيقة ولكن أي ادب روسي اقصد؟! الادب الروسي الرسمي في الفترة بعد ثورة 1917م وأيضا كتابات المشاهير قبلها فهذه وتلك تيار واحد تقريبا حيث انني نشأت وانا اطالع بتمعن روايات مثل رواية الحرس الفتي التي تحكي لك وقائع المقاومة الشعبية في ستالينغراد للنازي الألماني او رواية والفولاذ سقيناه الحائزة على جائزة ستالين في العام 1949م؛ اذن ثمة ميل وهوى مسبق في عواطفي نحو الادب الاشتراكي وتلك حقيقة اتركها ولكنني اليوم أحاول العثور على مسببات رفضي النفسي العميق لقراءة الكتاب الروس البيض الضفة الأخرى للأدب الروسي وقد اعثر بين ثنيات هذه الرواية التي اتحدث عنها اليوم عن مسوغات مقبولة لهكذا حكم رغوبي الطابع …!
وهل تحد الرغبات ؟!…

وهل تبرر وتسوغ؟!

قد وقد لا يبدو لي موقفي من الكتاب الروس خارج روسيا مرتبطا الى حد كبير بتجربة قراءتي لرواية نابوكوف المدعوة لوليتا فلشد ما ابغضتها …!

ويبدو لي إنني قد عممت من تجربتي معها حكما قاطعا يدين كل الادب الروسي خارج روسيا دفعة واحدة هكذا دون مسوغات معقولة ومنطقية بل فقط تجربة سيئة المذاق …ولكن أليس الانسان في النهاية جملة تجارب …؟!

يالهذا التشابه فمنذ إدانة رشاد رشدي لأسباب سياسية تبدو لي الأسباب السياسية ايضا وراء إدانة الكتاب الروس خارج روسيا بالرغم انه من شبه المتفق عليه أن الادب لا يجب أن يخضع لتحكمات الهوى السياسي لكن من منا دون هوى؟!

الحقيقة أن موقفي من الرواية التي بين يدي وهي رواية طيف ألكسندر وولف للكاتب الروسي جايتو جيزدانوف (1903-1971م) هو موقف شديد التعقيد ذلك انها رواية ممتعة جدا وان كانت تخالف شروط القص عند رشدي وعند المدرسة النقدية الجديدة وربما كان واجبا البحث في مبررات المخالفة وبحث كيف أن ثمة روابط موضوعية اي تابعة للموضوع شكلت وحدة عليا ضمت احداث الرواية وتحتاج وقتا يمضي قبل أن تتضح ربما وقد …!

أما الاخبار الرئيسة الثلاث التي شكلت الرواية وهي تصلح لحكاية الرواية ملخصة فهي
– أن مراهقا قتل شابا بالصدفة أثناء احداث الحرب الأهلية الروسية وظل احساس الذنب يلاحق القاتل الذي كان مراهقا ثم شب وكبر.

– أن القاتل الذي كبر التقى بسيدة جميلة غريبة الأطوار وان علاقة نشأت بينهما.
– أن السيدة الغريبة قتلها رجل كانت تحبه سابقا وتقودك الرواية للقول انه ألكسندر وولف الذي ظن المراهق انه قد قتله في الحرب الأهلية تلك هي الأحداث الاخبار الثلاث للرواية ومع القراءة الممتعة للرواية فإن سؤال الادب الروسي المكتوب خارج روسيا يجدد نفسه ثانية و سؤال العلاقة بين تحكمات السياسة وبراحات الادب يجدد نفسه ايضا فإلى اي حد يمكن لهذه التحكمات أن تعمل على قمع الذائقة وهل تقدر ؟!والى اي حد تستطيع براحات الادب الفرار الممتع من تحكمات السياسة وقساوة منطقها…؟!
الحقيقة أن الرواية تصلح لان تكون وثيقة إدانة للأدب الروسي الأبيض اذ أن الكاتب جيزدانوف تعمد أن يخلص لشان إنساني عادي وبسيط دون أي شحنات سياسية او ايدولوجية …!فانطلق الحكي من حدث غامض لا يتضح فيه من يقاتل من ومن يقف ضد من ولاي سبب ؛ انطلق الحكي من حادث مكتمل الأركان بوصف دقيق لكنه غائم سياسيا …!

لا يبدو الطرفين المتقاتلين واضحين ولا شعاراتهما فقط ثمة حرب وثمة قتل مؤكد وهذه الحالة بقدر ما تبين كل الادب الروسي الأبيض بعدم الالتفات الى قضايا المجتمع وتناقضاته فإنها تعمل في نفس الوقت على سحب فتيل التفجير من يد اي ناقد قاض فكيف سيحكم وسيبث في رواية باعتبارات ايدولوجية وهي تخلو تماما من أي ايدولوجية الا اذا اراد إدانة الخلو الفراغ؟!… ربما يدان الفراغ ربما…!

مقالات ذات علاقة

شهيةٌ في “البيتِ لساكنه”

محمد دربي

في حضرة ما نحب

ليلى المغربي

تطور مفهوم الحرية في التداول العربي

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق