يتميز أستاذ التاريخ د. محمود أحمد أبو صوة، في كتاباته التاريخية والسياسية، بإعادة النظر في المسلمات. وهذا الأمر، يفتح، بطبيعة الحال، سبلا جديدة للبحث، وينبه إلى مسائل تكتنفها العتمة، ما من شأنه تحفيز الباحثين وتوسيع آفاق التفكير وزيادة الإنتاج الفكري.
وفي دراسة له غير منشورة* عنوانها: “الهوية الليبية: مبحث في نشأة الدولة الترابية” يواصل دأبه هذا. فيثير قضايا غير مطروقة، أو تكاد، تتعلق بالتاريخ الليبي، والوضع الراهن في ليبيا.
نأمل أن تسنح لنا فرصة لاستعراض وجهة نظره في مسألة “الدولة الترابية” ومسارها في التاريخ الليبي، وفعاليتها في الوضع الراهن، وقضايا أخرى. لكننا فضلنا هنا لفت الانتباه إلى مسلمة من المسلمات تترتبط بالتصنيف العام للطبيعة السكانية في ليبيا التي استقر في الأذهان، بما في ذلك أذهان الليبيين، أنها ذات صبغة، أو أغلبية، بدوية.
يقول د. محمود أن الباحثين استسلموا “لفكرة نمطية تفترض وجود علاقة اقترانيه بين التراب الليبي، الذي تغلب عليه الصحراء، وبين أسلوب حياة يقوم حصريا على التضامن البدوي!”. وينقل عن مختصين إحصائيات تتعلق بالتوزيع العددي لطبيعة سكان ليبيا، مستهل القرن العشرين، تفند فكرة الصبغة البدوية للشعب الليبي. فقد كان عدد سكان ولاية طرابلس في تلك الفترة حوالي “569 ألف نسمة، 356.4 ألفا من الحضر المستقرين، و128.1 ألفا من أنصاف الرحل و48.5 من البدو الرحل… ومن بين سكان برقة الـ 184.4 ألفا هناك 134.3 ألفا من الحضر المستقرين و34.9 من البدو أنصاف الرحل و16.2 ألفا من الرحل. أما فزان المغضوب عليه إذ إن بروشين [الذي ينقل عنه د. محمود] لم يتطرق إليه، فقد بلغ مجموع عدد سكانه، وفقا لدي أغسطيني، 31600 نسمة، 27400 نسمة من المستقرين، و4200 نسمة من الرحل؛ أي أن نسبة الرحل في هذا الإقليم 13.29%.
بناء على هذه الإحصائيات يتضح ان مجموع عدد سكان الولايات الثلاث هو 785000 نسمة وأن مجموع عدد المستقرين فيها هو 517700 وبذلك تتجاوز نسبة الحضر المستقرّين في الأقاليم الثلاثة الـ 65%”. وبذا نستطيع القول “أن فرضية غلبة النمط البدوي، بحكم هيمنة المشهد الصحراوي على الأرض الليبية، هي فرضيّة […] لا تسندها […] الوقائع.”. والرجوع إلى إحصائيات من هذا النوع تعود إلى بداية القرن العشرين أمر بارز الأهمية، لأنه من المفترض أن طبيعة الحياة ومستواها حينها كانا أقرب إلى البدائية والاقتصاد الطبيعي. وما دام الطابع الجغرافي للبلاد تغلب عليه الصحراء يكون منطقيا توقع غلبة البداوة. إلا أن د. محمود، بناء على هذه الإحصائيات وتحليلات أخرى لسنا في سياق تتبعها هنا، يرى أن المجتمع الليبي في الفترة المشار إليها كان “أقرب إلى أن يكون مجتمعا ريفيا”.
ويرى د. محمود أن ممارسات دولة الاستقلال هي التي سببت انهيار الريف الليبي “ففي العهد الملكي سمح للمهاجرين بالإقامة في ضواحي المدينة في عشوائيات لم يشعر سكانها حتى بعد تطوير بعضها في العهد الجمهوري 1969- 1977م بالانتماء لهذا الإقليم (على سبيل المثال لا الحصر حي الأكواخ في طرابلس). وفي العهد الجماهيري (1977- 2011 م) ابتكر النظام منظومة (الروابط الشبابية) التي لم يكن لها من هدف سوى منع عملية اندماج سكان أقاليم الداخل في إقليم الساحل! وازداد الوضع سوءا فترة الانفتاح (1988- 2011 م) التي تشكلت خلالها أهم ملامح “مجتمع العشوائيات” في مدن الساحل! بناء عليه يمكن القول بأن هذه السياسة لم تتسبب في فقدان الساحل هويته الريفية التي حلت محلها الهوية البدوية وحسب بل وتسببت في موت مظاهر الحياة المدينية التي أسسها المحتل الإيطالي وحافظ على بعضها النظام الملكي”.
ويشير د. محمود إلى “أن التقاليد الحضرية في مدن الساحل لم تكن جد راسخة وهذا ما يفسر عجزها عن مقاومة عمليات الهدم المنظمة التي اتبعها النظام السابق بعد سنوات قليلة من الانقلاب! وعمليات هدم المؤسسات المدنية بالمناسبة كانت عمليات واعية اختزلتها مقولة (وانتصرت الخيمة) رمز البداوة (على القصر) رمز الاستقرار والحياة المدنية! والحديث عن بدونة المؤسسات المدنية وعسكرتها حديث يطول ولكن الأمر الذي يستحق التنويه أن البداوة والعسكرة لم تفسدا الحياة المدينية وحسب بل وأعادتا الحياة لعلاقات قرنوسطية تقوم على ثنائية (الإقطاع مقابل الولاء)”.
_________________________________________________
* أنا مدين بعميق الشكر للصديق د. محمود لمده إياي بكتاباته غير المنشورة.