طيوب النص

على ضِفَّةِ نَهْرِ مِسْكٍ أُعَانِقُكُم ..*

الجزائر

هأنذا أَطَأُ الأرضَ التي حَلِمْتُ بها خمسينَ عامًا .. خمسينَ ربيعًا وأنا أرسمُهَا وطنًا من ضوءٍ .. وقصيدةً من ولهٍ .. وأراها مواسمَ وجدٍ .. ونهرَ عبيرٍ .. وأغاريدَ لهفةٍ .. وتراتيلَ دعاءٍ ..

الأرضُ التي ظللْتُ أحلمُ بعناقِهَا .. بتقبيلِ وجوهِ راحلينَ لا قبورَ على الأرضِ لهم.. استعجلَتِ الجنَّاتُ حياتَهُم بِها فاستدْنَتْهُم .. تَعَجَّلتْ قُدُومَهُم إليها فَلَبُّوا نِدَاهَا على مِعْرَاجِ أرواحٍ صدقَتْ ما عاهدَتِ اللهَ عَلِيهِ ..

ها قد جئتُها وفي قلبي تصطفُّ وجوهُ مليونِ ونصفِ مليونِ شهيدٍ .. وبذاكرتي تزدحمُ مشاهدُ قِرَاعِهِمُ المُحْتَلَّ الزَّنِيمَ، تُنَاوشُ روحي أنفاسُهُمُ الطَّيِّبَةُ .. وأمامَ ناظِرَيَّ يَسِيلَ نَهْرُ مِسْكٍ أَحْمَرَ أَجْرَوْهُ من رحيقِ المَجْدِ؛ فأسرى بأرواحِهِمُ الطَّاهِراتِ إلى السَّمَاءِ العَلِيَّةِ .. مِسْكٍ تَخِذُوهُ مِعْرَاجًا أمينًا إلى جَنَّاتِ الخلودِ .. 
الآنَ تكتظُّ اللَّحَظَاتُ الخَصِيبَةُ المُتَوَهِّجَةُ بِصِورِهِمُ البَاسمَةِ .. تَتَكَدَّسُ مشاهدُ أرواحِهِم تتغيَّا الخلودَ .. تَتَسَابَقُ على الفِدَاءِ .. تُلْقِي بِهَا في أُتُونِ المَوْتِ بفرحٍ غامرٍ .. المَوْتِ الحَيَاةِ بِانْتِشَاءٍ شَفِيفٍ ..

يا إلهي ..! إِنَّهُم أُمَّةٌ منَ الشُّهَدَاءِ .. شَعْبٌ بِأَكْمَلِه يُمَهِّدُ بالمِسْكِ دَرْبَ الخالدينَ .. يرصفُ بأرواحِهِ الغاليَاتِ سبيلاً ذِهَبيًّا إلى البَقَاءِ .. يُشْرِعُ لِلقادمينَ نَوافذَ الحيَاةِ الرَّخيَّةِ الهنيئَةِ .. المُوَارَبَةِ على الحُبِّ والحُلمِ والفرحِ العميمِ .. 
ها أنا أراهم .. نهرًا من رجالٍ باسمينَ .. أمدُّ يدي فأصافِحُهُم .. أتشمَّمُ المِسْكَ يسري إلى روحي .. فَتَشْهَقُ أعماقي بدهشةٍ عذراءِ .. بفرحةٍ بكرٍ .. أُطْلِقُ بصري فيعانِقُهُم .. أحتضِنُهُم .. شعبًا أثيرًا من شهداءَ أبرارٍ .. طابورًا طويلاً للذينَ استرخصوا أرواحَهُم كُرْمَى عيونِ الوطَنِ الحبيبِ ..

يَبْتَسِمُونَ فَتَنْدَلِعُ الحيَاةُ .. يتنفَّسُ الكونُ .. ويزدهرُ الوجودُ .. هؤلاءِ لا يموتونَ .. خَسِئَ الموتُ الخِسيسُ حينَ يزعمُ أَنَّهُ يواريهِم بالغِيَابِ الفَظِيعِ .. وَيُغَيِّبُهُم بالإغفاءَةِ الحَالِمَةِ .. وَالسِّنَةِ الوَادِعَةِ القَانِعَةِ، هم لا يَمُوتُونَ .. ولا يَغِيبُونَ .. ولا يُغَادِرُونَ .. لَعَلَّهُم ذهبوا لتوأمَةِ نَهْرِ أرواحِهِم معَ أَنْهَارِ الجِنَانِ .. أو لإيصالِ حفنَةٍ من مِسْكِ تُرَابِ الجزائرِ العسجدِيِّ إلى جَنَّةٍ فِي السَّمَاءِ ..

