في فعل التفلسف نزوعات استعلاء وكبر وصلف يضمرها صاحبها، لكنها تستبين رغم نواياه. تتمظهر هذه النزوعات على عدة مستويات. بداية، رغم أن نهج الفلسفة، كنهج العلم، يمارس في سياق ثقافة ظن وارتياب، ورغم أن الفيلسوف لا يثق في مستهل فعل تفلسفه في أي شيء، بل يبدي استعدادا للاشتباه في كل موضع تأصيل، بدءا من العقل والنقل، وانتهاء بالمنطق وأحكام البداهة؛ إلا أنه يعبر في النهاية عن نفسه بخطاب جزمي لا يقل تيقنا عن أي خطاب أيديولوجي. حتى أرباب النزعة الارتيابية يعبرون عن ميولهم الظنية بسبل أبعد ما تكون عن الإخلاص لنزعتهم. المرتاب يرتاب في كل شيء، ويشكك في دراية البشر بحقيقة أي شيء؛ بيد أن ظنية المعرفة عنده تظل أمرا يقينيا لا مراء فيه، وحكمه بعدم وجود أية حقيقة إنما يشكل عنده حقيقة لا شك فيها.
على مستوى آخر، ليس ثمة تراكمية ينجزها النشاط الفلسفي. وفي حين قد نختلف بخصوص علة هذه السمة التي يبدو أنها تسم النشاط الفلسفي، فإن فعل الصلف لا يستبان في شيء في السياق الفلسفي قدر ما يستبان فيها. كل فيلسوف عظيم ينكر ما خلص إليه الأسلاف، فلا يبدأ من حيث انتهوا، بل بنبذ ما زعموا تأسيسه. وإذا حدث أن قام الفيلسوف بالدفاع عما انتهى إليه الأسلاف، فإن في تسميته بالفيلسوف نأيا عن المعنى الدقيق لهذا الوصف، فهو في أفضل الأحوال مجرد دارس لهذا التخصص، تشغله قضاياه، دون أن تكون له رؤية يتفرد بها ويستأهل وفقها أن يضم إلى طبقة الفلاسفة الخلّص.
من منحى آخر، ينزع كثير من الفلاسفة إلى إقرار أن الفلسفة للخاصة، وأنه يتوجب من ثم أن يضن بها على غير أهلها. وحدهم الفلاسفة يعرفون أسرار الكون، وعلى عموم الناس أن يصدقوهم، وإن لم يفهموا هذه الأسرار. الفيلسوف بحق هو القادر على حدس الفجوات المستسرة في صرح المفاهيم، في حين لا يرى الآخرون سوى الطرائق المألوفة. الفيلسوف هو الحكيم بامتياز، وإذا صدقنا أفلاطون فإن علينا أن نولّيه علينا، نحن الرعاع، كي يسوسنا ويدير دفة الحكم وفق ما تمليه عليه تأملاته.
يقول نيتشه، لدى كل فيلسوف عظيم شيء واحد يريد قوله. الصياغات المختلفة التي يتوسلها الفيلسوف، عوضا عن أن تسم عرضه بالاجترار، لا تدين سوى اللغة التي تعجز عن تبليغ رؤاه بسبب شحن الرعاع ألفاظها بدلالات غريبة. على هذا النحو، فإن صلف الفيلسوف يجعله يرتاب حتى في قدرة اللغة على تمكينه من قول ما يريد قوله.
أيضا، فإن لدى الفيلسوف، حين يكون جديرا بهذا اللقب، إجابة عن كل سؤال. ذلك أنه يزعم أن نسقه يرد متكثر ظواهر الكون إلى حد أدنى من المبادئ والأسس العامة. التفاصيل التي يعنى بها العلماء تطرح جانبا، لأن ثمة ما هو أكثر أساسية، وأقدر على التأصيل. باختصار، الفيلسوف يعرف كل شيء، لأنه يعرف أصل كل شيء.
