” حكاوي بنينه ” .. زواريب حرب تشاد .. لهيب الصحراء .. عناوين تلتقي عندها مذكرات شاهد عيان .. عاصر اتون حرب تشاد الدامية بين الشعبين الشقيقين في ليبيا وتشاد .. حرب اوغلت في الدماء .. انهكت الحرث والنسل .. التهمت الارواح البريئة .. باسم الوطن والامر العسكري الواجب التنفيد .. سيق الالاف من ابناء الوطن الى تلك المحرقة .. منهم من لقي حتفه .. واخرون عادوا مشوهين .. وغيرهم تاه في ارض الشتات .. ومن التهمتهم فيافي الصحراء .
الدكتور سالم الهمالي .. طبيب جراح .. ابن الجنوب الليبي .. واحة تمنهنت .. قادته الظروف اوان اشتعال فتيل تلك الحرب ضمن الفرق الطبية المكلفة بالذهاب الى الخطوط الامامية .. مسعفا .. يعود بعد مضي اكثر من ربع قرن على تلك المأساة ، ليساهم ، ويدلو بدلوه في توثيق الحدث وإثراء الذاكرة المنسية .. يروي مشاهد عاصرها بأسلوب سردي رائع .
عبر حلقات اشبه بالمسامرة عرض الراوي سيرة من زمن العتمة .. زمن الحرب الدامية بين ليبيا وتشاد .. يستدعي الذاكرة .. لإثراء ذاكرة وطن كليم اضناه ارق السنين .. تألم كثيرا ، ولا زال الجرح النازف ينزف .. كم من الامهات المكلومات لا تزال تعيش على امل عودة ابنها المفقود .. وكم من الامهات التي فجعت بفقد ابنها ولا زال طيفه يطاردها ليل نهار .
حرب تشاد صفحة من صفحات التاريخ المنسي لحقبة لم يتناولها الباحثين من قبل إلا لماما ، ولم تبرز كتابات لمعاصري الاحداث سوى مؤخرا ، ما بعد انتفاضة فبراير 2011 م . لعل ابرزها كتاب ” من المدرسة الى المعركة ” للطالب عبدالله صالح من بلدة القطرون بالجنوب الليبي ، وكتاب ” خفايا حرب تشاد ” للعقيد على ابوقصة من واحة قيرة بوادي الشاطئ بالجنوب الليبي . وما كتبه الدكتور فتحي الفاضلي الذي بدل جهدا في استقاء الاحداث وتدوين اللحظة والإحصائيات من وراء اسوار الوطن . اوآن اشتعال فتيل الحرب . مستثمرا وجوده بعيدا عن يد الجلاد .
مذكرات شاهد عيان .. نسجت بمشاعر الاسى والحزن العميق ، لفقد الرفاق ، ابناء الوطن ، في قاعدة السارة ، وادي الدوم ، وقطاع اوزو ، وفادا ، ووادي الناموس .. زمن الانكسارات والهزائم المتوالية . سردية القت الضوء على جانب مظلم ، وفتحت افاق ارحب لتفكيك اسرار وغوامض تلك الفاجعة الرهيبة المؤلمة التي ذهب ضحيتها الالاف من ابناء شعبنا ، بقدر ما هدرت المليارات من خزينة الشعب الليبي . واذكت براثن الحقد والكراهية بين الشعبين الشقيقين .. الشعب الليبي ، والشعب التشادي .. الذين ربطتهما اواصر الصداقة والمحبة والتاريخ المشترك ، عبر تاريخ طويل . وهي بما حملت من اسف وحسرة ، وألم ودموع ، ستبقى للتاريخ ، مدادا لجسر الهوة التي خلفتها رعونة المستبد .
” حكاوي بنينه ” هو العنوان الذي اختاره الكاتب لسرديته ، و ” بنينه ” هو ذاك الجندي الصادق الصدوق ، الذي رافقه طوال رحلته ، ومنذ اللحظة الاولى عندما اقلعت بهم سويا طائرة ” لينتينوف ” الروسية متجهة نحو قاعدة السارة في عمق صحراء الجنوب الشرقي لليبيا . وكان دائما قريبا منه ، اثناء قيامه بمهام اسعاف الجرحى ، وعلاج المرضى . يمازحه احيانا ، ويشاركه همومه واشجانه احايين اخرى .
” بنينه ” هو التمرجي الماهر خريج مدرسة الحياة . لم يسبق له ان درس اسرار المهنة بالمدارس والجامعات ، وكان خير رفيق عندما استوحش الطريق .
