الذين يعرفون جيداً عمر الككلي كاتباً ومبدعاً وصديقاً وزميلاً لاتربكهم موضوعيته فيما يقوله أو يكتبه وينشره على الملأ، ولا يستغربون مطلقاً عناده وصلابته في الواقع الحياتي رغم شدة أدبه ولطفه وظرفه. المشكلة حقيقة فيمن لا يعرفه “واللي ما يعرفك يجهلك”.
ما جرّني إلى هذا القول ما كتبه عمر مؤخراً تحت عنوان “مسؤوليتنا إزاء الأجيال القادمة”، وقرأته مع غيري من القراء منشوراً في زاوية وجهات نظر بهذه الصحيفة.
كعادته في غيره مما كتبه ونشره، حرص عمر على هدوئه المعروف والتزامه الموضوعية في التطرق إلى مسألة في غاية الأهمية لا تغيب عن العين الراصدة، ومتمثلة في سيل من الادراجات والسباب والاتهامات تغص بها مواقع وسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا، حول الموقف من نظام جمال عبد الناصر ونظام معمر القذافي بشكل تغيب عنه الموضوعية، ويهيمن عليه الاطلاق وغياب التعقل في نقد النظامين ورمزيهما حتى صارا رمزين للشر، وحاول عمر بموضوعية لفت الانظار إلى حقائق موضوعية لا يمكن تجاهلها وغض البصر عنها، ومعترفا في نفس الوقت بما ارتكبه النظامان وخاصة النظام العسكري في ليبيا من ضرر بالبلاد والعباد، وبالقضايا العربية التي شهدت تدخلاته، لكنه رأى أن كل تلك الشرور يجب الا تحجب عنا حقائق معروفة والا تحيد بنا عن الموضوعية. إن إنكار استبداد جمال عبد الناصر ومعمر القذافي وما نعانيه جراء ذلك من مآسٍ حتى الآن، أمر مناف للعقل والوطنية والأخلاق. يقول عمر “إن إنكار الحقائق التاريخية والشيطنة التامة لهذين المستبدين، وغيرهما، موقف مناف للموضوعية والنزاهة والإنصاف وروح العدالة الإنسانية، ولا يفيد على المستوى المعرفي ومسؤوليتنا إزاء الأجيال القادمة.
وشخصياً أتفق مع وجهة نظر عمر لأننا حين نقرر الخوض في أحداث تاريخية بالتحليل والنقد يجب أن يتوفر لدينا قدر من الحرص على رؤية الصورة كاملة للحدث بتفاصيلها، مهما تفاوتت درجات اختلافنا ومواقفنا منه، وبالتالي كما أكد عمر ضرورة التزامنا بموضوعية تتيح لوجهات نظرنا الوقوف على أرض ليست رخوة وبأقدام ثابتة.
ما أختلف فيه مع وجهة نظر عمر هو ان الموضوعية قد تحتاج أحياناً لوجود مناخ اجتماعي مناسب، تكون فيه مرئية بوضوح ومرحب بها وكمغناطيس قادرة على تجميع ما تبعثر من أراء مخالفة أو مجانبة لها، ولكي تكون كذلك تتوخى توقيتا وبيئة مستقبلة ومنّا وعياً اجتماعيا، وعلى سبيل المثال لا الحصر أننا كبشر في واقع اجتماعي لا مكان فيه للحوار بعد لعدم قدرته إلى حد الأن على تقبل التعايش مع رأي مخالف مهما كانت موضوعيته وصحته. لا يمكن لامريء أن يذهب لمأتم أقيم لقبول التعازي في شخص مقتول ليتحدث بموضوعية عن بعض مما عرف من فضائل للقاتل، وتذكير أهل المقتول والمعزين بها مهما كانت درجة وضوحها وصوابها، ولانه ليس دائماً كل ما يُعرف يقال على الأقل سياسياً، ويقيناً أن ذلك لا يغيب عن ذهن كاتب ذكي ونابه مثل عمر الككلي.
وما أود قوله هو أن حرص صديقي عمر على ابداء الموضوعية والانتصار لها جعله يغفل عن حقيقة أن موضوعيته قد لا تجد أذانا صاغية، لأن كلامه موجه إلى شعب موتور وقد تستهجن لأن الموتورين مهما اختلفوا تجمعهم أرض مشتركة أساسها عدم استعدادهم لسماع صوت العقل، ورفضهم للاصوات المطالبة بالتعقل والموضوعية.
الشعب الليبي مثله مثل موتور ولا يوجد بيت أو عائلة أو قبيلة أو قرية أو بلدة لم يطلها عبث واستبداد وضرر نظام القذافي طيلة أربعة عقود زمنية، وقد يستغرق الأمر أعواما طويلة قبل أن يكون مهيأ للنظر في كامل الصورة بمنطق من يريد أن يفهم ما حدث ويعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وحتى يحين ذلك الوقت والمناخ وتتبلور تلك الرغبة في فهم ما حدث وكيف ولماذا حدث، فإن الدعوة إلى التعامل مع فترة حكم نظام القذافي بموضوعية قد تكون أكثر جدوى حالياً في أوساط المثقفين والاكاديميين وراء أبواب مغلقة لتوفر تربة مهيئة لها.
هذه وجهة نظرشخصية تحتمل الخطأ والصواب لكني أمل أن تكون مبادرة تفتح الباب أمام نقاش هاديء ورصين، يتيح لنا جميعا المشاركة في قراءة تحليلية ونقدية تساعدنا على اضاءة وتصحيح ما عتم والتبس من صفحات تاريخنا.