ما من فارق بين أن يستبعد أفلاطون الشُّعراءَ، ويحرمهم من حظوة الإقامة والموَاطَنة، أو أن يشترط لقبولهم أن يتخَلَوا عن أوهامهم ويقصروا شعرهم على التغزل بالفضيلة التي كان يبني مدينتها وعلى التبشير بها والدعاية لها، ففي كل الأحوال لا يليق موقف مثل هذا بواحد من آباء الفلسفة ومؤسس لتوجه فكري مازال يفعل فعله ويترك آثاره في الثقافة والحضارة الإنسانيتين، بقدر مالا يمكن تبريره، وإن امكن فهمه من زاوية انحياز أفلاطون.. بل تعصبه.. للفلسفة دون غيرها من الاهتمامات المعرفية والفنون الإبداعية، وللفلاسفة عشاق الحكمة وأهلها، ما دعاه إلى أن يصوغ آراءه التربوية بالتوافق معها وإصراره على تهيئة من لديهم الاستعداد والميل إلى الحكمة من النشء وإعدادهم ليكونوا حكاما لمدينته الفاضلة.
ولأنه مما لا يوافق الفضيلة أن يقسر الناس على تصديق ما يقال لهم أو على اتباعه والدعوة إليه، فإن في استبعاد الشعراء مايؤسس لتقويضها حتى قبل أن تقوم، وذلك ما حدث فعلاً، فقد انهارت مدينة أفلاطون الفاضلة دون يقيض لها التحقق في واقع الناس الفعلي وبقيت حلماً فلسفياً وتهويماً في رؤوسهم.
لم يصبح الحكماء حكاما، فما من حكيم يطمح إلى حكم الناس وفرض وصايته على عقولهم وضمائرهم من اجل التحكم فيهم وتطويعم لما يراه، ولا أصبح الحكام حكماءاً لنفس السبب.
وإذا ما دققنا في موقف أفلاطون، فلن نراه خذلاناً للشعراء نساجي الأوهام ومروجيها بزعمه، بل فوق ذلك كان خذلاناً للفلاسفة عشاق الحكمة ومريديها، إذ لا يناسب الفلسفة ولا يليق بها أن ينسب إليها رأي أو موقف يجانب الحكمة، ولا تجيز قسر الإنسان واجباره على قبول ما لا يوافقه، فليس ذلك من سمات محبة الحكمة بل هو ما يميز الأيديولوجيا.. مطلق أيديولوجيا.. التي لا تستنكف عن إجبار الإنسان.. إذا اخفقت في إغواءه بوعودها الزائفة.. على أن يقبل بما تزعم ويتبنى ماترى وأن يفعل ما تمليه عليه، فهي بحكم طبيعتها النزّاعة إلى التملك والتسلط وبمنهجيتها التبريرية لا تمتنع ولا يمتنع أصحابها عن قول وفعل مايرون فيه تحقيقاً لأهدافهم، ومهما يكن من ابتذاله وتهافته، ولا تأنف أو يأنفون عن السقوط في دركات الكذب والتزوير لتبرير رؤاهم المريضة وما ينتج عنها من ممارسات.
الأيديولوجيات مذاهب فساد وإفساد، وأصحابها.. وفق أوهامهم طبعاً.. ملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وزرعوا في أرجاءها الخراب وحولوها إلى يباب لا تنبت غير الشرك والحنظل.
وإذا كان مرجع اخفاق مدينة أفلاطون الفاضلة إلى مبالغته في الانحياز رؤيته المثالية التي رآها سبيلاً وحيداً إلى الفضيلة، فذلك لا يعني أن ننعت موقفه بأنه موقف أيديولوجي، فليس من سمات الأيديولوجيا نقاء السريرة ولا حسن القصد الذي يميز فلسفة أفلاطون ويجعلها تمعن تشبثهابمفاهيم الحق والخير والجمال واعتبارها مثلاً عليا واعتبارها صوى الطريق إلى الفضيلة، وربما بسبب ذلك تحيد عن الطريق السوي إلى هدفها السامي، وسمتا المثالية هاتان هما ما يفتقر إليه حملة الأيديولوجيات ودعاتها، ومن يزعمون انهم مخلصوا الإنسان وبناة المدن الفاضلة لإسعاده فمنذ مدينة الله لأوغسطين مروراً بمدينة الشمس لكامبانيللا ويوتوبيا توماس مور ومدينة الفارابي الفاضلة وأسطورة الخلاص الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا وجماهيرية القذافي العظمى وجنته التي كان هو وصبيانه يسوقوننا إليها بالسلاسل، ولمّا نزل نجني زقومها ونغص بتفاحها وحتى جنة العم سام المعولمة.
