المقالة

ملاحظات حول معنى الإسلام

تعقيب الكاتب في حلقة نقاش أقامتها جمعية الفكر الدستوري بعنوان: كيف نفهم الإسلام؟

من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.
من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.

هذه مناقشة متحرّرة من التوثين والتابوهات الوضعيّة المقدّسة. وسوف أزيح ستار «الرقابة الذاتية» الذي أتوارى خلفه، لا لأختلس النظر، بل لأتيح للآخرين أن ينظروا.. ملء أعينهم.

نبدأ بسؤال أساسي: «ما الإسلام»؟ لن أتحدّث عن نشأته من الناحية التاريخية، لن أتحدث عن ماهيته كظاهرة اجتماعية متراكمة أنتجت آليات فعّالة من قبيل التغذية الارتجاعية فاخترقت حُجب القرون وتطاولت.. سأتحدّث عن معنى الإسلام باستخدام الوثيقة العربية الأشهر التي نسميها «القرآن»، متلمّساً تلك المفارقة اللاحقة لتوطين الوحي وأنسنته.

– 1 –

إننا إذا عدنا إلى نص الكتاب المقدّس (القرآن) نجد أن الإسلام الذي أراده ليس هو الإسلام الذي يُتَّبَع عند عامة «المسلمين»، ويقتصر على الديانة التي تسمّى هكذا، فالإسلام في القرآن نُسَخٌ عَدَدٌ بتعداد عصور الأنبياء، ولولا أن محمداً كان (خاتم النبيين) لكان رسولاً للعرب دون غيرهم، كما كان موسى وعيسى وغيرهما.

– 2 –

البلاغ المحمّدي هو آخر دوائر التبليغ بالإسلام وخاتمها، وقد أخذ الإسلام اسمه في هذه الدائرة ليشمل ما سبقها بألسنة السابقين، دينٌ واحد متّصل الدوائر وإن اختلفت الألسنة، ولا يخرج عن بلاغه أحد من أهل الكتاب أو غيرهم من الأميين، بل هي رسالة توخّت أن تبشّر الناس كافةً وتنذرهم.

– 3 –

الإسلام نُسَخٌ عَدَدٌ بتعداد الأنبياء، فمنهم من نعرف ومنهم من لا نعرف. نحن لا نعثر على معظمهم «تاريخياً»، ولكننا لا نقرأ عن أحد من الأنبياء إلا ورأينا صفة الإسلام تلحقه، فالموسويّون مسلمون، والعيسويّون مسلمون، والمحمديّون مسلمون، وهم جميعاً على دين إبراهيم( ).

– 4 –

إذا نظرنا في القرآن بصفته أهم وثيقة تاريخية عربية فإنه يخبرنا أن إبراهيم وذريته من أمة الشرق قد اتخذوا الإسلام ديناً، وواصل أبناؤه دعوته بشكل أو بآخر.. ذلك دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إذ وصّى يعقوب بنيه، فجميعهم أهل كتاب.

ويحوي الإسلام – وفق هذه الوثيقة – عناصر قديمة تبدأ بعضها منذ زمن سومر (دون أن تسمّى) مروراً بالأديان الكبرى اليهودية والنصرانية، فأقام بعض هذه العقائد، ونسخ بعضها، ونبذ بعضها، وأهمل بعضها دون أن يفصّل ذكر ذلك.

– 5 –

عندما بُعث محمّد كان أهل الكتاب من الموسويين والعيسويين سابقين إلى الإسلام يشتركون مع المحمّديين في الإيمان بإله واحد ويدينون بالدين ذاته، لذا أُمِر بألا يُجادلوا، والجَدَل اللّدَد في الخصومة، والقدرة عليها، والجدال والمجادلة المخاصمة والمغالبة، والجدل أيضاً المناظرة ومقابلة الحجة بالحجة، وجميع هذا مما تتّسع له هذه الآية.

– 6 –

حُفِظ من البلاغين الموسوي والعيسوي كتابان هما التوراة والإنجيل، والكتاب الذي بين يدي المسلمين بعد البلاغ المحمّدي هو القرآن، وكتاب محمّد لا يأخذ على الموسويين والعيسويين غير ما ذكره كقوله عن آل موسى أنهم ﴿-;-يحرّفون الكلم﴾-;- ذلك بخصوص سببٍ لا بعموم لفظ، وقوله عن آل عيسى الذين ﴿-;-قالو أن الله هو المسيح ابن مريم)، وغير ذلك مما ذكر في موضعه.

ولا نعرف أن قوماً شاطروا العرب كتابَ الله غير اليهود الذين تكلّموا لسان كنعان في دورةٍ، ثم لسان آرام المتفرّع عنه في دورةٍ. وإذا لم نخصّص كلمة «الزّبور» لدورةٍ مستقلّةٍ جعلناها دالّة على التوراة والإنجيل والقرآن جميعاً.

– 7 –

دعوة الناس كافةً إلى الإسلام إنما هو عمل المبلّغين من موسويين وعيسويين ومحمّديين فهو دين يجمعهم لا يختلفون فيه، وإن كان الظاهر منه الآن سطوةُ سدنتهم وكهّانهم وحاخاماتهم وربّييهم وشيوخهم، ولا كهانة، لا كهنوت، ولا رِبِّيَّة ولا مشيخة في الإسلام ببلاغاته الثلاثة، بل ذلك من عمل السلطة وتكريس النفوذ أُلبِسَ زِيّ الدين، والدين منه براءٌ لا علاقة له به، وأمثلة هذا الانتهاز تتكرّر على مدى العصور، وعلى غراره نقل القرآن من عقيدة للخلاص الفردي إلى تشريع ينظّم سياسة الجموع، أي تحويل الإيمان الديني من معرفة بسيطة إلى «جريدة عُرفيّة»، وهو ما أنتج فقهاً للدولة أو «جريدة قانونية» لتكريس سلطة الفقهاء. حلفٌ نشأ قوياً منذ البداية بين أمراء الشعار وأمراء الحرب.

– 8 –

الفقه في دلالته العامة نمذجةٌ اجتماعية للشَّرْع وتقنين واقعي للأوامر الإلهية تحت مظلّة الإيمان. وفي دلالته الخاصة هو انتقال من الدين كمعرفة كونيّة تتيح للفرد استلهام أسلوبه في الخلاص باتباع حدّ أدنى من الالتزام الذاتي، إلى الدين كجريدة رسميّة تشترط الالتزام الجماعي باللاهوت الإسلامي، وتصنّف محاولات الخلاص الفردي تحت بند الهرطقة.

كان المسلمون يؤسّسون لمدْوَنَة قانونيّة جديدة عندما نشأت بينهم كلمة «فقه»، فالعربية لم تعرف كلمة قانون عندما ابتدأ المسلمون تخريج الأحكام من القرآن والسنّة. وفي العربية «قانون كل شيء: طريقه ومقياسه»، ولكنهم شكّكوا في أصالة الكلمة عند العرب حتى عدّها كثيرون (كابن سيده) من باب الدّخيل المعرّب، قال ابن منظور (مادة: قنن): «القوانين: الأصول، الواحد قانون، وليس بعربي».

– 9 –

ليس الإسلام انغلاقاً على الذات المتعبّدة، أو يصير كهنوتاً يجعل من الشريعة عُرفاً للكهّان والسدنة، وليس الإسلام مسطرةَ حُكْمٍ أو يصير قانوناً يجعل منها تقليداً للملوك والحكّام.

– 10 –

كيفما بحثنا ونقّبنا وتدبّرنا الكتاب نجد في الإسلام توسّطاً عدلاً، وذلك من المعاني القيّمة التي نحملها على قوله: ﴿-;-وكذلك جعلنكاكم أمة وسطا) وللتوسّط أدلّة في الكتاب غير قليلة.

إن المسألة لا تكمن في الفصل بين الدين والدولة، بقدر ما تكمن في الوقوف على تعريف كل منهما، والالتزام بحدوده، فأن نجمع أو نفصل بينهما هو أن نجمع أو نفصل بين حقلين مختلفين، أو بين مجالين من طبيعتين لا يربطهما رابط، ولا سبيل أمامنا إلا أن نتوسّط التزام الدين وإتيان الدولة، فلا نبني من الدين معبداً نغلقه على أنفسنا، ولا نتذرع بالدولة نجعلها ملهاةً عن الدين. وإذا كنا نربأ بالدين عن الفصل عن أمور الحياة، فالأولى بنا أيضاً أن نربأ به عن اتخاذ الحكم في الدنيا غايةً له.

– 11 –

خلاصة القول .. الإسلام دين شامل أكملته ثلاثة بلاغات ما زالت نصوصها المقدّسة حيّة بين الناس: الموسويّ، والعيسويّ، والمحمّديّ. وشرط هذا الإسلام هو الإيمان بالرسل أجمعين، فإذا يفي المرء بذلك لا فرق بين أن يكون موسوياً أو عيسوياً أو محمدياً. أما الردّة فمفهوم أنتجته ضرورات التحزّب خوفاً من تصرّم الدولة وتقطّع أسبابها.

يستطيع الموسويّ أن يكون عيسوياً أو محمّدياً، كما يستطيع هذان أن يكونا موسويّين، إذ لا يرتدّ المرء هنا عن دينه، بل هو يختار بين البلاغات الثلاثة للدين ذاته، والأمر كما لو أن عيسوياً مثلاً يختار بين أن يكون كاثوليكياً أو بروتستانتياً دون أن يكفر، أو أن محمّديّاً يختار أن يكون سنياً أو شيعياً دون أن يكفر، كما يستطيع السنيّ أن يكون مالكياً أو شافعياً مثلاً. بالرغم من أن أصل الدين لا يعرّف هذه التشعبات وإن كان أتباعه قد أباحوها لأنفسهم لضرورات الصراع التي نشأت بينهم.

إذا يقاتل المحمّدي عيسوياً أو موسوياً، أو إذا يقاتلان محمّدياً، فإنما يقاتل الذي يقاتل أبناء دينه.

لقد كان البلاغ المحمّدي بنزول القرآن العربي خاتمَ صلة النبوّة وآخرَ الدعوة إلى الإسلام، بعد أن تنزّل الإسلام رسالةً إثر أخرى وبلاغاً إثر آخر منذ إبراهيم، ولولا أن القرآنَ ختامُ بلاغات الإسلام بعثةً للناس كافةً لكان للعرب دون غيرهم، فالموضوعة الأساسية واحدة متصلة أجزاؤها وإن تعدّدت الألسنة، فمعنى (مصدّقا لما بين يديه) أي ما سبق القرآن من الكتب بلغات أخرى.

مقالات ذات علاقة

ماذا لو؟

المشرف العام

استحقاقات السبق

عمر أبوالقاسم الككلي

أدوار النساء الليبيات!

فاطمة غندور

اترك تعليق