• أول الكلام
الستينات في القرن العشرين، قفزة كونية في السرديات البشرية، لقد تمكن البشر من تحقيق الحلم، في السيطرة على الطبيعة الأثيرية، وتم غزو الفضاء وإليكترون معا، وركب الإنسان الصورة، التي منذ الستينات ستغدو اللغة، غزت الصورة الأرض وسادتها، فالتلفزيون صندوق العجب أصبح حقيقة دامغة، للفكر والثقافة وبساط الريح للفنون. وكان الترانسيستور العتبة الأولى لهذه الرقية، التي ستسمى الميديا إلهة العصر، ما عبرت الحدود، ثم هيمنت عليها وألغتها، منذ هذه اللحظة الاستثنائية، رسم خارطة طريق غير مسبوقة للبشرية، ستعرف بالعولمة التي خطتها بقوة غير مسبوقة في التاريخ البشري، واجتازت المخيلة بما عرف بالإنترنت.
الستينات، مسمى آخر لما بعد الحرب العالمية الثانية، وتختزل طورا آخر في تاريخ البشرية قاطبة: الصوت والصورة فالعالم الافتراضي، أيقونات تقنية لثقافة بشرية غير مسبوقة، ويمكن الجزم غير متخيلة، لقد نهض الجن من القمقم، لقد فتح السندباد غطاء القنينة، في اليوم الثامن من حكاية البشر.
ما بعد الحرب، قلبت العالم حركات التحرر، فظهر عالم ثالث أو هكذا سمي عالم ما بعد الاستعمار، بين هذا العالم وبين الترانستور وشائج، كما بين الصورة وتغير حال الثقافة، بسيطرة الصوت في العالم، عمت الانقلابات العسكرية العالم الثالث، وبسيطرة الصورة تشوش مفهوم الثقافة السائد والمعروف، وفي هذه اللحظة، كانت الصحافة الثقافية في عز رونقها، لأنها لحظة تحرر بشر، من تبعية جلية ومدركة، فنقلة نوعية إلى مرحلة تحقق الآمال الكبرى، كما وصمت فترة ما بعد الحرب، فاستقلال الشعوب وإنشاء الدول الوطنية.
طور العسكر، في العالم الثالث طور صدامي، مع الثقافة وهيمنة على وسائلها، بأن في حزمة من ايدولوجيات ديماغوجية، وقومية شوفينيه ورديفها الديني، في هذا الطور مما سمي بالعالم الثالث وحركات التحرر، انبثقت علاقة صدامية بين المسدس والثقافة.
لقد كانت الرصاصة وسيلة التحرر، ما لبست لبوس “تفاؤل الإرادة ضد تشاؤم العقل”، مثلا في مصر “جمال عبد الناصر”، تحت خيمة المستبد المستنير، زرع مفهوم الثقافة الجماهيرية، التي تحتكر مفهوم الثقافة، ما تحتكرها السلطة الحاكمة حينها. تم تأميم العقل ووسائل الثقافة، وبعثت الأساليب التداولية للثقافة الشعبية المرادة، فعمّ الإنشاء والخطابة والمشافهة واللغة الثالثة، ووسائلها الصوت والضوء، في هذا الطور، الصحافة الثقافية باتت ذات وجهين، وجه ظاهر مشرق وناعم، ووجه حقيقي مقموع ووجل، وبه تتغذى الجماهير الغفيرة، على زاد يومي، فيه الكتاب والأدباء، يكتبون بصيغة ضمير الغائب.
• بيروت الجزيرة!
إذا الصحافة الثقافية، باتت بين مطرقة طور تقني مأهول، وسندان سلطة غاشمة، لكنها كما كل الفعل البشري، الثقافة كانت تبثق، مثلما في الصخر تطلع النبتة الصغيرة، في تلكم اللحظة التاريخية، لعقل يبحث عن مأوى، كانت “بيروت الجزيرة”، التي هج إليها المثقفون العرب، غدت صحافة لبنان صحافة ثقافية!… وفي هذه الجزيرة، تلاحقت الأنظمة العربية العسكرية والعائلية، من أجل ملاحقة المثقفين الفارين، بإصدار صحف ودعم أخرى.
بيروت، كما أمست منفى المثقف العربي، باتت المنصة التي تطلق منها الأنظمة العربية، أبواق أحقيتها في السلطة، ومن ثم مشروعية سيطرتها، وفيها تلاسن العقل الفار، مع السلطة الغاشمة، ما ستصب الزيت على نار حرب أهلية هجرت ونفت العقول، ومن ثم الصحافة الثقافية، عن تلك الجزيرة، مأوى العقل المغدور…، وفي تلكم اللحظة، زرع عوسج اليوم، ما تحصده المنطقة والعالم، من الربيع العربي في فصله الأول.
• المنفي الوطن!
