العَلمانيّة مُصطَلحٌ مُشوّهٌ في الثقافة العربيّة، ومُتعدّد في الثقافات الغربية، ناهيكَ عن كونهِ ترجمة غير دقيقة وغير موفّقة (لايكوس/إكليروس)، وفي مجتمعنا هي رذيلةٌ ترادف الإلحاد، وتهمةٌ توجب القتل أو الحرق؛ سيّما والمجتمعُ أسيرٌ للتعميمات، ضحيّة التصنيفات، والتي لا يستطيع العيش بدونها. فهو لا يرى خارج الصور النّمطية العامة، التي لا تقبل عنده الاستثناءات، فالتفاصيل تتعبه، والتعميمات أسهل له، وما لم يُصنّفك لن يتعاملَ معك.
وفي المقابل وعلى مستوىً أعلى نسبيّا، نجد استسهالا كبيرا، وإسهالا كثيرا، في استعمال هذا المصطلح وغيره مّما يدور في فلكه، دونَ تقديم تصوّرٍ واضحٍ عنها، أو آليّة لتطبيقها، والاكتفاء بالمقارنات المُجحفة، والتلاعب بالعاطفة، والنقرِ على عُقد النقص والقابليّة للاستحمار؛ لتقدّمَ على أنّها النعيمُ المقصود والحُلُم المنشود، والمجتمع الفاضل المفقود!!!.
وكثيرا ما يردني سؤالٌ مُبطَّنٌ بالاتهام، وجُلُّهم من مدينتي (درنة)، مضمونه: هل أنتَ علمانيّ؟!!، وذلكَ لأنّهم لم يجدوا في صفحتي منذ إنشائها، للعلمانية ذِكرا، ذمّا ولا مدحا. ويكون عادة ردّي المُباشر على المُتسائل: ما الذي تعنيه تحديدا بالعلمانية في قولك؟!!، فمن المفترض أنّ لك تصوّرا واضحا عنها وإلا لما أدرجتها في سؤالك دون بيان!!، وفي الغالب يجيبُ المتُسائل متخبّطا.
وإجابة على هذا السؤال المُتكرّر وتوفيرا لوقتي وجهدي، أقول:
الحُكم على الشّيء فرعٌ من تصوّر ماهيّته، وكلّما كان التصوّر واضحا، ازدادت الرؤية كمالا، وساعدَ ذلك في ضبط المفاهيم والمُصطلحات، والتي نعاني من فوضى في استعمالها، والتعامل معها، خاصّة ونحن نعيشُ عالما، تتحرّك فيه المفاهيم أسرع من اللغة. فتقاطعُ الدين والسياسة، أفهمه من خلال دعامتين رئيستين، لا يقومُ تصوّري لبُنيانه إلا بهما، تحريرا لمحلّ النزاع، كأوّل خطوة للبحث، وهما:
– الأولى: الحِياد الديني.
– الثانية: التداول السلمي للسلطة.
هذا في عُجالة؛ فإنّ كانت الركيزتان علمانيّة، فنحن علمانيّون، ولكَ أن تسمّيها بما شئت، فهمانيّة / شكلبازية / شبردق، أو عبود التكرة العتيق. وإن كان لك تصوّر آخر عنها، فذلك لا يُلزمنا في شيء، ولسنا منه على شيء، كدعوة بعضهم: (فصل الدين عن المجتمع)، وهذه دعوةٌ على صعوبة تحققها، نرفضها، إذْ نراها اغتيالا للهُوية الوطنيّة. بل على العكس تماما، يجب على الدولة بدستورها وقوانينها، أن تحمي خصوصيات أفرادها الشخصية والمذهبية والطائفية والعقدية، وتقاليد وعادته وثقافته المتجذّرة، ولا يُطالبُ بذلك إلا جاهلٌ أو متساهلٌ.
وإنْ كُنّا نتجنّب المصطلح (العلمانية)، ولا نُحبّذه، حتى لا يُدلّسَ على المُواطنِ البسيط، لتشويه مقاصدها، والتباس دلالاتها، ويُتّخذ ذريعة في التصفيات السياسيّة، فينشغلَ بالشكليات دون المضامين، ذلك أنّنا أصحاب فكر ولسنا أصحاب هوى نتلذّذ بالخلاف وندّعي الفوقيّة. وفي نهاية الأمر لا مُشاحة في الاصطلاح متى ما أُدركتْ المعاني والمقاصد.
وسأفصّل الحديث عن (الحياد الديني) و(التداول السلمي للسلطة) ولوازمهما، في المنشورين القادمين، كُلا على حدة، ولو تأمّلتَ مضمونها لوجدتَ أنّهما يدوران حول الحريّة، القيمة الذاتيّة المفقودة في الوعي العربي والاسلاميّ، تاريخا وفكرا وتطبيقا، ضحيّة لمذاهب الجبر، وعقلية القضاء والقدر، بتأثير تسييس الدين وتديين السياسة.
__________________________
ليبيا المستقبل، 2016/10/04