في الحلقة الثالثة من الحوار الشامل مع الأديب الليبي ذي الأصول الأمازيغية إبراهيم الكوني، الذي فتح فيه قلبه لـ«الوسط» ليبوح بالأسرار، طرحنا عليه عددًا من القضايا السردية التي يتمحور منجزه الروائي حولها، بينها منظوره ذو الطبيعة الجدلية عن المرأة، تطرقنا أيضًا إلى قضية الحرية في مؤلفاته. وروى لنا رحلته مع أدب دوستويفسكي في معهد جوركي بموسكو، وكيف انتهى به المآل إلى تخليه عن أطروحته الدكتوراه التي كان يُعدّها عنه، وأخيرًا يرصد الكوني علاقة الشرق بالغرب، وهو الذي انتقل بين عواصم وبلدان أوروبا في رحلة دامت لأكثر من نصف قرن.
المرأة نشاز في «معزوفة الزهد»
• ترى أنه «لم ينصف أديب عربى المرأة مثلما أنصفتها»، صحيح أنها وردت في السياقات السردية على أنها «الكاهنة» و«العرافة»، لكنها وردت لها سياقات أخرى توحي بأنها نذير شؤم ينتهي بصاحبه على نحو مأساوي، وهو ما عبرت عنه كتاباتك التأملية التي جاء فيها: «إذا دخل الله قلبًا خرجت منه المرأة. وإذا دخلت المرأة قلبًا خرج منه الله»، و«عدم استغناء الرجل عن المرأة ليس للمرأة شهادة براء».. كيف تفسر لنا هذه الجدلية؟
الموقف من المرأة ذو هويّة مزدوجة. ففي حين يملي ناموس السرد موقفًا إيجابيًا من المرأة بوصفها أمـًّا للعالم، يحمل الموقف الزهدي نزعة سلبية إزاء المرأة كنموذج فتنة، لأنها بهذا السلطان هي شر. فهي في الرواية نموذج يلعب دور البطولة ترجمةً لهويتها كطبيعة، أما في المتون التأملية ذات النزعة الزهدية، فهي هوية مغتربة معادية للروح. من هنا يشتعل الجدل المفروض بمشيئة الطبيعة التي نصّبتها في حياتنا أحجية ثرية الفحوى، وعصية الفهم في آن معًا؛ ولهذا السبب هي ذخيرة يضيق بها المستودع، والعمق فيها بلا قاع.
وأحسب أنها لم تتحوّل عَصَبًا للعمل الروائي إلا لهذا السبب الذي يجعلها دومًا مركزًا، شئنا أم كابرنا، دون أن نغفل أيضًا حُجّة الناسك في هذا الشأن. والازدواج في هذا الجدل إنما يسكن ازدواج الطبيعة الإنسانية كصفقة مبرمة بين الروح والجسد. فهي في رسول الروح خطيئة بقدر ما هي معبود بالنسبة للنموذج الدنيوي. واليقين أن هذا اللغز، المدعو امرأة، يتفتح في بُعده الأخير، ولهذا هي كنز الإلهام الروائي بامتياز، أما حضورها في المعزوفة الزهدية، أو فلنقل الشذرة الصوفية، فهي نشاز.
الحرية أيقونة الخلاص
• «الحرية» شمس دارت أعمالك فى فلكها متدثرة برداء البحر حينًا والصحراء أحيانًا.. هى أيقونة الخلاص التي تتوق لها شعوب عالمنا العربى.. ماذا تقول عنها؟
ماذا أستطيع أن أقول بشأنها يا ترى، أكثر مما قلت في 87 كتابًا حتى الآن، فالواقع أن العبارة بشأنها قد تضيق على مستوى التجربة السياسية، ولكنها تبقى بحرًا بلا ضفاف إذا تعلق الأمر بالحرية في بعدها الروحي. وقد نبهت على سبيل المثال منذ الأشهر الأولى إلى أن الثورات العربية الأخيرة سوف تنتهي إلى الإخفاق ما لم تتشبث بتلابيب الروح في حمى البحث عن الخلاص. ذلك أننا مصابون بوباء مميت اسمه الهوس بالنظام السياسي ظنًّا منا أن فيه تكمن الحقيقة، وهو وحده قادر على جلب السكينة لأرواحنا المريضة، في حين برهنت التجارب عن عبث البحث عن الحقيقة في أي نظام سياسي، لأن السياسة سلطة، ولا وجود لحقيقة في السلطة، لأن السلطة كلها شر، ولم تكن في تاريخها خيرًا ولا مرة.
