صرت أجد حرجا كبيرا في العودة المتكررة إلى الحديث، ليس عن أهمية انتهاج الموضوعية في تقييم الأحداث والقضايا والمواقف، الشخصية والعامة، فقط، بل وضرورتها.
«الموضوعية» هي الترجمة العربية الموفقة للفظة الإنجليزية Objectivity، وهي مشتقة من لفظة Object التي تعني شيئا ماديا، أي جسما عيانيا، أي موضوعا في العالم الخارجي مستقلا في وجوده عن وعينا، أو عدم وعينا، به. أي أنه لا علاقة له بذواتنا.
فلفظة «الموضوعية» العربية استخدام حديث جدا تخلو منه قواميس اللغة العربية القديمة.
وحسب القواميس، ظهرت اللفظة في الإنغليزية سنة 1803. وكانت تعني «عدم تفضيل جانب على آخر». أي استبعاد العواطف والمشاعر والميول الذاتية Subjective. ثم توسع المفهوم بحيث أصبح يشمل الموقف من وقائع الحياة اليومية والقضايا الاجتماعية والساسية.
والموضوعية في القضايا العامة تتعلق، في رأيي، بموقف ذاتي. أي أنها قراري الشخصي أن أكون موضوعيا في التعامل مع الأمور. إنه متعلق بالنية، وليس بالنتائج. فانتوائي الالتزام بالتعامل الموضوعي لا يعني أن آرائي ستكون صائبة، بل قد يعتورها الخطأ والقصور إلى هذا الحد أو ذاك. لكن التزامي الثابت بالموضوعية يمكنني من تصحيح آرائي وتعديلها، سواء من تلقاء نفسي، أو بناء على اعتراضات «موضوعية» يبديها آخرون بخصوصها.
في الحالة الليبية، مثلا، ينبغي أن يكون تقييمي لمجرياتها غير محكوم بتوجهي الآيديولوجي أو انتمائي إلى قبيلة بعينها أو مدينة محددة أو إثنية أو إقليم من أقاليم الجسد الليبي. فلا ينبغي أن أستخدم معايير تقييم مختلفة عندما يتعلق الأمر بالجوانب التي تكون جزءا من عواطفي.
لكنني ألاحظ أن ثمة أشخاصا نابهين ومثقفين يتحلون بالموضوعية في تناول أمور متعددة ومتنوعة، لكن مدنهم أو قبائلهم أو إثنياتهم أو أقاليمهم تتحول إلى «ثقوب سوداء» تلتهم موضوعيتهم وتغيبها عندما يتعلق الأمر بطرح مسائل ذات علاقة بهذه «القواعد» أو الانتماءات، ويصبح الشعار الضمني: «لا صوت يعلو على صوت قبيلتي أو إثنيتي أو مدينتي أو إقليمي».
وهذا، في الحقيقة، يخل بمسؤولية المثقف الكاتب إزاء التنوير ومحاولة الاقتراب من الحقيقة، ويخل، ليس بالأمانة العلمية فقط، وإنما أيضا بالمسؤولية الوطنية والإنسانية.