العاشر من سبتمبر حدث هو الأبرز في تاريخ الكوارث الطبيعية في بلادنا وسيظل راسخاً في ذاكرة الليبيين إلى الأبد، وخصوصاً أهالي مدينة درنة ومدن الجبل الأخضر شهود الكارثة
صباح خريفي بغيوم متناثرة وأنباء عن عاصفة مطرية ضربت جنوب أوروبا تاركة جارتنا اليونان وتتجه نحو سواحل ليبيا الشرقية، واختلف الليبيون كعادتهم حول الحقيقة إعصار أم عاصفة المهم أن ثمة خطر قادم من البحر، حذَّرت السلطات القاطنين على الشواطئ بل أجبرت البعض على ترك منازلهم وانتقالهم الى وسط المدينة حفاظاً على سلامتهم.
كنَّا نتابع أخبار العاصفة لأن شواطئنا تقع على مسارها، أمطار غزيرة تجتاح بنغازي مشهد معتاد لا يدعو للقلق، بعد الظهيرة أنباء عن سيول جارفة تجتاح منطقة (جردس العبيد) المتربِّعة على عرشها الجبلي ذلك، كان الإنذار الأول، ثم توالت الأحداث، فاضت الأودية ثم انحدرت الى الشمال مثل ثعابين تلتهم كل ما تلقاه في مَسيلها، توالت الكوارث على مدينة المرج وكل قراها المحيطة بها، فكانت منطقة بطة الإنذار الثاني، حيث بداية مسلسل الموت، كل ذلك يحدث ونحن في درنة ننتظر إطلالة دنيال من البحر، بعد الظهيرة الأجواء في درنة ما زالت مستقرة، السماء غائمة جزئياً والرياح عادية، بينما السماء تفرغ حمولتها الهائلة على كل مناطق الجبل الأخضر، فاضت الأودية وضاقت وانقطعت السبل، زاد إيقاع المطر وزادت سرعة الرياح، وأنباء عن كوارث تتعاظم على مدينة البيضاء ومحيطها الكبير، أمطار غزيرة حتى مشارف الصحراء، وأودية تتكفل بنقلها بحسب التضاريس إلى المناطق المنخفضة.
سوسه كانت الإنذار الحقيقي الأخير، سوسة شريكتنا في الجغرافيا شبيهة درنة في كل شيء، ماعدا السدود -وقاها الله شرها- أخذت نصيبها من الدمار ومن الضحايا، سوسة ناقوس هائل، فمن ضرب على آذاننا وأعيننا؟ حتى لا نتحرك!
كان هناك وقتٌ كافٍ لإنقاذ الأرواح على الأقل للتقليل من حجم الدمار، مع تقدم الليل ازداد المطر واشتد عصف الريح، لم يكن هناك غروب للشمس، تداخل سواد الغيوم مع ظلام الليل، جمع المصلون في بعض مساجد درنة صلاة العشاء مع الصلاة المغرب مستخدمين رخصة الجمع في فقه النوازل، يزداد عصف الريح والماء يهطل بغزارة، مطر خرافي لم نسجل مثله من قيل، بعد منتصف الليل تكلَّم وادي الناقة هو الآخر -الوديان لابد أن تتكلَّم حتى وإنْ سكتت دهراً-، تكلَّم وبغضب شديد معلناً بداية الفاجعة، وفقدت درنة بابها الغربي، وأغلقت الطريق المؤدية إلى حي وادي الناقة وكذلك الطريق المؤدية إلى عين مارة، بعد انهيار الجسرين الرابطين، ونحن في المدينة ننتظر الخطر القادم من البحر، ننتظر دنيال هذا الذي ولد ربما من رحم الميديا، لم نسمع به من قبل وليس له ذكر على الإطلاق في ذاكرتنا الشعبية، لوادي الناقة ذِكْر ولوادي درنة ذكريات في تاريخنا القديم والمعاصر، ذلك كله يحدث ولم نكن نعلم أن حشود الماء خلفنا تتجمع هناك في الأعالي.
الماء خلفنا يتعملق، وادي درنة تغذيه عشرات الأودية تجلب ماءها من مسافات بعيدة، وفي مسارات متباينة، الماء يتعاظم وينفلت من سطوة السدين وينحدر بقوة الجاذبية، طوفان هادر يضرب ذات اليمين وذات الشمال، يسلخ جانبي المجرى من كل زينة تحلَّى بها الوادي، من شجر وزرع ودار ودوَّار ليجعله صعيداً جُرزاً، قبل أن يفاجئ المدينة النائمة في السهل، ويسحقها من دون رحمة، مخالب الماء تقتلع المنازل وتتطاول على الشرفات العالية، الشرفات التي كانت قبل قليل مضاءة وعامرة بالدفء والحكايات، والعمائر الشاهقة -لما طغى الماء– ارتعشت وهكعت في لجَّة الطوفان، ساعة أو بضع ساعة، وكل ما على الضفتين نهشته مخالب الماء، وقذفت به إلى البحر، وعمَّم الماء ما بعد الضفتين، غرقى لم يكملوا أحلامهم، وناجون أسرعوا إلى الأسطح، فما اسطاعوا أن ينقذوا أحبابهم وما استطاعوا وداعهم، عبثت مخالب الماء في أحشاء المدينة، بعثرت كنوزها القديمة ونهبت كنوزها الثمينة أرواح الأحبة، قدرات المدينة وكفاءاتها؛ معلمون ومهندسون وأطباء وضباط وجنود وزهور صغيرة استقرَّت تحت الطمي، وفي قاع البحر مع أحلامها وألعابها.
أقلعت السماء، وغيض الماء، وأطلًّ متثاقلاً فجرٌ بطيء، يكشَّف عن جغرافيا جديدة أنجزتها مخالب الماء في عجل، أطنان من الطمي تملأ الشوارع والأزقة والمحال التجارية والصناعية والإدارية، أمَّا على الضفتين لا شيء، سوى بلاقع وهياكل أساساتٍ لعمارة عتيقة، غنَّى لها الماء ذات ربيع وانتخبها جنَّة للزهر وأرائك للعاشقين.
جاء الليبيون من ليبيا الشاسعة، جاءت فزعة الأخوة عند المصاب الجلل، جاؤوا من كل فجٍّ بعيد وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ملحمة سطّرها الليبيون أذهلت العالم، فذهَب زبدُ السياسة جًفاءً وبقي تحت الضلوع ما ينفع ليبيا، مهما شطحت السياسة ومهما أسرف السياسيون في غيهم -شقاقاً ونفاقاً وتجزئة وتفتيت-، لابد لتلك الوشائج أن تنبض وتشتعل، فكيف يهنأ الكلُّ وبعْضُه منكوب؟ وكيف لا يتداعى الجسد وبعضه محموم؟ جاء المنقذون والمسعفون والمغيثون، وبُهِت المُعطِّلون لعجلة الصباح والمتربحون من جمود المشهد.
جاءت ليبيا كلها من دون نقصان، وحبال السوء مزَّقتها مخالب الماء في لحظة، من قال إنَّ الليبيين حزمة من الكرناف لا تجتمع؟ وها هي قوافلهم تغصُّ بها الدروب! إنهم يرتِّقون ما تمزَّق من أمسهم ويجْسُرون ما تباعد بينهم ويرْأبون ما تصدَّع فيهم.
من حق مدينة درنة وشركائها في الفاجعة، من حواضر الجبل الأخضر، وبشكل عاجل تفقد ومتابعة أحوال النازحين في الأماكن التي قصدوها، ودعمهم المادي والمعنوي، فهذا حقهم الطبيعي من ثروات بلادهم الهائلة، فهذه أولوية ضرورية وملحّة لأنهم باتوا لا يمتلكون شيئا.
أما الشروع في الإعمار والتنمية، في ظل هذا الانقسام وهذا التشظي، يدعو الى الريبة والقلق من أنْ يتحول الإعمار إلى كيكة أيتام كبيرة، يسيل لها اللعاب، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، قصص عن الفساد يعرفها القاصي والداني، نعرفها جميعاً ولكن لا حيلة لنا ولا حول.
كل ما نحتاجه، سلطة واحدة يختارها الليبيون في دولة واحدة، في وطن واحد، وطنٌ تكون لنا فيه مدن ومناطق وليس مدنٌ ومناطق تكون لنا أوطانٌ.