كتابة
النقد

الـغـزال والـبـكـمـاء

 
قابلتها صدفة في الكهف المائي. في بؤبؤ عين الشلال تحديدا. كنت آيسة من لقياها لكن القدر جمعنا ذات فجر هادئ مخملي.
في البدء لم اصدق أنني وجدتها بعد ترحال مضني. بضع لحظات وقفت فيها ساكنة. اتأمل محياها واشخص في إيماءها الضارب الجذور في الحيرة والحزن والضياع.
ها أنذا وها هي…
أنا الجسد الطيني المعبأ بالتجاويف… وهي السمو الذي يشع ألقا ويمنح الحياة.
أنا الهيكل المفرغ من كل المعاني.. المنتظر نفيه في أي لحظة، وهي الكوكب الدري المنقذ لحيارى العقول. الخازنة لسر الخلود.
وقفنا متقابلتين. نظراتنا المتبادلة تعانقت قبل أن يلتحم طيني بنورها السماوي. اشك بأن الفجر اقتبس ضياؤه منها، وخرخرة الماء ولطفه من تسابيحها.
كل شيء يلفني يوحي بأنه مستمد منها. كيف لي النكران وهي سيدة هذا الجمال. هذا الضياء.
تم اللقى مصادفة بعد غياب متغطرس..
صرت مثلها يجرفني شوق مجهول نحو عالم فريد. أنات خرساء تصطف على الشفتين. نتشارك في الإيماءات وتنشق رائحة المجهول، فيما يصفق الماء على الصخر مشجعا لغتنا المهووسة بتعابير الغموض.
لسنا سوى ارتجاع للصدى!.
كأقحوانة تعطر النفس. تنثر شذاها لأبعد مدى. قطرات ندى تمتزج بالدم وتجعل في الروح عشق غامض سرمدي.
غابت ومعها غيبت سر الأنين وحقيقة الصمت. حقيقة العودة وبدء الخلق… تبعتها في ستار الظلمة داخل الأحراش. كانت الأطيار تحلق فوقنا في دوائر مفرغة كأنها تنتظر كانتظاري لإيماءتها تجيبني على سؤال اومأت به برمش عيني… لـمـاذا تعود الأشياء؟.
 

الكاتب عبدالله الغزال
الكاتب عبدالله الغزال


“الـبـكـمـاء” هي إحدى القصص الموسومة بالتميز في المجموعة القصصية “السوأة” لكاتبها القاص والروائي الليبي “عبدالله الغزال”.
في الواقع ترددت كثيرا حيال كتابة هذه السطور حول تحفة الغزال وإبداعه الزاخر بصنف الخيال الملفت والآخذ بلب القراء مخافة أن يلتوي قلمي في منزلقات ركاكتي وشرود ذهني في عري كلماتي إزاء قامة مذهلة وغرقي في بحر خيالها الخصيب.
تراه أي شيء يمكنني التعبير به عن بكماء أيها المحترم الغزال؟.
اعتقد أن الكلمات لا تكفي…. لأول مرة أتمنى لو كان بإمكاننا كتابة لغة الإيحاء مجازا دونما أن نكتبها سطورا… من الروعة أن تخرس لسانك فلا تضطر للثرثرة والبوح بأسرار وهبت لك وتفسح لنفسك براحا للتأمل وسبر أغوار الروح… لتعترف في خلواتك بالشيء الكثير وتكتشف في الصمت ذاتك… تطارحك التساؤلات.. تجردك من كل سلطان. من كل قيد… تساؤلات مكتنزة بأجوبة صادمة محمومة ترغب لو أنك تنساها وهي تهاجمك منسلة من عزلتك كأفاع لا تعرف متى يحين ميعاد جوعها فتباغتك بلدغ يحيي فيك الشعور بناموس الحياة، وربما دائما ترافقك طمعا في عدم نسيانك كي لا تغفل…
ليس البكم مدعاة للسخرية والضحك أو استجداء لمشاعر الشفقة والحنو ولا هو عجز وعائق وعار لصاحبه كما هو في نظر بعضهم.. الحقيقة غير ذلك تماما، فهي انعكاس روح وفوضى تعبيرات شفهية مكتومة في شكل همس مرموز يعبق بالحب ويشهد بحلاوة المناجاة الصامتة.. يفرش ألوانا من السعادة لمن حوله ويحطم روتين الحياة بإيحاءاته المبهمة.
لعل ذا السبب الذي جعل الكاتب يهدي القصة لبكماء، مختارا لها هذه الحالة من الصمت لتنقل لنا صورا تأملاتها الطويلة…أسرارا خفية لا نعر لها اهتماما في خضم مشاغلنا اليومية.. لأنه ادرك بخياله الفضفاض أنها الأقدر على ربطنا بنقط البدايات ورسم منطلقات التحدث عن عالمنا وتجسيد الخليقة رغم انعقاد لسانها.
ثمة أشياء ليس بمقدورنا ادراكها كتلك التساؤلات التي تفاجئنا في سكوننا… من نكون؟ لماذا نحيا؟ لماذا نعود للأصول؟ ما سر خوفنا؟ لم لا نشبع؟ لم يفني بعضنا بعضا؟ متى نتحرر من آسرنا الطيني؟ ما حقيقة الموت؟ كيف بدأت النفخة الأولى؟…. أسئلة نقنع أنفسنا بإجابات واهية لها وأسئلة غير تبقى مدفونة في صحارى الأبدان عطشى منتظرة ارتواء صمتي يبعثها للخروج وانتشاق أريجها الملغم بالغموض.
حري بالكاتب أن اختارها لتهزج بأناتها لنا وتكشف سبيل الاهتداء لعالمها وأحلامها ورؤاها… لتفضي لنا بأن التأمل هو رمزية الوجود.