وإن يكن خطأ أفلاطون ومبالغته في الإنحياز إلى مارآه صواباً قد خذلت الشعر والفلسفة، فإن الأيديولوجيا التي تمتطي موجة الفضيلة قد خذلت الإنسان وحكمته وروحه الشاعرة وابداعه وفضيلته، وغربته عنها جميعاً وعن نفسه ولم تقدم له سوى الأوهام.
كما أن ما يمكن إضافته لتبرير خطإ افلاطون هو اعتبار تأثره بالتراث الأسطوري الذي كان سائداً عالمه ووطنه، قد حال بينه وبين أن يرى الحق والخير والجمال على حقيقتها وأن يضعها في الموقع الذي يليق بها بحيث لا يقطع صلتها بالواقع المعاش ويقرر أنها مثل سامية تفارق الواقع ولا أمل لتحققها الفعلي فيه، فلولا ذلك التراث لرأى أفلاطون الحق والخير والجمال كما ينبغي أن تُرى، ولعرف أن شأنها شأن الإيمان والحب والسلام والفرح والأمل التي تجسد تجليات سامية لمبدإ الوجود الأسمى الذي يؤسس للحياة والحرية والفضيلة والعدالة والمساواة والمواطَنة، وينتظمها جميعاً في عقد القيم الإنسانية.
وفي زماننا الذي يلوثه غبار الدونكيشوتيات الغبية ويعلو فيه صخبها العبثي، وتصم أذنيه لعلعة الكائنات الشائهة البكماء ونعيق طفيليات الإعلام الذي لايبين والسياسة الحسيرة البصر والبصيرة، وتتكشف الغلالات الزاهية للثقافة والحضارة عن أفق كامد يغلفه غيم لا يحمل غيثاً ولا يبشر به بل ينذر بشواظ من نار وكبريت، يضيق العالم بما يزحمه من متواترات وثوابت مزعومة ومن أوهام وأكاذيب أيديولوجية، لتكتمل المأساة الهزلية بإختزال الحياة الإنسانية إلى عيش قمئ دون عيش السائمة.
في زماننا الردئ لا بد من لحظة ينتبه الإنسان عندها ليكتشف ضياعه مختنقاً ومحشرجاً تحت وطأة الظلام وتهديد العدم، ويكتشف أيضاً حاجته إلى أفق مغاير، إلى أفق رحب مفعم ومغمور بالدفء والنور والحس الإنساني وثري بالنقاء والرؤى الإبداعية.
لا بد له من أن يسشعر حاجته إلى اكتشاف الملامح الحقيقية للوجود والحياة ومعرفتها والتماهي بها، وكي لا يبؤ بالخذلان الذي لا يقود لغير القنوط، على الإنسان أن يتجنب كل ماله علاقة بالإيديولوجيا وخياراتها وانحيازاتها اللا إنسانية، وهو لن يجد أجدى له من أن ييمم وجهه صوب القصيدة، التي تجئ هنا للتمثيل عن كل ما يجسد الإبداع الإنساني، فالمنحوتة الحجرية، والقصة والرواية والمعزوفة والمسرحية واللوحة التشكيلية كلها قصائد تفعل كل منها بنوعها الإبداعي الذي تمثله ما تفعله القصيدة التي تحدد للشعر ماهيته وملامحه وتضفي عليه المعنى والقيمة وتمنحه الشرعية الإبداعية، ومثل كل ابداع أصيل لن تحقق القصيدة ذلك إلا بعودتها إلى ذاتها وقهر اغترابها باستعادة صلة الرحم وقرابة الدم التي تربطها بالوجود والحياة بكل تجلياتهما من مبادئ وقيم سامية، وأن تكافح كل ما يحاول أن يقف بينها وبينهما بما في ذلك تخوم التي خشَّبَها التسطيح البليد والتوظيف الأيديولوجي وانتهيا بها إلى هياكل جامدة ورمم حروف لا روح فيها.
تبرئ القصيدة اللغة من عقمها، وتثريها بالرؤى المنمية وكائنات الخيال الخصب، تبث فيها نسغ الحياة وتضرم جذوة الوجود، وهو ما تحققه بالغوص فيما وراء سطوح الواقع المبتذل وواجهات الكلام المزوقة، والإيغال عميقا في قلب الوجود لتعانق الحياة في ذاتها وعبر تجلياتها التي تجسدها القيم الانسانية السامية، وفي روح الحياة لتعانق الوجود في ذاته وفي تجليه في مبادئ الحق والخير والجمال والإيمان والحب والسلام والفرح والأمل، لتجئ محملة بالنفائس التي تثري الإنسان وتبشره بالخلاص من ضياعه في متاهات الوهم.
ذلك ما تصنعه القصيدة بلد الطيوب ومدينة الإنسان الفاضلة وفردوسه المستعاد.
______________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل