كوثر الجهمي
لاشيء يكشف مدى تعلقنا بجذورنا إلا انتقالنا لبيئة مناقضة تماما للبيئة التي نبتنا فيها، هذا ما لمسته في سلسلة الغابة للأستاذة عزة المقهور، عزة التي “قُذِف بها من بين أحضان الدفء إلى أهداب الثلج، ومن أوراق شجر التوت إلى إبر أشجار الصنوبر، عزة التي اعتادت ملوحة البحر فوجدتْ نفسها غارقة في عذوبة البحيرات”، عزة صاحبة الصحراء والشمس، تكتب عن رحيلها لأرض الصقيع والظلال، هناك حيث غابات كندا.
سلسلة الغابة؛ ليست قصصًا خيالية، هي أقرب للمذكرات، يوميات شتوية تحاول الكاتبة اتقاء شر بردها بدفء ذكرياتها، تتمشى غير عابئة بهذا البرد، مكابرة كمدينتها الأم، ووسط الصمت الذي يغمر رحلتها تقطعه وقع خطواتها الثقيلة على الثلج، تعود بها الذاكرة إلى غرفتها الشرقية، وأشعة شمس الصباح الأولى الناعمة المتسللة عبره، هازمة بها شمس بلاد الثلج “المخادعة اللعوب”.
كيف للغابة الباردة، المثلجة، أن تأخذها لشواطئ طرابلس فتسمع صوتها طفلة تهتف: “هيا نوضوا البحر زيت”؟
كيف استطاعت تحت ثقل الثلج الذي تنتزع قدميها منه، أن تتذكر أكوام الرمل وتجربتها المريعة التي ما زادتها بالصحراء إلا تعلّقًا وتفهّمًا وألفة؟
وبروحها المحبة المرحبة بكل شيء، ما تفتأ ان تكتشف التشابه بين المتناقضات:
” أمشي في الثلج وقد أيقظ صمت الغابة ذكريات نائمة، تنغرس قدماي في القطن الأبيض إلى ما دون الركبة بقليل، حركة مجهدة كحركة السير في الرمال هل كتب على الإنسان أن يقاوم بيئته كي يتعايش معها؟ هل إذا ما استسلم اليها افترسته، وإن قاومها تجاوبت معه؟ وهل المقاومة نوعا من الحب؟”
” الغابة والصحراء سيان.. أثر بعد أثر، السبق لمن يصنعه والحصاد لمن يقتفيه”، ورغم أنها كانت في صحرائها مقتفية، إلا أن هذا لم يمنعها من صنع أثرها في غابات كندا! لعلها هنا تحاكي دماءها الحارة وتتواصل مع جذورها التي لم يقتلها الثلج.
لا شيء يقف في طريقها، لا أكوام الثلج المتكدسة على سيارتها، ولا حتى تلك التي سدّت طريقها نحو الغابة، صديقتها النقيضة لها، لا شيء كان ليمنعها هي التي كانت تعاند حارس المدرسة الذي يسد عليها وعلى زميلاتها براح أزقة حي الأندلس، لا شيء يقف في طريق طفلة تلتقط أرغفة الخبز الساخنة من خباز أجنبي يغمره دقيق يذكرها به منظر ندف الثلج المتراقصة، لا شيء حتى الصياد الذي كذبتْ عليه بكل ما تحمله من حب لتحمي غزالة طريدة تذكرها بغزلان أخرى في اوطان أخرى اعتادت الهروب من الصيادين.
في الجزء السادس، تتوضح علاقة الألفة التي نشأت بينها والغابة، إذ صار لديها رفقة تبادلها سلسلة ذكرياتها عن أرض دافئة لا يزورها الثلج إلا “تبروري” على خجل، يذوب فور مصافحته لها.
تعترف لرفقائها الجدد:
” كُلنا كنا عصافير ذات يوم.. نأكل من أيادي الآخرين، وحين كبرنا أكلنا بأيادينا لكننا حين يصيبنا البرد، نبحث عن الدفء في أحضان الآخرين.
تعلمت السير في الصقيع، وأن البرد يهزمه المسير، وأن الدفء صنيع الحركة، ومنبعه الذات.”
تستفزها الأشجار الشامخة المتعالية القاسية هناك، فتتساءل عن شجرة منسية غرستها ذات يوم في أرض قاحلة؛ ” هل عاشت تلك التي غرستها بيديّ الصغيرتين بعد أن هيأت لها المكان ثم غطيت قدميها جيدا وسقيتها لمرة واحدة فقط، أم أنحنت وتكسر ظهرها، أم تقطعت أوصالها ونفخت فيها النار وتحولت إلى فحم للشواء.
الغابة تشتد بردا، وقلبي دافيء لكنه حزين، والقطن يناوش وجهي، أحاول أن اتذوقه دون جدوى.. أسير بين أشجار لم أغرسها، لم أسقها ولم أرها تكبر لكنها تحميني وتحمي الكثيرين.”
نعم، مليئة بالحزن هذه المذكرات؛ ولكنك ستتساءل؛ كيف يمكن للحزن أن يكون جميلا ومسالمًا كل هذا الحد؟
“لم امتص السكون إلا في أماكن ثلاث: بيت حناي حواء جدة والدي، الصحراء والغابة…سكون كثيف ومتماسك كحشو برتقالة.”، وبهذه العبارة تتأكد من أن الغابة أخيرًا لم تعد مكانًا جديدًا مثيرًا لأميرة الصحراء؛ بل جزءًا جديدًا من نسيج ذاكرتها، جنبًا إلى جنب يتربع إلى جوار النقيض الذي تركته خلفها، في مفارقة جديدة، ما الفرق بين السكون والصمت؟ تجيبها “شينا”:
“الصمت أمر حتمي لا خيار لنا معه..منبعه عادة خارجي، لكن السكون داخلي، علينا أن نبحث عنه….أنا تركت منتريال بعد أن درست الطب الصيني البديل وعدت إلى قريتي الوادعة باحثة عن السكينة”.
تختم عزة سلسلتها برسالة إلى صديقتها، تشكو لها عطش السنين الذي يترصد أعمارنا، هواجس ربما أثارها ذوبان الثلج عن الغابة، وتعاقب الحياة والموت، هواجس تهرب منها مجددا بذكرياتها وأمنياتها المدفونة تحت ثلج الغربة:
” يا صديقتي، هل لنا بهذا المقعد في شارع الشط، متجاورتان، بكتفين متلاصقين، تمضي بنا السويعات سريعة، بين حكايا وضحك ودموع..”
تزخر السلسة المكونة من 10 قصص بأكثر مما ذُكِرَ أعلاه، إلا أنني كتبتُ عن أشد الفصول ملامسة لقلبي، وبإمكان القارئ الفضولي التلصص على ذكريات عزة المقهور، فهي تكشف عنها بحب؛ إذ يبدو لي أن الالتجاء للذكريات والاحتماء بها، ليس حكرًا على المغتربين خارج الوطن، حتى المغتربين داخله بإمكانهم اللجوء لهذه الوسيلة لبلسمة جراحهم الناتئة، لعلنا.. لعلنا ننجو من شتاء الخوف والجوع واليأس، مثلما استطاعت أميرة الصحراء النجاة من شتاء الغابة!
__________________________________________________
للمهتمين بالاطلاع على سلسلة الغابة لعزة المقهور، ما عليكم إلا زيارة الحلقة التاسعة، ومنه سيجد روابط السلسلة كاملة أسفل النص:
https://www.facebook.com/Assaqeefa/posts/344900299471587