في البكماء نلحظ مشاهد متتالية متنوعة متباينة الألوان. بدت كلوحة لفنان خلد في رسمها كل ما اعتراه من مشاعر الألم والحزن والشجن والضياع والحنين وتجسيد الأحلام والهرب لرؤى قصية ومحاكاة كائنات لا تشبه جنسه، تاركا في ذلك بصمات تومض للإنسانية دروب التخاطب وطرائق التعامل مع مخاليق أخرى وارتباط وشائجهم الشعورية…
هنا نجد عرى وثيقة بين الآدمي وصدره المتوهج دائما بالشوق إلى الطبيعة وما يكتنفها من أسرار ومحاولاته الجاهدة في كشفها… مسألة العودة هي ما تشغله ويحن لمعرفة كنهها..
ترسم ريشة الغزال أولى المشاهد لفتاة متبرمة بضرب الأم. تحاول إيجاد نفسها في صمت يلوكها. تراها بين السطور تفر من شاطئ البحر إلى نبع الجبل. تقودها في ذلك الفرار رائحة عجيبة…كان ذا المفتتح بوصف دقيق للمكان الذي سيتم فيه عرض بقية المشاهد. مما يجعلنا نتوقف مشدوهين هو انغماس الكاتب في وصفه للطبيعة الخلاب وثم استنطاقه لها. مما يأسرك ويقودك لا شعوريا في الانغماس أنت أيضا معه وتصير دوحة مشتملة على الحب أو طائرا مرفرفا بجناحيه يدعو إلى السلام والسكينة. أو حبات رمل تكنز هياكل الأصداف والقواقع. أو بحرا تتهادى أمواجه المخضرة ملاعبة أسماكا طمحت في بلوغ سرمدية العيش لكن شباك الصيد لم تمهلها ثانية أخرى. أو نبع عين يدفق الحياة بلا مقابل فيؤرج ما حوله بعطور حميمية لم يسبق لها مثيل!.

لقد شربت الطبيعة غزالها كأس الافتنان وسرت في أوصاله مغذية شغافه بسحر الصبابة والذي بدوره يسكبه في كؤوس السطر، يروينا هوى وهياما خالدا لعباراته.
بالمختصر ‘أنت هو حين تقرأ… وهو يكتبك’.
نرى في مشاهد القصة قد عبرت الفصول الأربعة ونسجت سلسلة من الأسئلة والأفكار توحدت جميعها وانصهرت في بوتقة فكرة واحدة. حقيقتنا الجوهرية ومبدأ خلقنا وعودتنا في نهاية الأمر إلى جذورنا “الماء والطين”.
يشدنا الأسلوب التشويقي الذي يرمز إليه في كل عتبة يعنون بها تراتيله القصصية. عتبات مقتضبة جزيلة تحملك لتخمينات عدة وتجعلك تلتقم الكلمات كأثداء تغنيك عن سواها ولا ترغب عنها فطاما!..
البحر هنا تغرف منه أشياء جمة. ليس فقط مدعاة للأنس والدعة والراحة وشكاة لما في القلب بل هو أيضا رمز للموت ولون للفقد والانتهاء. يبدو ذلك في رائحة جر السلحفاة النتنة ورؤوس السمك المقطوعة وشبح الموت المطل من عيونها. تلك الأمواج العاتية الهادرة في وجه الأب والصيادين تبتلع كل سكون وأمل مرتقب وتسلب القواقع قلبها الرخو ثم تقذفها إلى الشط جثثا لامعة براقة.
هناك حيث الجبل وواحات النخيل وتلافيف الخضرة يرسم لنا لوحة تضج بالحياة بالعفوية المفعمة. يصورها وميض الألفة والبحث عن معنى طبيعتك الخامدة. تتصاعد منها لحون شجية تلاقي صداها مع لحون تصدح بها الأطيار وتهدل الحمائم. ينوح بها سعف النخيل وتحفحف معها أوراق الشجر. وتوقع حبات السلسبيل عزفها متممة اللحن الرخيم. باعثة في الصدر المثقل نغم الأنين.

هنا أيضا اختلط النور والعتمة. اليأس والرجاء. القوة والضعف. الوحشة والطمأنينة. الزمهرير والهجير. الألم والوجع الخفي. الطفولة والهرم والوعي واللاوعي. تطاردها أوجاع البيئة الخانقة. لا سبيل لها سوى اللجوء لهذا الفضاء الرحب. مشاركة الظلال عبورها فوق الأرض وحجب سلالات الذهب. ومرسلة للأزاهير رعونة صباها، شاكية في صمت لخرير الشلال هموم قلبها المتوجع… هنا في داخل الدغل تنزع عنها لظى مشبوب من الحزن والخوف السارق لإبتساماتها.. هنا تتبدل النفس منتشية بلقاء غرامي مع كائنات سرابية. تنسى كل صلاتها ببني البشر في حضرة الطير وانتشار الزهر وانطلاق اللحن..
هنا يعطينا الغزال أنموذجا رائعا عن الطفولة ويكشف لنا عن ترقب وخوف من مستقبل غامض… نلحظ أن صورة العصفور الأزغب الذي وقته من حر الشمس ونداء أمه فوق رأسها قد ارجعا إليها طفولتها والتقاطه لثدي الأم الضاخ لينبوع الحياة ونقطة نشوء الخلق!.
كذلك نلحظ في سطوره الفزع. الوجل من مرحلة البلوغ التي تعني لديها تحمل مشاق المسؤولية وقطع كل خيوط أمانيها الطفولية وترك عاداتها المحببة للقلب…
هي قررت الهروب من واقعها الذي لا ترغبه إلى ما تحبه وتشتهيه. إنها ترى في نفسها تفردا عن بقية الفتيات فلا يستهويها فعلهن وفرحهن بالزواج. بل هو فقط خوف يلاحقها من الرجال، لذا لجأت للفرار متحررة من التقوقع تحت ظل الرجل وتسلطه. تحررت من صلصالها. من سجنها الأرضي….
 
في المنتهى أحب أن ألفت الانتباه إلى أن هذه القراءة ليست نقدية وإنما مجرد قراءة خاصة تعبر عما احتواني حينما قرأت القصة.
 لقد كانت أولى ما قرأت فيما خطه القاص. من درر نفيسة.. ابهرني ذا النتاج النابض بالحياة… هنيئا لك على خيالك الطموح…”.

مقالات ذات علاقة

الصومال وليبيا توأمان في التاريخ المعاصر

سالم العوكلي

“محظية” بين الواقع والفنتازيا

إنتصار بوراوي

روحنة التصوف الشعري

هدى الغول

اترك تعليق