مثلما بدأت الصحافة الثقافية العربية، كـ “العروة الوثقى” في باريس، ستكون المنافي حاضنة لها، والمنفى والسجن صنوان، في سرديات الإنشاء العربي، منذ ما عرف بالنهضة العربية، التي كأن الصنوان سكتها.
ماذا يعني المنفى، غير الخروج القسري من الأوطان، حتى وإن كان مختارا كالهجرة، لكن من جهة أخرى، المنفى كان لكثير من شعوب الأرض، الأرض الأخرى والوطن البديل. وآداب وفنون خصبة وتجريبية طليعية، كان المنفى وطنها وميسمها، فكانت في النهر مصبا رئيسا، وفي الثقافة الإنسانية إضافة نوعية، كفسحة “ليون الأفريقي” كان المنفى قماشة “دون كيخوته”، “نبي جبران”، لوحة “جرنيكا” “حمامة” بيكاسو، أكسجين الرواية وديوان للشعر.
أحلام الحرية، التي كأنما المنفى معادلها الموضوعي، حيث تتنفس الثقافة باللغة الأم، وباللغة الثانية في بلاد المنفى، كما لم تفعل في موطنها الأصلي، ونجد – كما حصل مع اللغة العربية-، أن المنفى يجدد روح اللغة، ويبعثها من رقاد، لأنها عند مبدعي المهجر، منزلة الوجود.
وفي المهجر، مكمن ما استحدث الشدياق في اللغة العربية، وما استنهض جبران، أما الصحافة الثقافية، فقد كانت في المنفى، كما اليوم، وسيلة نشر للمنتج الثقافي، المحاصر في الوطن نفسه، ذلك زمن الاحتلالات، حين كان بلد الاحتلال المنفى، ما تمكنت فيه الصحافة الثقافة العربية، من الصدور، حتى الآن كما خلال العقود الماضية. المنفى متن، من متون الثقافة العربية وصحافتها، وليس هامشا فحسب، وفي زمن سابق، اتخذ المبدعون العرب من “القاهرة”، قبلة للهروب مما يواجهون من عسف وتضييق، خاصة في المشرق العربي، بعض منهم تمكن من تهريب نصوصه ونشرها، في هذه القبلة المنفى، التي في المنتصف الثاني من القرن العشرين تحولت إلى “بيروت”، ما تتشظى عقب الحرب الأهلية، إلى نيقوسيا وأثينا وجنيف وروما، وطبعا باريس ولندن.
• الحرية في السجون!
المنفى روح الثقافة الإنسانية، ومنها العربية، وقد ضاقت بها السبل في الوطن، الذي غص بالسجون، ما كانت أيضا منفذا آخر، لصحافة ثقافية، بإمكانيات السجون المعروفة والمتوقعة، فالسجن يضيق الحال والسبل، ولكن يمنح حرية، أن يبدع المبدع حريته، فلقد توفرت الظروف والوسائل، لتحقق هكذا حرية، وكما ثمة ثقافة المنفى، طلع نوع من الثقافة علينا، وصم بأدب السجون، في العالم كافة، زمن الفاشية والنازية، وعسكر العالم الثالث وما قبل.
وفي السجون أنشئ، ما يشبه دور النشر، التي أصدرت كتبا وإن بنسخ قليلة، وأغلفة كما الكتب المعتادة، وأيضا صحفا ثقافية، يتبادلها السجناء فيما بينهم، بعض هذا المنتوج، هرب من السجون، وصدر في كتب، ومما تم تسليط الضوء عليه بتكثيف، كما التجربة المصرية اليسارية زمن عبد الناصر، فهناك أعمال أدبية وفنية، كانت نشرت في السجن، طبعت ونشرت فيما بعد، لكتاب غدوا
من مشاهير كتاب مصر، كألفريد فرج، وصنع الله إبراهيم الذي في كتابه “يوميات الواحات”، نوه فيه بالحركة المسرحية، التي نشأت في معتقل الواحات، والروايات التي كتبت هناك، كرواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمود قاسم، والرواية تعتبرنواة لكل الروايات النوبية، وكذلك رواية “المتمردون” لصلاح حافظ، وقد حولت إلى فيلم أخرجه توفيق صالح، وقصائد “المسحراتي” للشاعر فؤاد حداد، وقد غنيت وكانت كتبت أثناء وجوده في السجن.
لقد صدرت مثل هذه المنشورات، في بلدان عدة، في إخراج صحفي، مرفقة برسومات لفنانين رفاق السجن، من التحقوا بالصحافة فيما بعد، وأضحوا مخرجين ورسامين مميزين بها، وأحدثوا في مجالهم نقلة نوعية، وقد ساهمت تجربة السجن تلكم في صقلها، لقد حدث ذلكم، في سجون عربية عدة، في المغرب والمشرق العربي ومنها ليبيا..