تبحر رواية «أراك في كل مكان» الصادرة عن دار «الرواد» للكاتب الشاب محمد التليسي، في حلقة مكملة لسلاسل الحلقات السردية السالفة، وربما يكون أقرب نماذجها «علاقة حرجة» للروائية عائشة الأصفر، اذ تبدأ الأولى من حيث انتهت الأخيرة التي تصف ردود أفعال زلزال 2011، ليكمل عمر بطل الرواية في «أراك» نتائج ذاك التصدع فارًّا بذاكرته التي تخلص منها جبر في «علاقة حرجة» إلى عالمه الجديد «لييج».
ينفتح العنوان على صورة مستترة لملامح الآخر الأنثوي الذي يتوارى ولا يندثر، يلتحف بالماضي والغموض، كما يتناثر على نسيج مسارب ذاكرة مهاجرة تتشوف لأحلامها المؤجلة، لذا تروم هذه النسخ المخبأة في تجاويف تتبصر مآلاتها، مانحة الذات ضرورات البقاء والمحاولة.
صورة الخلاص في الرواية هيمنت على مسار السرد وشكلت مظلة شاملة لأبطاله، لم تصنعها أقاصيص عن الفردوس الأوروبي في خيالهم، بل كانت خيارًا يتيمًا للفرار من جحيم الثبات، لذا جاءت نقلة البطل من جنزور إلى بلجيكا مدفوعة بكتلة متعاظمة من الإخفاقات تنتج في كل نقطة من مساراتها معادلتها الصفرية البقاء يساوي الموت.
> صدام الآخر
يتشبك البطل مع واقع البر البلجيكي، متخذًا شكلًا أوليًّا متعدد الأسباب، يصل عمر بهيام الحاصلة على دكتوراه في الفيزياء الفلكية، هي أيضًا محملة بتركة من الأوجاع لكونها محسوبة عائليًّا على «النظام السابق»، تتقاطع التركتان كذوات مكلومة، على شواطئ الاغتراب المركب، داخلي يساءل رؤيتها مع الماضي، وخارجي مصدومة بجدار الآخر.. الآخر الأوروبي المختلف الثقافة والتكوين، ويظل الاثنان مشدودين إلى منابتهما الأولى «ليبيا».
عمر: «أكون في قمة تعاستي عندما أفكر في أسرتي ووطني والآخرين».
هيام: «لو خير لي اختيار آخر يوم في حياتي لاخترت أن يكون غدًا وفي ليبيا».
ومقابل تلك يشارك المفازة الأوروبية، إضافة إلى البطل ثلاثي شبابي مهاجر، ويتقاسمون الأحلام والأمنيات، غارقون في مخاض تأسيس ذاكرتهم الجديدة، لكنهم يستديرون في كل مرة للشاطئ الأم كمعادل نفسي، لا بغرض التذكر فقط بل بتشخيص أبعاد السقوط، تتشكل في هذه الرباعية ضفتان، الأولى تنهض على سلم تجاربهم وأخرى تحتضن أسئلة هذه التجارب ولكن تظل إجاباتها معلقة: «لمَ لا يتوفر كل هذا في مجتمعاتنا العربية؟»، «تاريخنا يسرق ونحن مشغولون بالحلال والحرام».
> الصوت والفكرة
ما يميز الرواية في نظري قوة الفكرة القائمة على محاولتها تشخيص واقع ما بعد الهجرة، وما احتمالات مصائرها في حلمها المعلق، وهل كان ينبغي حدوث ذلك؟ لذا كان للسرد الاتكاء على صوتين أيضًا، الأول للراوي البطل والآخر لمجموع الشخوص، يقدم الأول سره في مصير أخيه خالد الذي طالته يد الدواعش بسرت، وهنا ينفجر صوت سؤاله الكبير المسائل لمنعطف 2011: «هل أفلح خالد ومن معه في تحقيق ما خرجوا لأجله؟ وإذا نجحوا لمَ أنا هنا وبهذه الحالة؟ وإذا لم ينجحوا ما حقيقة هذا النصر الذي شهده العالم بأكمله.. هذا ما لم أجد له تفسيرًا حتى الآن؟» ص43.
> الكتاب الجسر
يتماهى مصير الشاعرة الروسية «أنا إخماتوفا» مع النابض النفسي بين عمر وهيام لدى نقطة الالتقاء الثقافي الذي عبر خلاله كل منهما للآخر، كما يحيل البطل أيضًا وفي كل مرة على مغزى قفزته الكبيرة نحو البر البلجيكي، «ستمر عليك لحظة تتمنى التخلص فيها من ذاكرتك»، لكن شحنة الياباني موراكامي في كتابه «كافكا على الشاطئ» كانت بواقيها تنبعث على شكل ومضات مسترجعة من شواطئ جنزور، تزيل بعض من كلس أملاح «لييج»، وهي مرادف نفسي يدعم الذاكرة المشروخة أو هو يحثها على العودة للمكان الأم «ليبيا»، حيث الجسد والروح.
بوابة الوسط | الأحد 08 أغسطس 2021