ولا فرق في هذه النتيجة بين نظام سياسي نريد تغييره، وبين نظام سياسي نأمل توطيد أقدامه، إلا في النسبة، إذا تعلق الأمر بغاية كل تغيير وهي: العدالة. فكم مرة أتحفنا التاريخ بأنظمة شمولية كانت محتملة في حياتنا أكثر من أنظمة أخرى تتشدق بالديمقراطية، لمجرد ذر الرماد في عيوننا بنكتة الانتخابات، فإذا بها تخذلنا، فتسلبنا حتى الهامش المحتمل في ظل النظام الزائل!
فالجدير بأن نغيّره هو أنفسنا، وليس الأنظمة، ما دمنا نؤمن بأن الأنظمة السياسية ما هي إلا ظل العالم الذي يناصبنا العداء وجوديًّا، لتكون بمثابة الانعكاس لنا، ولسنا نحن بانعكاس لها، مما يحتم الاحتكام إلى الأصل في عملية التغيير، لا إلى الظلّ الذي هو العالم المتنكر في جُرم الأنظمة. فإذا حققنا هذه الأعجوبة، المتمثلة في تغيير ما بالنفس، فإننا كأفراد، ينتمون إلى مجتمع، ويكوِّنون البُنية التي يتركَّب منها جوهر العالم، كأصل في وجودٍ، النظام السياسي فيه مجرد خادم استقدمناه ليقوم فيه بدور الساعي الذي ينظّم شؤوننا الدنيوية، فإننا سنُحجِّم هذا المستخدم، الذي استقدمناه لهذا الغرض، ليحسن عمله من أجلنا نحن، بدل أن يتوهّم أنه خليفة الله في الأرض، ومن حقه أن يتسلّط علينا ليقودنا إلى الفردوس الموعود بالسلاسل، مستهينًا بقدس أقداس اسمه العدالة، وهو ما يعني أننا نحن، في الواقع، مَن يروقه أن يلفّق أصنامًا، لينصّبها على النفس طغاةً، عندما يُعجزنا أن نتولى أمرنا بأنفسنا، من خلال تغيير ما بأنفسنا، لأن سر الأحجية في ملحمة التغيير إنما يكمن في مدى قدرتنا على تغيير ما بأنفسنا، ولو كان هذا فعلًا هينًا لما وضع إله معبد دلفى حكمة الوجود في عبارة ملفقة من كلمتين اثنتين هما «اعرف نفسك!» لأن لا تغيير بالنفس دون معرفة ما بالنفس، ولا معرفة لما بالنفس، دون استكشاف الحقيقة: حقيقة وجود نحن فيه مركز، نحن فيه غاية، وكل ما حولنا هو وسيلة، مسخّرة بالطبيعة لإعلاء شأن هذه الغاية، والتغني بفحوى هذه الغاية.
فما يجب أن ننصره ليس العالم الذي نسكنه، ولكن العالم الذي يسكننا، مادمنا قد آمنا، مع مَن آمن، أن الحقيقة تهيمن فينا، لا خارجنا، وما ينبغي أن نفعله بأنفسنا ليس أن نهرع في طلبها في عالمٍ معادٍ لها ولنا بالسليقة، ولكن أن نفتش فينا، ونحفر بنصل أنبل غزوة كي نستخرج الذخيرة القدسية التي تسكن مجاهلنا عميقًا، وبعيدًا، برغم أنها أقرب لنا من حبل الوريد، لأنه بعيدٌ ما كان بعيدًا، والعميق العميق من يجده، تيمنًا بوصية حكيم الجامعة.
بهذه البطولة نستعيد الله، وباستعادة الله يبطل مفعول السحر الذي يدفعنا لملاحقة سراب اسمه العالم، طلبًا لحقيقة لا وجود لها في العالم، وطمعًا في تحقيق تغيير يستنكره العالم، لأن ليس للظل أن يستعير صلاحيات هي من صميم اختصاصنا نحن بوصفنا، في الصفقة، أصل، والهوية التي يتباهى بها العالم هي مجرد ظلّ.
دوستويفسكي.. المعلم الأول
• ورد في مذكراتك أنك قرأت بالروسية اعترافات أئمة ورموز الرواية الغربية عن تأثير دوستويفسكي عليهم أمثال النرويجي كنوت هامسون والألماني توماس مان والأميركي فوكنر والفرنسي مارسيل بروست.. فماذا عن أثره في الكونى؟ وماذا عن أطروحتك للدكتوراه التي رفضت استكمالها عن أدب دوستويفسكي في معهد جوركي؟
بالطبع دوستويفسكي هو المعلم الأول. وقد أقبلت على موسكو مسلحًا بروح هذا الحكيم منذ نشأتي في الصحراء الكبرى، تحديدًا من أم الواحات «سبها» الهاجعة بعيدًا في العمق، جنوب ليبيا. أقبلت على موسكو متأبطًا البضاعة التي كان من الواجب أن أتلقّاها هبةً من روسيا، لا أن أُقبِل بها على روسيا، لأن هذا الكاهن الخالد هو رمز روسيا الأول، أَحب مَنْ أَحبْ وكَرِه مَنْ كره، ولم يكن من قبيل المصادفات أن يأمر هتلر جنوده، عند غزوه لروسيا، بأن يكون لهم تميمة في زحفهم شرقًا لأنه هو مرآة الوجدان الروسي، ولا سبيل لاستجلاء نفسية هذا اللغز المستغلق منذ الأزل، كما هو الحال مع الإنسان الروسي، إلا بالاحتكام إلى دوستويفسكي، وفات هتلر أن هذا القديس هو عمق بلا قاع، والدليل أن دوستويفسكي ضلل أجناد هتلر، لتبرهن خسارة الألمان على وجود عمق آخر في رسالة دوستويسفكي لم يقرأوا له حسابًا.
بلى! أقبلت على روسيا الدوستويفسكية كما يقبل البلهاء على مدينة «تولا» حاملين «الساماور» الخاص بهم، كما يسخر المثل الروسي، وينسى هؤلاء أن «تولا» هي مصدر «الساماور» (الوعاء الذي يخمّر فيه الروس الشاي). ولكني فوجئت كما في كل مرة أني لم أخطئ في هذا التصرف برغم سخرية المثل الروسي في شأن أمثالي، لأني ببساطة لم أجد في روسيا روح روسيا. لم أجد في روسيا السوفياتية وجودًا لنبي الزمان دوستويفسكي. والسبب؟ السبب لن يكون هنا سوى الأيديولوجيا. هذه الأيديولوجيا التي كانت في حياتي منذ البداية لعنة، وإليها يرجع الفضل في دفعي إلى المنفى الذي لم يكتب لي أن أعود منه يومًا، كل ما هنالك أنها تحجبت في البدايات بقناع قومي معادٍ بطبيعته للأقليات التي أنتمى إليها، أما في حال روسيا فتحصَّنت بقناع أممي، أو شيوعي، برغم أن بذرة الشر في كلا المذهبين واحدة، لأن قاسمهما المشترك الأعظم هو احتكار الحقيقة لا جدلًا، ولكن مسبقًا، وهو أسوأ ما في الأيديولوجيات قاطبة؛ وكم كنت مدينًا لهذا الناسك العظيم لأنه أوّل من نبهني إلى خطورة مثل هذه التقاليع المميتة في مسيرة الجنس البشري، على الحقيقة، وعلى وجودنا الروحي، عندما تتلمذت كما تتلمذ كل عظماء أدب القرن العشرين على رواية تصلح هنا «مانيفستو» في إدنة الأيديولوجيات، وهي: «الممسوسون»، التي تنبـأ فيها باستيلاء الشيوعيين على السلطة، فلم يملك إلا أن يحذّرنا بذلك البيان البليغ إلى ما ينتظرنا، ليفند، بروح نبوية، «البيان الشيوعي» الذي صار تعويذة الظامئين إلى سفك الدم في سبيل التغيير، وهو ما حدث حرفيًّا تاليًا.
وعل من سوء حظي أن يتزامن إقبالي على روسيا في المرحلة التي هيمن فيها هؤلاء على الواقع الروسي، لينكروا هوسي بالمعلم الذي استصدروا في حقه حكم الإعدام منذ وصولهم إلى الحكم، لأجني نتائج هذا التحريم برفض أطروحة الدكتوراه التي عنونتها بـ«دوستويفسكي بين حجة إبليس وحقيقة المسيح»، لأن الفحوى فيها هي محور كل إبداع هذا الرأي الذي لا يتكرر. فهل أفلح زبانية الأيديولوجيا في أن يميتوا في قلبي وهج هذا الشاعر الملحمي الذي لا يقارن إلا بهوميروس أو شكسبير؟ كلا، بالطبع. الواقع أن موقفهم إذا كان قد حررني من أطروحة لم أعوّل عليها يومًا، بيد أن الفضل يرجع إليه لكي أستوعب درس دوستويفسكي، بدل أن أستنطق عمل دوستويفسكي. إنه التحدي الذي يحيي في النزال مع القمع الذي يتوهم أنه يـُميت.
صراع الشرق والغرب
• كيف ترى وأنت من قضى نصف قرن في أوروبا علاقة الشرق بالغرب في ظل جرائم الإرهاب التي تطوِّق رقبة العالم؟
ليس مصادفة أن يكون سبب كتابة أول عمل مرجعي في التاريخ هو الصراع بين الشرق والغرب، كما يعترف أبو التاريخ، هيردوت، في متنه الرائد. وعلّ من المهم أن نلاحظ أيضًا موقف هذا الحكيم من هذا الصراع عندما يتهم الغرب بإشعال فتيل هذا النزال يوم تحالفت كل أمم اليونان وزحفت لتدمر حضارة عظيمة هي طروادة، ليكون هذا العمل سابقة ما لبثت أن تكررت بسواعد أكبر وريث لحضارة اليونان وهي روما التي لم تتردد في أن تدك حصون قرطاجة وتمسحها من الوجود، ولم تكتفِ، ولكنها أبت إلا أن تحرث أرضها حرثًا، ثم تبذر في أحشائها الملح كي ينقطع دابر نسلها إلى الأبد، مما ينم عن غلٍّ عدمي لم يترجمه هذا الفعل الشنيع في حق الأرض وحسب، ولكن مؤرخي الرومان لم يستحوا أن يخبرونا أن حكم الإعدام بحق قرطاجة لم يكن نزوة من قائد أسطوري مثل «سكيبو»، ولكنه كان وليد نية مبيتة، طبقًا لخطة مسبقة، كان «كاتون» الأسطوري أول مَن دأب على التحريض عليها. ليس هذا وحسب، ولكن لو عدنا إلى الوراء، إلى العصر اليوناني، لاكتشفنا أن الشهوة للإيقاع بالشرق لم تكن وليدة مزاج «أغاممنون»، أو رغبة أخيه «مينلايوس» في الانتقام من «بريام» بسبب اختطاف امرأة، وإلا لاغتفرنا لأناس غيورين كاليونانيين فعلًا كهذا، ولكن قيام ملك ليديا «كريوز» في مرحلة تلت، بغزو الفرس تلبيةً لقراءة خاطئة لنبوءة عرافة معبد دلفى، أمر يبرهن على عداء ينام عميقًا في باطن العقلية الغربية كما يبدو مادمنا نتحدث عن الجذور التاريخية لعداوة لا نستحي أن نصفها بالمجانية؛ لأن الأسباب المنطقية لخوض حروب من جنس الإبادة على هذا النحو ظلت غامضة، وكان يمكن التسامح معها فيما لو لم تضع حجر الأساس لعداوة مازالت الإنسانية تجني ثمارها المريرة إلى اليوم، لنكون شهودًا كيف تروّج لها أيديولوجيات الحداثة، فلا تكتفي، ولكنها تفلسفها في حملات التحريض المحمومة.
وهو ما يعني أن خطايا الشرق في الآونة الأخيرة في حق الغرب ما هي إلا ردة فعل لتجربة تاريخية يرى فيها الشرق كم كان ضحية. ولكننا لو تأملنا العقلية مليًّا فإننا لن نتجاهل الحجة التي يُسوّقها الغرب مبررًا لعدائه للشرق الذي نصّب في نظره الاستبداد معبودًا في زمن رأى فيه الغرب منارة حرية، وهو لهذا السبب النموذج الذي يجب أن يكون للخليقة قدوة. ولكن الشرق يأبى إلا أن يكابر بالطبع فيتهم الغرب في أدبياته بالاستعلاء، والنزوع إلى الإملاء بحرف القوة لا بمشيئة الجدل أو الحوار. ولو حللنا رؤية الغرب لعالم الشرق في زمن الحداثة هذا لاكتشفنا أن حجة الغرب في حق الشرق مازالت قائمةً كما طرحت منذ ثلاثة آلاف عام، وحملات الغرب في العقود الأخيرة كلها يمكن أن تندرج تحت لواء هذا البند التليد وهو رغبة الغرب في تحرير إنسان الشرق من استبداده، وسوقه إلى جنبات الحرية «الديمقراطية» مغلولًا في السلاسل!. أما صراع الديانات في اللعبة الدموية فهي مجرد أقنعة للعقلية الموروثة التي تكاد تتحوّل لدى الفريق طبيعة ثانية!.