كنت مولعاً بالمتناقضات، خرجتُ مرة، في الصباح الباكر، بسبب فكرة بلهاء خطرت لي، ان التقط صورة لساحة المحكمة وهي فارغة من حشود الثوار وصورة أخرى حين تحتشد مجددا، وهو ما بدأتُ القيام به،التقطت صورتي وفي نفس اللحظة توقفتْ سيارة مدنية بزجاج معتم بالقرب مني، نزل منها شخص بسروال عسكري وتي شيرت رياضي يضيق على جسده، على وجهه علامات النعاس أو ربما البلادة لا أعرف، وطلب مني الركوب في سيارته وقد اتخذ وضعية القتال، مبررا أنه يعتقلني لأنني التقط صوراً للمواقع الحيوية في الدولة، ثم أشار إلى الميناء المتهالك خاصتنا، ولم يكن التفاهم ممكناً.
كانتْ تلك آخر مرة أتتبع فيها رغباتي المنحرفة في حب المتناقضات، قبل أن يحدث التالي:
قبل أيام اقتنيت رواية بعنوان: “صباح ومساء” لكاتب نرويجي معاصر اسمه: “يون فوسه- Jon Fosse” الرواية يمكن اعتبارها نوفيلا، منذ الصفحات الأولى أصابتي “دهشة الاعجاب” من أسلوب الكاتب، وهو ليس بالجديد علي، فقد استخدمه النيهوم في “القرود” لكنه في هذه الرواية كان مذهلاً، بطيئاً وممتعاً، فأنت وسط جو غريب. الفصل الأول مخصص لمشهد ولادة الابن، والذي سيدعى “يوهانس” ، مليء بالصخب، العذاب، آلام الولادة والقلق، الما ورائيات والشكوك تجاه الوجود، بسبب ضغط الأعصاب وترقب استقبال المولود المتوقع، ابنه الذي سيحمل اسم والده وينقذه من التلاش. الزوج يتبادل كلمات خافتة مع قابلة متمكنة، جمل حميمة وبطيئة وأب قابع في المطبخ، لا يقترب من حجرة التي فيها زوجته، خوفا من النحس، من مكانه يترقب تفاصيل ولادة ابنه، ويسمع صرخات الألم من زوجته. نقرأ عن شخصين يتحاوران كأنهما في منطقة ريفية، حيث تخرج الكلمات بنبرة خافتة. الرواية تُركز على اليوم الاول والأخير في حياته.
الفصل الثاني مراوغ جداً، لأننا نجد أنفسنا أمام وضع غير مفهوم، ثم سرعان ما نكتشف أن الشخصية التي نتتبعها هي يوهانس، الابن الذي ولد في الفصل الأول، ولكن هناك خطب ما، تفصيل غامض، الروائي يعتمد على “صبر القارئ” كما يعتمد بثقة بالغة على أسلوبه السردي، فهو في الحقيقة، يمثل القوة الفعلية في الرواية، مثلا يُلاحظ القارئ عدم وجود نقاط في نهايات الأسطر في أغلب صفحات الكتاب، فأنت لا تنتهي من السطر إلا لتجد نفسك مباشرة في بداية حوار تأملي. ممتع جداً هذا الأسلوب، وهو يعيدك لعتبة الكتاب، إذ وضع “تنويه” يتعلق بعلامات الترقيم.
يبدأ الفصل بشكل هادى، إذ نرى يوهانس وقد أصبح مسناً، ووحيداً يستيقظ شاعراً بشد في عضلاته، راغباً في صنع قدح من القهوة، ويواصل الراوي تقديم تفاصيل حياة يوهانس، بلغة مغايرة كأنها نضجتْ فجأة ووصلت للسلام الداخلي، هنا نجد التناقضات تظهر تباعاً، لا أعرف غير هذا الوصف: “تناقض مقصود”.
الفصل الاول المتعلق بالولادة وفي الثاني نواصل الشعور أننا أمام موت وشيك، الموت الذي تلاعب به في الفصل الأول ولم يتحقق، إنه قريب جداً، وعلى العكس من الفصل الأول، نجد أننا في جو يسطير عليه الاستسلام والروتين، مثل اعداد الشطائر وصناعة القهوة، انتظار زيارات الأبناء ومخططات للسفر إلى بيت ابنته، كان قد أطلق اسم والده على ابنه، لانه توجب عليه أن يفعل هذا. ثم يبدأ يوهانس الاحساس بالخفة والشباب ويخرج للتجول بعد أن يعبر بعض ما سنعتقد أنها ذكرياته أو أحلامه، لنكتشف جزء كبيرا من حياة يوهانس، صديقه بيتر، والفتاة التي وقعا في عشقها في فترة من حياتهما، والتي تدعى آنا بيترسن، وهي تحمل نفس اسم القابلة العجوز التي ساعدت في انجاب يوهانس، والتي نلاحظ الحميمية مع والده، وآنا بيترسن العجوز التي تشتري السراطين من بيتر، بالاضافة لمأساة قصيرة، متعلقة بالاقطاعية، حشد غامض من الشخصيات يظهر أمامنا، والقارى بلا شك سيجد أمامه عالماً بسيطاً ومتشابكاً، شخصيات ميتة تبدا بالظهور، ربما في ذكرياته، اعتقد أنه تأثير إبسن، فالصحافة النرويجية تلقب يون فوسه: “إبسن الجديد” كنتُ قرأت وتأثرتُ بأحاديث “جورج برنارد شو” حول جوهر الابسنية: الأشباح والحوارات والذكريات والمشكلات القديمة المستعادة بين كلمات تلك الحوارات، كلها تظهر في هذا الكتاب الصغير والرائع.
أنه يشبه “اعتقالاً قصيراً” مثلما حدث معي إثر التقاطي لصورة في الوقت الخاطئ، لن يكون الوضع مفهوما جداً خلال لحظات الاعتقال، إنما الوضوح سيكتمل حتماً بعد فترة قصيرة من انتهائه، كتاب عبقري للغاية، شكراً للمترجمتين: “شيرين عبد الوهاب و أمل رواش” أتمنى أن يُترجم “يون فوسه” أكثر، وإلا لا حل سوى البحث عنه باللغة الانجليزية، أو أن نفعل كما فعل “جيمس جويس” تجاه أدب هنريك ابسن، الرجل تعلم اللغة النرويجية فقط ليقرأ ابسن.