وأخيرا، فإن التعديلات الآدهوكية ملمح آخر يسم عملية الجدل التي تدور بين التيارات الفلسفية المتنازعة. التعديل الآدهوكي لأية نظرية، أكانت علمية أو فلسفية، لا يروم سوى تنكب النقد الموجه إلى هذه النظرية، ولذا فإن صاحبه عرضة لتهمة التشبث. ولأننا في السياقات الفلسفية نتعامل مع غيبيات، لا يجد التحقق الإمبيريقي سبيلا للتعامل معها، فإن الفيلسوف قادر دوما على تمحل السبل التي تكفل لنظريته البقاء. هذا في النهاية مأتى قول كواين، إن كل النظريات تدور في حلقات مفرغة، وإن الفرق بينها إنما يقاس وفق سعة الحلقات التي تدور فيها.
يبقى السؤال قائما، ما إذا كانت هذه الملامح التي تشي بصلف فعل التفلسف قارة في صميم هذا الفعل، أم ناجمة عن غرائب عارضة. حقيقة شيوع نزوعات الصلف والاستعلاء والكبر لا يدين الفلسفة ضرورة، تماما كما أن شيوع مقاومة النحاة محاولات تطويره لا تسم النحو نفسه. في النهاية، يظل هناك إمكان أن تسم تلك الملامح صلف الفلسفة كما تمارس، عوضا عن ترسم سماتها التي تحدد سبل ممارستها على النحو الذي ينبغي.
المنشور السابق
المنشور التالي
نجيب الحصادي
نجيب المحجوب الحصادي (25 أغسطس 1952)، أكاديمي ومترجم ليبي، له العديد من المؤلفات، يشغل كأستاذ في جامعة بنغازي.
المؤهلات العلمية: درجة الليسانس من الجامعة الليبية قسم الفلسفة، عام 1973. درجة الماجستير من جامعة جورجتاون عام 1977. درجة الماجستير من جامعة ويسكونسن-ماديسون عام 1979. درجة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن-ماديسون، عام 1983.
مؤلفاته: أوهام الخلط (جامعة قار يونس، ليبيا، 1989). تقريظ المنطق (جامعة قار يونس، بنغازي، 1989). تقريظ العلم (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1990). نهج المنهج (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1991). ليس بالعقل وحده (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1992). معيار المعيار (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1992). أسس المنطق الرمزي المعاصر (دار النهضة العربية، بيروت، 1993). آفاق المحتمل (جامعة قار يونس، ليبيا، 1994). جدلية الأنا-الآخر (الدار الدولية للنشر، القاهرة، 1996). الريبة في قدسية العلم (جامعة قار يونس، بنغازي، 1998). قضايا فلسفية (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 2004). مهارات البحث العلمي (مع خلف نصار وبسام عتيلي) (جامعة الإمارات، 2005). نتح الكمال (مجلس تنمية الإبداع، 2008). كتاب الأغاليط (جامعة قاريونس، ليبيا، 2010). دراسات في الوعي الأخلاقي والعلمي (جامعة قاريونس، ليبيا، 2010)
الترجمات: كيف يرى الوضعيون الفلسفة (دار الآفاق، المغرب، 1994). نظرية المعرفة (الدار الدولية للنشر، القاهرة، 1996). قراءات في فلسفة العلم (دار النهضة العربية، بيروت، 1997). رجال الفِكَر (جامعة قار يونس، ليبيا، 1998). المنتسخة (The Clone) (مشترك مع أ. بالقاسم الشتيوي)(الإدارة العامة للمعاهد، ليبيا، 2000). من وجهة نظر منطقية (مجلس تنمية الإبداع، ليبيا، 2004). إشكاليات فلسفية في العلم الطبيعي (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2004). دليل أكسفورد الفلسفي (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2005). التفكير الناقد في القضايا الأخلاقية (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2005). التفكير الناقد: طرح الأسئلة المناسبة (دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007). الجسد والنظرية الاجتماعية (دار العين، القاهرة، 2009). مبدأ الريبة (دار العين، القاهرة، 2009). النظرية السياسة (مشترك مع د. محمد زاهي بشير المغيربي) (منشورات جامعة قار يونس، 2009).
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك