الروائي إبراهيم الكوني - المترجم ابوبكر يوسف
طيوب عالمية

إبراهيم الكوني يكتب عن أبوبكر يوسف في أربعينيته: فتنة الظل (2 – 2)

بوابة الوسط

في الوقت المشفوع بالخواء، الذي تتسابق فيه جموع السواد الأعظم لتتصدر المشهد، كي تنال حصتها من السلطة، تنسحب قلة القلة إلى ظلالها القصية، كي تختلي بالحقيقة التي لم يكن لها وجود يومًا خارج نطاق التجلي، إيمانًا من هذه الفئة بأن التغيير الذي تطلبه الأغلبية في رحاب الواقع الحرفي هو قبض سراب؛ لأن هذا الواقع هو ظل واقع، هو شبح واقع، هو انعكاس لواقع آخر يسكن لغزًا اسمه الإنسان، ولو لم يكن الأمر كذلك لما صار حامل هذه الشفرة مقياسًا للكائنات، وللموجودات، ولكل ما حوته الأرض.

الروائي إبراهيم الكوني - المترجم ابوبكر يوسف
الروائي إبراهيم الكوني – المترجم ابوبكر يوسف

إنه انعكاس بائس لفحوى هي قدس أقداس ما دامت الحقيقة فيها رأس مال. ففي هذا البعد البعيد، المسكون بالتخلي، المعتنق لدين التجلي، المحموم في طقس تحديقه في سيماء الحقيقة، ينسج المريد قدر ميلاده الثاني، المغاير لميلاده الأول، المنبثق من رحم الطبيعة، فلا فضل له فيه، ليهدهد، بهذه الصلاة، حلم تغييره: تغيير الهَم فيه ليس تغيير ما بالعالم بطبع، ليس تغيير ما بالظل، ولكن تغيير ما بالأصل، انطلاقًا من إيمان عميق بعدم جدوى أي محاولة لإحداث تغيير ما لم تنطلق من بطن هذا الباطن العصي، ولكنه الثري، بقدر ما هو عصي. وهو ما قد يعني أننا نذهب طوعًا لنستجير بالظل في تجربة تمكننا من ممارسة حبك النور لتبديد ظلمة يهيمن فيها ظل العيان، ليلعب هذا الظل دور البطل، مستعيرًا مسوح أصل يبقى مغتربًا ما ظل رهين باطل هو العالم.
وهنا تسكن المفارقة. فالظل بُنيةٌ مركبة تعتنق الجدل: ظل حرف، وظل بُعد مفقود. ظل طبيعة، وظل كينونة. والظل من هذا المنطلق ضدٌ شغوفٌ، كما الضد لضده دومًا ظل شغوفٌ. وهو ما يستهوي لتبادل الأدوار عملًا بوصية اللهو. فكما يهفو مريد التيه إلى ظل شجرة ضائعة في الصحراء، يهفو مريد الحقيقة إلى المثول في حرم الخلوة، كي يتمكن في الظل من استجواب الظل الذي يسكنه، ليُسائله عن الذخيرة المنسية. والانقطاع فيه تجربة فرار. فرارٌ من ظل الواقع الذي يسكنه، بالحج إلى البعد المفقود لاستجداء الحلول. حلولٌ مشروطٌ بتوبة. وهو ما لا يتحقق دون النزيف. لا يتحقق دون قربان. والعالم في هذه الصفقة هو الفدية. ففي قلب كل منا يحيا هذا الحنين كهاجس حميم، ومن أوتي نصيبًا وفيرًا من مس وحده يستسلم للإغواء، فيسري، ولا يعود إلى الوراء ما لم يغتنم الذخيرة المنفية، التي تحيي بقدر ما تميت، كما تميت بقدر ما تحيي، وهي النبوءة التي يبشر بها كل حضور في برزخ. والبرزخ حرية لأنه خضم الغريق الذي لا يكتفي بامتلاك الأفكار الحقيقية، كما يُجزم أورتيغا إيجاسيت، ولكنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة برمتها، ليغدو هويةً لوطن مسكون بالحقيقة.
الظل لا يستهوينا إلا لهذا السبب. يستهوينا لأنه نظير جبل الجليد الذي لا يبدو منه سوى العُشر، أما التسعة أعشار الباقية فهي في الغمر، في العمق، وهنا التحدي. وعندما نقول إننا غير معنيين بالواقع، فهذا يعني أننا معنيون بظل الواقع، لأنه هو الفحوى في الواقع. أما الواقع، في بعده الحرفي، فليس في الصفقة سوى الحجة التي نستجير بها كي ترشدنا إلى المخبأ، حيث تسكن الذخيرة، وإلا لما استجبنا للإغواء الذي يستدرجنا إلى وجار الحصيلة بفنون الإيماء، توقًا لأن نتغنى بشطح الإشارة، ما أن تعجزنا الرطانة. وعل ما يثير الفضول هو موقف الظل النقدي من الوجود في واقع، السلطة فيه رأس مال. السلطة في بعدها الوجودي بالطبع، لا السياسي وحسب، ولهذه العلة يبدو مريد الظل، في نظر خصمه صاحب السلطة، مريبًا، بل ومعاديًا بالمبدأ. ليس صاحب السلطة وحده من يناصب مريد الظل العداء، ولكن المرأة أيضًا. فهو بالنسبة لكليهما أحجية مشبوهة تنهمك في تدبير مكيدة، تهدد وجود هذين القطبين الموسوسين بامتلاك العالم. ومريد الظل وحده يريد تدمير عالم هو حكرٌ عليهما وحدهما. فصاحب السلطة إذا كان يعادي صاحب الظل بسبب غياب الحس الجمالي، فإن المرأة تعاديه بسبب غياب الحس الحسي، لأن إماتة الحواس دين لم يكن ليسود لولا مواهب مريد الظل الزهدية. فلسنا في حاجة لأن نستنتج أن مريد السلطة، في العلاقة بالجمال، هو أكثر عماءً من خُلد! لأن الأقدار لا تتنازل عن غنيمتها التي كانت حكرًا عليها، كما هو الحال مع السلطة، لتهبها لمخلوق فان، دون ثمن جسيم، كأنْ تنزع من قلبه الحب، أو تحرمه نعمة الإحساس بالجمال، فيصاب بعمى الألوان، كلما عَن له أن يتنازل عن منافي حصونه، لينزل حضيض الخلق ليتخذ لنفسه قرينةً، وإلا مَن منا رأى في جوار سلطان إمرأةً تستطيع أن تتباهى بحسن الروح بالإضافة إلى حسن السيماء؟

إنه القصاص المختط بمشيئة الغيوب في حق من تجاسر على تحدي الآلهة، فشاركهم ما كان بالطبيعة حكرًا عليهم وحدهم، باختلاس صلاحيتهم، ليدعيها لنفسه. ففقدان الإحساس بالجمال ليس سوى شق في العقوبة المستحقة، لأن الأسوأ من انعدام الإحساس بالجمال، هو الشق الثاني من العقوبة، أي: فقدان الإحساس بما هو أعظم شأنًا: الإحساس بالحرية!
ولهذا السبب لا نخطئ عادةً عندما نردد كم هو مخلوقٌ بلا روح مريد السلطة هذا. أقول مخلوق، لأننا لن نضمن وجود هوية إنسان في جسد بلا روح! لهذا السبب تفر المرأة من قصر صاحب السلطة، لتستودع قلبها درويشًا سكن الظل، ليقينها بأنه وحده الروح التي سكنت روحًا؛ ولتُصيب، بحضورها في حرم الخصم، عصفورين بحجر: تُبطل مفعول المكيدة ضد عالم هو عالمها، ثم تستعير من خزنة الروح غنيمتها الضائعة بالسليقة. فسكان الظل الذين فتنهم الظل يومًا، فلاذوا به، هم مَن خولتهم الحقيقة لأن يكشفوا زيف الظل، المدعو في رطانات الأمم عالمًا، ليطرح نفسه علينا بعبعًا، نحتكم إليه ظنًا منا أنه أصلٌ، وليس مِسخًا لئيمًا، مستنسخًا بدهاء من أصل أصيل لكي يعمينا عن حقيقتنا كشركاء في وجود نحن فيه كلنا غرباء، فكيف لا نعزي أنفسنا، في محنة اغترابنا، بوجود فردوس مفقود، لم نكن لنلهث بحثًا عنه لو لم يَضِعْ منا يومًا، ولن نتردد اليوم في أن نختلق وجوده حتى لو لم يوجد في أي يوم؟
فهيهات أن نرتجي خلاصًا في زمن السواد الأعظم فيه يتبوأ عرش السيادة، بل لا يستحي أن ينصب نفسه على العالمين ربًا بوحي من أفيون الحداثة، الملقب باسم الأيديولوجيا، فلا يكف سدنتها عن التغني بخصال هذا السواد، ليخلعوا مسوحًا قدسية على أناس لم يفقدوا صوابهم إلا بسبب انتمائهم إلى طينة هذا السواد.
فمجرد التشكيك في مواهب هذه الملة يغدو في أدبيات اليوم خطيئة لا تُغتفر. خطيئة تسابقت القوانين الوضعية لتلفق في حقها صنوف القصاص؛ لأن أدنى مساس في حقها، في عرف الحداثة، هو جرم يفوق في وزنه التجديف في حق الربوبية. ولهذا السبب صار الانتماء، مجرد الانتماء، إلى هوية الصفوة تهمة! تهمة لا تستدعي إقامة برهان. لأنها، في عرف السواد، الذي يتولى زمام أمر عالم الحداثة، بمثابة مكيدة تهدد النظام الذي يقوم عليه الكون. ولهذا كانت الإدانة جاهزة في حق من انتمى إلى رحاب هذه الحضرة المشبوهة. يحتكم سدنة السواد الأعظم إلى هذا الجنس من التدابير لكي يكتموا أنفاس العدوى. لكي يتقوا الوباء الذي يخفيه مريد الظل في أعطافه وإلا بأي مزية ينال اصطفاءً هو في كل الأعراف حظوة؟
فالفرار من واقع الحرف، والاكتفاء بأدغال الباطن ملاذًا، وحده شبهة كافية. وحده مبرر للعداء. وحده حُجة لوجود أمر جلل. وهذا الأمر الجلل الذي يضحي المريد الشقي بالدنيا بسببه لن يكون في نهاية المطاف سوى المبدأ الذي يجتنبه الكل، برغم أن الكل يتشدق به، بل ويدعيه، كما هو الحال مع عنقاء الأزمنة: الحقيقة!
وعل تلك الفئة التي تعاطت أفيون الأدلجة أمدًا طويلًا، في ذلك الزمن الموبوء بهذا الوباء، تدري كم هو مسألة حياة أو موت أن تحتال على هذه العنقاء، وتعمل كل ما بالوسع لاحتكارها: احتكارٌ سوف يجهز على هويتها بالطبع، لأنها القيمة الوحيدة التي لم تقبل الإحتكار، تمامًا كما لم تقبل في تاريخها قسمةً.
فالركون إلى جناب الظل ليس سقوطًا في هوة. ليس قبولًا بالقمقم. ليس اختباءً خلف باب مغلق، لأن الظل هنا ليس، في الواقع، ظلًا إلا للمراقب الذي يترصده من خارج. أما مَن اختاره للمقام فهو حاجزٌ شفيف، ضربٌ من غلالة تقود إلى مجهول كان حتى الأمس القريب غيوبًا غنيةً بما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر بقلب بشر. فهل نخطئ إذا قلنا أنه الملكوت؟ هل نخطئ إذا نعتناه بالفردوس؟ ألم تكن الروح في يقين كل الأمم رديفًا وحيدًا للملكوت، وللفردوس، ولكل ما مت بصلة للحلم، بما أنها، وحدها، حرية؟
بلى! الرهان، في حال الظل، هو الحرية. فماذا يستطيع المخلوق الفاني أن يصنع بنفسه، بل وبكل حياته الفانية، إذا لم تهرع لنجدته الحرية، لأنها التميمة السحرية الوحيدة التي يستطيع أن يبدع، بعونها، رسالة تهب رحلته المعنى؟

4
النموذج «اليوسفي» ظل وفيًّا لفردوسه الخاص حتى بعد إعلان إفلاس المشروع الأيديولوجي، وانهيار حلم استعادة الفردوس، عكس أقران عدة أفقدتهم الصدمة صوابهم، فتنصلوا لمبادئهم، كما حدث مع جلال الماشطة مثلًا، الذي لم يجد حرجًا في أن يعترف لي، في إحدى إجازاتنا الخريفية في الريف الروسي، كم كان ضحية الهوس بالشيوعية. أقول اعترف لأن الماشطة كان أعند مَن عرفت في إيمانه بهذه العقيدة طوال عقد سبعينات القرن. وهو هوسٌ إذا كان جنسًا منكرًا في غلوائه، بيد أني كنت شخصيًّا أكثر مَن تسامح بشأنه ليقيني بأنه إنما ينبع من طبيعة فطرية لا تستحي أن تعتمد الحدود القصوى إذا أحبت، ولا تتردد أن تعتنق دين الحدود القصوى أيضًا إذا كرهت. وهو ما حدث بالفعل عندما خذلت الأيديولوجيا السوفياتية مريدي الشيوعية عبر العالم بالانهيار المخزي المفاجئ لخطيئة فيهم هم في الواقع، لأنهم هم مَن اختزل الشيوعية في أيديولوجيا نظام سياسي كالنظام السوفياتي، وعندما سقط الجواد الذي راهنوا عليه، انكسر فيهم الحلم، ليروا في هذه الكبوة نهاية العالم، فلم يتردد البعض أن ينهي حياته انتحارًا!
وهو مصيرٌ اجتنبه صادق مرغم، إذ استيقظ من الحلم مبكرًا، فلم تصبه اللعنة التي لحقت بأمثاله الذين توغلوا في الرهان بعيدًا، بالمقارنة مع أولئك الذين أوتوا حكمة الأوائل في وجوب الاعتدال، فحمدوا الله على النجاة من نار تلك الأيام.

وأحسب أن هذا الاعتدال هو الذي أجار أبو بكر يوسف من المصير الذي انتهى إليه زميله جلال الماشطة، وهو الذي لم يشتط في قناعاته إلى الحد الذي سوق فيه هذه القناعات مقياسًا لعلاقاته الشخصية والاجتماعية كما هو الحال مع المهووسين، والماشطة هنا لا يعدو أن يكون بينهم سوى النموذج. وهي نزعة كانت سائدة لدى الشيوعيين العرب بالذات في تلك السنوات. وقد أفلحت في تسميم علاقاتهم، وأفسدت عليهم بذلك حياتهم، لأن القناعة الأيديولوجية إذا صارت هي القياس في العلاقة الإنسانية، فلن يضمن أحد وجود أي حميمية التي هي شرط وجداني لقيام أي علاقة. ولما كانت الأيديولوجيا العدوة اللدودة للروح الوجدانية، فقد أفلح أبو بكر يوسف حيث أخفق جلال الماشطة. أفلح بإيعاز من روح مصر. بإيعاز من الذخيرة الميثولوجية التي تسكن كل مَن رضع حليب أم هي النيل، في وقت لم تفلح فيه الذخيرة الميثولوجية السومرية الثرية في إنقاذ الماشطة من وباء الحداثة. وكي نتأمل الموقف جديرٌ بنا أن نعترف في البدء بالهوية البرية للحضارة المصرية. ويبدو أن هذه الحضارة استطاعت أن تستعير هذه المزية من هويتها كحضارة صحراوية، لا بسبب الموقع الجغرافي وحسب، ولكن بسبب الروافد الثقافية، ذات الانتماء الثقافي الصحراوي، سواء من الشرق، وتحديدًا من الامتداد في الغرب، حيث تستلقي قارة صحراوية كاملة، موصوفة بهذه العلة، بلقب مهيب كـ: الكبرى. فالسجية المفتوحة على المدى اللامنتهي من الطبيعي أن تعلن نفسها في وجدان الإنسان، لتستوعب فحوى اللانهاية في فضاء اللانهاية الذي يحث على الاحتواء: احتواء المحيط في تسامحه الطبيعي، مشفوعًا بكائنات تشكل فيه فحوى كينونية، لا تلبث أن تتحول درسًا، يستقيم في النهاية في وصية: تلك الوصية المتوارثة جيلًا عن جيل، لتشيد كيان ما نسميه عُرفًا، أو بلغة الروح الملحمية: «الناموس». وهو الدستور الذي يتحول بمرور الزمن، في حياة الأجيال، طبيعة ثانية، يتناقلها الخلف عن السلف، لتكون في النهاية بصمة الخصوصية التي تميز هذه التجربة عن تجربة أخرى، مغايرة، كظاهرة مختلفة في بُعدها كمنجز ثقافي ساهم في شطر القبيلة البشرية إلى شقين، أحدهما ظل على وفائه للرحيل، وآخر اختار المقام في المكان قدرًا، ليضع بالاستقرار حجر الزاوية لما نسميه مدنيةً. ولكن الإنسان المصري لم يستسلم للتحدي في استقراره، لأنه استطاع أن يحتفظ بروح الفطرة بفضل حمولته الميثولوجية الحميمة الصلة بالمكان كواقع بيئي لا محدود في بعده الجغرافي كصحراء. فما لا يطاق في عرف هذا الإنسان هو الحدود. هو كل ما يحجب الرؤية، لأنه يعيق بالتالي ما هو أعظم شأنًا من عدسة الحس، من الرؤية، ألاَ وهو عدسة الحدس، أي: الرؤيا.

ولهذا السبب قيل منذ الأزل أن مصر هبة النيل، لأن النيل لم يكن ليغدو أعجوبة لو لم يكن شريطًا لغمر يخترق صحراء بلا حدود، تنطلق نحو أركان الدنيا الأربعة، فتبدو، في تنكرها للضفاف، وصلتها الحميمية بالفضاء، كأنها تنزيلٌ حرفي من السماء. وهو واقع طبيعي من البديهي أن يسكن سليل هذه الأرض ليغدو فيه هاجس وجود مترجم في مسلك سيرته الدنيوية، فيعتنق دين الإنفتاح الذي نسميه بلغة اليوم تسامحًا؛ وهو تلك النزعة الأخلاقية التي تحولت مصر بفضلها ملاذًا يستجير به كل طريد، وإلا لما كانت في أدبيات العالم: أم الدنيا. وحكمة نموذج كأبي بكر يوسف مستعارة من هذه الطينة، وهو ما أجارها أيضًا من نوائب الدهر في صيغته العصية التي عصفت بالتجربة السوفياتية، وعصمته من شظايا نالت الكل، سيما أقرانه العرب الذين أبوا إلا أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، وشيوعيين أكثر من لينين، وراهنوا على هذا الصنم؛ فكان من الطبيعي أن يفقدوا صوابهم بسبب الصدمة، فلا يشفوا منها إلا بقربان موجع كما حدث مع زميله الماشطة الذي كان عليه أن يكتشف أخيرًا أن الحلم الذي راهن عليه لم يكن سوى غيبوبة، والأيديولوجيا فيه هي مجرد كابوس، إدمانه كان ضربًا من طيش: طيشٌ كان أفيونًا في حياة أبناء المرحلة، كأمثاله من مثقفي الجيل، المفتونين بالحلم، الظامئين إلى الحقيقة، التي كانوا فيها ضحايا، لأن لا وجود لشرك في المتناول يمكن أن ينافس الشيوعية بنزعتها الأممية، وتغنيها بالعدالة، في حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية، في زمن يقظة فرضتها نتائج تلك الحرب، عل أهمها هيمنة التحرر الوطني من الاستعمار الكلاسيكي التي لعب فيها انتصار الإتحاد السوفياتي في الحرب دور البطولة.

في المقابل، ظل النموذج الآخر، الذي انتمى إليه أمثال أبو بكر يوسف، الذي آل على نفسه أن يشاهد فصول المهزلة من وراء حجاب عزلته منذ البدء، ولم يتنزل من علياء ظلاله ليشارك في حضيض التجربة، محتفظًا بقناعاته لنفسه، وهو ما عصمه من الزلزال الذي لم يكد ينجو منه أحد في تلك الأيام. وقد عبر لي مرة على إدانته لمسلك جلال الماشطة لأنه لم يتردد في شن هجوم على المرحلة السوفياتية. في إحدى الندوات التلفزيونية بعد الانهيار، مستنكرًا استهتاره بالقيم التي آمن بها يومًا، ليتخلى عنها تاليًا، لينتهي أبو بكر إلى التأكيد بعدم وجوب إنكار أي إنسان لمجرد انحيازه لموقف تنعته اللغة السياسية السائدة بـ«المحافظ».

أذكر في ذلك اليوم أننا كنا نناقش موقف البروفيسور «حزب اللاتوف»، رئيس أول برلمان روسي منتخب بعد الانهيار، الذي اعتصم بالمبنى الأبيض بكامل الأعضاء احتجاجًا على قرارات البهلوان يلتسين، الذي لم يتردد في أن يحاصر المقر بالدبابات، قبل أن يصدر الأمر بقصفه بالقنابل، ليهلل له الغرب على هذا العمل الفظيع، ويقتص من الرجل لا لأنه نصير شيوعية انقضى أجلها، ويجب أن تلفظ أنفاس النزع الأخير، ولكن لمجرد أن عالم الرياضيات الذائع الصيت ذاك، الشيشاني الهوية، أراد أن يقول باحتجاجه إن الأيديولوجيات تفنى، ومعتنقي الأيديولوجيات أيضًا يزولون، ولكن ما يبقى هو الوطن. بلى! الوطن دومًا غنيمة نسيان في كل قسمة تكون فيها الأيديولوجيا حَكَمًا؛ لأن رسالة أية أيديولوجيا هي عمل كل ما بالوسع لمحو خصم اسمه الوطن من خارطة الوجود، ليقينها بأن بقاءه قيد الوجود، هو تهديد لبقائها قيد الوجود. وأمثال أبو بكر يوسف إنما تقضي حكمتهم بأن يراهنوا على الأوطان مهما هيمنت الأيديولوجيات على العالم في حمى تسويق نفسها كمعبود. فالإتحاد السوفياتي غلالة انقشعت، كما انقشعت غلالات كثيرة قبلها، ولكن روسيا باقية، كما بقيت بعد انهيار إمبراطوريات كانت في تجربتها السياسية مجرد أقنعة.

5

هل كان أبو بكر يوسف شيوعيًّا؟

ليس من حق سائل أن يطرح سؤالًا من هذا القبيل، لسبب بسيط وهو أن الرجل لم يتشدق بمثل هذا الانتماء في يوم من الأيام كما اعتاد أن يتشدق جل مؤدلجي الجالية العربية المقيمين بالإمبراطورية آنذاك، الذين لم يكتفوا بأن يتشدقوا، ولكنهم كانوا يتباهون أيضًا، إما لإرضاء غرورهم في وقت كان فيه الانتماء إلى هذا المذهب ضربًا من موضة، أو لمجرد الادعاء من باب إرضاء السوفيات كما اعتاد فريق آخر أن يفعل. ولكن اليقين أن أبو بكر يوسف كان يساريًّا ليس بالمفهوم السائد آنذاك، ولكن بالمفهوم الذي استزرعته في اليسار سيمون دي بوفوار. أي المفهوم المرادف للموقف النقدي من الوجود برمته. أي اليسار ليس بالمفهوم السياسي، ولكن بالمفهوم الوجودي الذي يعتنق مقياس النزاهة في الحكم على تجربة الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان. وقد اعتنقه المبدعون ذوو النزعة البوهيمية حتى صار في حياتهم أفيونًا، ربما لهذا السبب بالذات الذي لا يخلو من رومانسية.

هل جئت على ذكر الرومانسية؟

بلى! الروح الرومانسية يقينًا كانت نقطة ضعف نموذج كأبي بكر يوسف تلك الأيام. فهو بروح اليساري، المفتون برؤية نقدية للواقع الإنساني، لن يعدم أن يستعين في مغامرته بتلك الروح الرومانسية التي كانت بلسم زمن غاب فيه الشعر لسبب بسيط وهو هيمنة الأيديولوجيا المعادية بطبيعتها للشعر.
اختار أبو بكر الرومانسية نصيرًا، لأنها البديل الأنسب للنزعة البوهيمية التي أدمنها جل أقران الزمان. ولهذا السبب كان يؤخذ مأخذ الجد من قبل كل من عرفه، في مرحلة كان فيها الإنسان البوهيمي مدانًا مهما تبدى موهوبًا. فأن يشكو لي يومًا هذا الكاهن المستجير بصمته، المنطوي على نفسه، المكتفي بنفسه، كيف يتحول الاحتكام إلى النزعة المحافظة، كما سماها، معرةً، أو تهمةً إنما كان يترافع عن نفسه في محكمة ذلك الزمن الذي يتغنى فيه الكل بالتقدم، وكل من يتخلف عن هذه الجوقة فهو «محافظ» التي تعني، في معجم تلك المرحلة المهووسة بالشعارات، رجعية. وهي تهمة أيديولوجية تعادل الخيانة بالمفهوم السائد آنذاك، في حين أن الطبيعة فينا تقول أننا كلنا ننتهي بالصلاة في معبد «المحافظين» في النصف الأول من رحلتنا، بقدر ما كنا نتلو صلواتنا في معبد «التقدميين» في النصف الأول من مهزلتنا. أي أن النداء فينا محكومٌ بالمبدأ الفسيولوجي وليس المبدأ الأيديولوجي. وهو تأويلٌ لا نهتدي إليه إلا بعد فوات الأوان بالطبع، أي في تلك المرحلة التي يبرد في شراييننا نداء الدم، ونختلي بأنفسنا لنخضع النفس للاستجواب بعيدًا عن سُعار باطل الأباطيل.
فالواقع أن العزلة تجربة تثير الشكوك، والمفتون بالظل إنسانٌ مشبوه. أقول هذا وَحْيًا من تجربة شخصية. ففي السنوات التي طلقتُ فيها الدنيا فوجئت حتى بالأصدقاء، بل وبأقرب الأقرباء، يعاملونني وهم مني في شك. والسر؟ هل هو في التنكر السافر للعرف. أم في توجيه طعنة للعقد الاجتماعي، بحثًا عن تلك الحرية التي لا وجود لها إلا في الموت، والركون إلى حجاب الظل ما هو إلا محاكاة طفولية لها، برغم المكافأة الفاتنة التي يُتوَج بها المريد، المتمثلة في الهالة القدسية التي تطبع فيه الجبين، كأنها العلامة الفارقة التي بصم بها الرب سيماء قابيل لكي لا يقتله كل من وجده، بدل أن تكون الوسم الذي يدعو كل من وجده أن يقتله بوصفه أول الفاتحين في سجل القتلة؟
فعندما نخون العهد يغدو الكل منا في شك: شك في نوايانا، وشك آخر في قوانا العقلية!
فمَن يجرؤ على تقديم الاستقالة طوعًا من واقع دنيوي يعول عليه الكل ويحسبه وجودًا، إن لم يُصب في العقل بعطب؟
ففي أعوام استقالتي تلك، بعث لي الطيب صالح وصية مع أحد أبناء السودان تقول في الفحوى، إن الإبداع الذي استدرجني إلى منفى آخر داخل المنفى ليس جديرًا بشرف أن نضحي بالحياة إكرامًا له. وقد تأملت وصيته طويلًا لأتساءل عما إذا كان الإبداع حقًّا هو السبب في اعتزالي، أم أنه في الواقع مجرد نتيجة لهذا الخيار. وهي أحجية قد لا تختلف عن سؤال من قبيل: هل المادة سابقة في وجودها على الروح، أم أن الروح في الصفقة الوجودية أسبق؟ أي: هل اللجوء إلى الخلوة غاية لذاته، أم أنه نتيجة لنية مبيتة؟ أليست المسألة كلها يمكن ترجمتها في صيغة سؤال آخر: هل نحترف الصلاة تكفيرًا عن آثام، أم أننا نهفو للصلاة طلبًا لسكينة الروح؟ أو بصيغة أخرى: هل إيماننا صفقة ننال بموجبها الجنان مكافأةً، أم أننا نؤمن لمجرد إرواء الظمأ إلى الله؟
فالإبداع أيضًا لن يكون جديرًا بهذا اللقب الجليل إن لم يكن إرواءً للظمأ إلى الحقيقة، والخلوة ليست في الحملة سوى ساعد أيمن، وإلا انقلب افتعالًا، والإفتعال رذيلة لا تُخفى، وهو ما غاب عن رموز إبداعنا منذ أجيال وأجيال. فالإبداع لا يُشترى بالعزلة، كما لا تُشترى الحقيقة بحسن النية. وقديمًا قالت العامة في أمثالها السارية أن الحج إلى بيت الله مجازفة قد ندفع الحياة لها ثمنًا. وهو ما أجبت به المبدع الرائع الطيب صالح، ولم أشك أنه سيفهمني، قبل أن نلتقي تاليًا لأكسبه صديقًا، كما كسبته مبدعًا قبل أن ألتقيه شخصيًّا. وانطلاقًا من هذه التجربة الإغترابية كنت أشفق على نموذج أبي بكر وهو يعاني منفاه الإختياري، داخل منفاه الآخر، الإجباري في واقع تنكر للعزلة منذ زمن طويل، لأن الأيديولوجيا التي تهيمن على هذا الواقع كانت قد سخَرت من أمثاله منذ رأى رائدها لينين في مصلح روحي عظيم مثل تولستوي درويشًا مثيرًا للشفقة في سلسلة دراساته عن الرجل، لأن الثورات لا تعترف إلا بالحرف دينًا، أما الروح فهي العنقاء التي لا وجود لها في أدبياتها.

6
يرد في ميراث الأمم أن ليس على الحكيم أن يتورط في نزاع بأي سبب. وهو ما لا يتحقق دون الانسحاب إلى الأعماق. انسحابٌ يورث خجلًا صنفه سارتر ثوريًّا، في حين رآه بلوتارخ لا أخلاقيًّا في حال كان مفتعلًا أو كاذبًا. ففي الحياء دومًا يوجد نبض خفي، نبض غيبي. وهو لهذا السبب قدسي. هذا الحياء هو ما أسهم في تشكيل عقلية مريد الظل، ونصبه فيه الفيلسوف الذي يحترس أن يفعل، لأن في الفعل مخاطرة لابد أن نتلقاها مترجمةً في ردة الفعل. وهو ما دعا حكماء الثاوية لاعتناق دين اللافعل كسبيل وحيد لاجتناب ردة هي دومًا نذير نزاع. والنموذج اليوسفي، في ظني، كان نصير اللافعل بفطرة الإنسان المصري الذي يقول عنه بعض الرحالة أنه على استعداد أن يبذر في الأرض حبة، ثم يهجع بالجوار موسمًا كاملًا في انتظار أن تستوي ليقطف ما استزرع. وهو تنسكٌ يليق بالكهنة الهندوس الذين يعتكفون في الطبيعة دهرًا وهم يروضون حلمًا مبهمًا في طقس التحديق في قرص الشمس. وأحسب أن رحلة أبي بكر منذ 1958 عندما التحق بموسكو حتى رحيله في 2019 ما هي إلا جنسٌ من اعتكاف عصي، لأنه في النهاية لن يعدو أن يكون ترويضًا للنفس على الموت. ومن أفلح في ترويض النفس على الموت وحده لن يكون في حاجة للدخول في نزاع مع واقع كل من عاشه يدري كم هو موبوءٌ بنزاع، وكل خطوة فيه عرضة لخطر جسيم. إنه برزخ الحدود القصوى في التحلي بالتخلي. برزخٌ أقعده طوال هذه العقود عن تدبير حتى حوائجه الدنيوية الأكثر إلحاحًا كما اكتساب جنسية هي حق يعجز أي مغترب أن يحقق في غيابه غرضًا.
لقد آثر هذا الكاهن أن يحتفظ بجنسيته المصرية، ويعاني روتينًا إداريًّا لئيمًا كأجنبي، ليغدو ضحية لا لهذه القناعة وحدها، ولكن أيضًا بسبب وفائه لعمله كمترجم متواضع، يقبع في مكتب في مكتب بمدخل السفارة الليبية على مدى عقود وعقود، مكتفيًا بمعاش متواضع جدًّا بالمقارنة مع أقرانه في السفارات الأخرى، مُهملًا في هذا الركن البائس، يتجاهله موظفون لم يروا يومًا أبعد من أنوفهم، أو بالأصح منافعهم، ويجهلون فيه كل أبعاده الأخرى، الإنسانية، والإبداعية، والوجودية، فلم يتذمر، ولم يشتكِ، ولم يطالب، لأنه لم يرد من دنياه شيئًا، بل دفعه زهده لأن يتخلى حتى عن حقوقه الوظيفية، ناهيك عن حقوقه التقاعدية، يوم اضطر أن يهجر معبده القديم هذا لأسباب صحية أقعدته في بيته، فلم يكتفِ بهذا، ولكنه دأب وهو على فراش المرض على أن ينجز التراجم للقائمين على أمر السفارة بالمراسلة. وهي تضحيات تهون إذا قورنت بتضحية أخرى رواها لي زميله محمد التاجوري أخيرًا، ذات صلة بالكيفية المهينة التي رفضت بها السلطات الأميركية منحه تأشيرة دخول إلى أميركا لزيارة ابنه الأخصائي الذي يقيم هناك منذ عقود، لا لشيء إلا بسبب عمله بسفارة دولة معادية هي ليبيا.
ولكن هاجسًا واحدًا هدهده هذا الرجل في قلبه طوال كفاحه الباسل مع الدهر، وهو حلم أن يهجع بسلام في رحاب مسقط الرأس، في وطن كان قد اشترى فيه شقةً خصيصًا لهذا الغرض، ولكن الأقدار لم تمهله لتحقيق هذا الحلم، وليس له أن يأسف أخيرًا إذ يستودع جسده ربوع المقبرة الإسلامية المسكوفية، إلى جوار صديقه وزميله صادق مرغم الذي سبقه إلى هناك، كأن حكمة الأقدار أبَتْ إلا أن تبرهن له بأن أمثاله ليسوا في حاجة لأن يستجيروا بمسقط رأس، لأن كل أرض في المسكونة لهم بمثابة وطن، وكل بقعة في اليابسة لهم مسقط رأس!

______________________________________
سالو (كتالونيا). شمال شبه الجزيرة الإيبيرية
05. 04.

مقالات ذات علاقة

معرض فني في مصنع تبغ سابق تحول إلى معلم ثقافي

المشرف العام

تدشين فعاليات سان سيبستيان عاصمة للثقافة الأوروبية

المشرف العام

تعرف على رواية النباتية للفائزة بجائزة نوبل للآداب هان كانج

المشرف العام

اترك تعليق