لقد بَارَحُوا حَيَاتَنَا لِيَضْمَنُوا لَنَا حَيَاةً أبقى وأبهى وأحلى .. 
أعانقُهُم بقلبي، فَأُعِاَنقُ فيها الجزائرَ الجِهَادَ والنِّضَالَ والشُّمُوخَ والفِدَاءَ، الجزائرَ الشَّجَاعَةَ والصَّبْرَ والإقدامَ، أعانقُ فيهم وفيها المَجْدَ والسُّؤدُدَ، ومنافَحَةَ المُعْتَدِينَ، ومقارعَةَ الطُّغَاةَ الغادرينَ .. أُعَانِقُ فيهم وفيها وجوهًا توضَّأَتْ بالألقِ والنَّضَارَةِ .. فَتَضَوَّأتْ بِالطُّهْرِ والبِشَارَةِ .. أحتضنُ فيهم وفيها طابورًا طويلاً من ذوي الهِمَمِ وَالشَّهَامَةِ؛ مِمَّنْ أهدوا أَرْوَاحَ رخيصةً إغلاءً للوَطِنِ .. وإعلاءً لاسْمِهِ ومكانَتِهِ .. أُعِانقُ فيهمُ الأميرَ عبدَ القَادِرِ، ومصطفى بن بوبلعيد، والحاج لخضر، وأحمدَ بومرزاق، وعبدَ الحميد بنَ باديس، ومصالي الحاجَ وفرحاتَ عبَّاس، وجميلةَ بوحيرد .. وآخرينَ عظماءَ، وأخرياتٍ عظيماتٍ..

ها هم يَمُدُّوَن إليَّ أيادي تذرفُ مسكًا، يضمَّونَنِي إليهم .. يُعَانِقُونَنِي وهم يُوصُونَنِي بِالوطنِ الأغلى .. بالكنزِ الأعزِّ.. ويدسُّونَ في قلبي عِتَابًا رقيقًا : لماذا تأخَّرْتَ كلَّ هذا الوقت..!!؟

رَبَّاهُ ..! أَشْعُرُ أَنَّ لَقَاءَنَا الأثيرَ قد تَأَخَّرَ مليونَ ونصفِ سنَةٍ .. فكيفَ تَأَخَّرَ هَذِا اللِّقَاءُ الحميمُ، لماذا تأجَّلَ هذا العِنَاقُ البريءُ، الوضيءُ، الدَّفِيْءُ ..!؟ بربِّكِم كيفَ ضَنَنْتُم عَلَيْنَا بهذا العيدِ .. لَمَاذا لم تُتِيحُوهُ لقلوبِنا الظمأى للفرحِ، العطشى للحبِّ والدَّفْءِ والعِناقِ، وقد ظَلَّتْ تَتَهَجَّى أبجديَّاتِ اللقاءِ؟ لماذا اِدِّخَرْتُم حُبَّكُم وعناقَكُم ودعواتِكُم كلَّ هذا اللَّهَفِ ..!؟ لماذا أمسكْتُمْ شَمِيمَ الجِنَانِ وعبقَ الخلودِ عنَّا ..؟ لماذا أَجَّلْتُم كلَّ هذا التِّحْنانِ السَّنيِّ سِتِّينَ عامًا .. كيفَ تُبَرِّرُونَهُ الآنَ لقلوبٍ تُحِبُّكُم .. لقلوبٍ تطمحُ عبرَ عناقِكُم إلى الامتلاءِ بِالحُبِّ، والانتشاءِ بالمِسْكِ، والارتواءِ من مرْأَى الجِنَانِ..!؟

هأنذا اليومَ أعانقُ فيهم وفيكم أولئكَ الذينَ شَقُّوا بأرواحِهِم نَهْرَ المَجْدِ الزَّاخِرَ الدَّفَّاقَ، نهرًا جعلوا مجراهُ تضحياتِهِمُ الخِالِدَةَ .. نهرًا عُمْقُهُ مِئْةٌ وثلاثونَ عامًا، وَطُولُهُ مِليونُ ونصفُ شهيدٍ .. وعرضُهُ سبعُ سنواتٍ ونصفٍ.. نهرًا كَوَّنَ وطنًا يبتدئُ منَ الألفِ السَّامِقَةِ وُصُولاً إلى الرَّاءِ الرَّاسِخَةِ .. وطنٌ كلَّمَا لهجَتْ بِهِ القلوبُ تَهادَى نَهَرُ محبَّةٍ، وكلَّمَا ترنَّمَتْ بِهِ الشِّفَاهُ اندلعَ نهرُ مسكٍ، وكلَّمَا تكحَّلَتْ بِهِ العيونُ سَمَقَتْ سَمَاءُ مَجْدٍ .. وكلَّمَا ذُكِرَتْ التَّضْحِيَاتُ تَسَامَى جَبَلُ شُهَدَاءٍ .. وَطَنٌ لا يَتَقَادَمُ حُبُّهُ ولا يَبْلَى وَلا يَفْنَى .. وَطَنٌ وِجِدَ ليبقى .. وَطَنٌ اسمُهُ جزائرُ المجدِ والفخارِ والخلودِ ..

____________________________________
مصافحة ألقيتها في حفل افتتاح مهرجان باتنة الثقافي.
الإثنين 9/12/2014

مقالات ذات علاقة

مشهد وما وراءه

زهرة سليمان أوشن

إطلالة على ربوع الوطني بدار الفنون

المشرف العام

إلا العشق

منى الدوكالي

اترك تعليق