استغراق في المحلية ، ورهان الكاتب في احايين عدة على اللغة العامية الدارجة ، فاشية الاستعمال ، اللغة المحكية ، مع الحفاظ على اللغة الفصحى اس البناء القصصي ، ما اتاح له التسلل الى قلوب الخاصة والعامة ، ودونما كسر لتقنيات الخطاب الادبي . بصمة اخرى تعزز تجربة ثرية ومليئة بالمواقف المربكة ، والمفاجآت الصعبة . هنا جثة هامدة لرفيق الدرب ، كان يسامره ليلة الامس ، وجريح ينزف بشدة ، وإذ لا مناص ، الادوية والمعدات محدودة ، جلبة واهتياج لوقع هجوم مسلح ومباغت ، ترقب وانتظار وسط صحراء جرداء تبعث على الاكتئاب ، وحشة المكان ، والفكر في الاهل والوطن . وأجيال امتزجت احزانها بسافي الرمال ، وكفاح في مواطن الموت ، يا له من تاريخ طمرت اوداجه نجود حجرية ، ومرتفعات صلدة ، وبراح مقفر .. تعود لتحكي قصة الصحراء وقد كسبت المعركة .
يختتم الحلقة الأخيرة من سرديته على صفحته بموقع الفيس بوك .. يعزي نفسه .. والرفاق .. وكل الذين تفاعلوا مع الحلقات اوآن توالي عرضها خلال اكثر من شهر ونصف .. يقول : (هذا العمل هو ” الحقيقة ” كتبت على طريقة السرد القصصي ، قصد ” الوفاء” . لكل اولائك الابطال الذين طوتهم الرمال والنسيان ، و ” عبرة ” للأجيال القادمة).
تزاحمت تعقيبات الاصدقاء والمعلقين ما يتعذر حصرها ، من يقترح اعادة تصفيفها وتنقيحها واصدارها في كتاب ، ومن يختار اسما للكتاب ” لهيب الصحراء ” ، ” يوميات في السارة ” .. الدكتور خليفة الاسود من واحة تامزاوه وادي الشاطئ .. ينوب بكلمة شكر عن جميع المتابعين .. ( باسم جميع من تابعوا يوميات طبيب في السارة ” حكاوي بنينه ” ، والتي كانت إضاءة ساطعة على جزء من تاريخنا المطوي الذي اريد له ان يوارى عن الجموع ” صاحبة السلطة والثروة والسلاح ” . لكن ارادة الله ابت غير ذلك .. نشكر د . سالم الهمالي على سرده الجذاب والممتع والصادق والأمين .. انطلاقه ثقافية تنويرية على طريق المكاشفة والمصارحة لإخفاقاتنا كمجتمع رضي بالسكوت ولا زال يدفع ثمن سكوته الى اليوم ، من ماله وثروته ودمه .. ما نحتاجه اليوم ثورة ثقافية حقيقية لنشر الوعي كي لا نقع فريسة سائغة لكل مغامر ومستهتر بحياة ومصير الشعوب .. وان نغفر لموتانا ” ليبين وتشادين ” .. واختم بالقول : لقد تم نصح المقبور ذات يوم ، في مرحلة مبكرة من حربه الغادرة على الجيران ، بأنهم لا يستحقون كل هذا الدمار ، كان بإمكانه كسب ودهم وولائهم ، بفتح التجارة معهم ، وبناء المدارس والمعاهد بقراهم المعدمة .. يومها قال .. ” اني مانيش خايف من كمشة عبيد ومستعد انخش انجامينا بالسلاح الابيض ” !!! .. خيب الله ظنه ، وهزمه العبيد ، وانتصروا بما لديهم من اسلحة خفيفة على جيش جرار مسلح ومدجج بجميع انواع الاسلحة .. الطائرات المقاتلة التي غنمها التشاديون في وادي الدوم… وكان اعظم درس ، عاقبة الظلم وخيمة ، وثمن السكوت على الظلم اشد وطأة ) .
” حكاوي بنينة ” .. ومضة وخطوة نحو إماطة اللثام عن صفحات مطوية من تاريخنا المعاصر .. وفي هذا الكتاب محاولة لصقلها بصورة تسمح للقارئ الغير معتاد اللهجة العامية الليبية الاطلاع على خفايا تلك الصفحة المؤلمة الدامية . مع اضفاء بعض المقاربات المرتبطة بالاحداث كلما امكن ذلك . او تقديم وتأخير واختصار لتكرار ، وبما لا يخل بتراتبية السرد .
د . عبدالقادر الفيتوري