المقالة

الشعر محدقا في البعيد

بوابة الوسط

التمرد فعل شعري في حد ذاته، وهو بقدر إشباعه لصلف القصيدة ولرغبة الشاعر في تغيير الواقع، بقدر ما هو المنتج الأساسي للقطيعة بين الشاعر وقراء عصره، وربما حتى نقاده، وفي هذه الحالة يصبح الخروج عن السائد، وصدم الذائقة الدارجة، متعةً فنية في حد ذاتها، لأن المغامرة خطاب شعري يعبر عن نفسه من خلال الشكل ومضامينه.

الشاعر في هذه الحالة يعي ما يفعل، ويعتقد جيدا أنه متناغم مع المستقبل أكثر من الحاضر، كونه كائنا حالما ومهندسا لخيال القصيدة التي تتوق إلى زحزحة كل ما هو مألوف ومشبع بالرضا، بينما الشاعر المداهن لواقعه، وولوع بمعرفة ردود الأفعال الشعبية على كل قصيدة ينشرها مباشرة، يلقي في السوق بديوانه الجديد منتظرا في اللحظة سماع دويه، وحين لا يحدث هذا يصيبه الإحباط ويشتم عصره، مقتنعا أن عصر الغاوين والقراءة قد انتهى، بل يذهب البعض إلى أن مجد الشعر إلى أفول، وتسود القناعة عبر جس سوق الشعر بمؤشرات فورية، سر أخطائها أنها لا تقرأ التاريخ، تاريخ الفن، ولا تطل على المشهد من بعيد، كمن تموت الشجرة التي يستظل بها فيعتقد أن الغابة انقرضت، وأنه في صحراء قاحلة.

نشر فرلين في عام 1886 وهو شاعر مشهور، ستمائة نسخة من ديوانه مشاهد حزينة، وفر منها مائة نسخة للشاعر والنقاد والباقي تم توزيعه في أوروبا. أما رامبو فقد دفع من جيبه القاحل لنشر خمسمائة نسخة من ديوانه الأول (فصل في الجحيم)، وهو الذي كان له تأثير عميق على شعر القرن العشرين، احتفظ رامبو بست نسخ له، والبقية كان من الممكن أن تتآكل في مخازن الناشر، لولا أن عثر عليها أحد المهووسين بجمع الكتب، لينقذها عام 1901 وسوف لن يعلن عنها إلا عام 1914، أما ديوانه الثاني إشراقات، فقد نشره فرلين عام 1886، ولم يعرف رامبو الذي كان في الحبشة أي شيء عن الديوانين، ومات رامبو دون أن يعرف أنه ترك ألغامه الشعرية تحت بناء الشعر الذي قبله، ليدوس عليها شعراء القرن القادم وتملأ العالم بدويها. بينما دفع الشاعر الكبير لوتيرمان تكاليف طباعة ديوانه الأول، وظلت الطبعة في قبو الناشر، إلى أن جاء الشاعر والناقد ريمي دو غورمنت، بعد سنوات من موت لوتيرمان، وعمل على لفت الانتباه إلى هذا الديوان «الفخم التعيس» كما يقول مؤرخ الشعر جيمفيرير، وليس الشاعر الكبير نيرودا ببعيد عن هذا العنت، حيث نشر له التولاغير خمسمائة نسخة من ديوانه: قصائد الحب الأولى وهو الشاعر المتميز في تلك الفترة في العالم الناطق بالأسبانية.

غبطة الغرقى

نشر الشاعر الإيطالي المولود بالإسكندرية جوسيبي أونغاريتي ثمانين نسخة من ديوانه غبطة الغرقى، وهو الشاعر الذي رحل بندم لجنة جائزة نوبل التي عميت عنه.

وحين طبع بودلير ألف نسخة من ديوانه (أزهار الشر) الذي حذف الناشر جزءا منه، قوبل بامتعاض شديد من القراء والنقاد، إلى أن جاءه التقدير أخيرا وأطلق عليه لقب الأستاذ المايسترو، ولكن بعد أن أصيب بشلل نصفي وتوفي بعد عامين. وفي عام 1855 ظهرت الطبعة الأولى من أوراق العشب لوالت ويتمان دون أن تحمل اسم المؤلف، وجنى والتمان من خمس طبعات متتالية 25 دولاراً. والقائمة تطول.

والآن.. دواوين هؤلاء الشعراء يمكن العثور عليها في كل مكتبة، وهي تقرأ من أعداد هائلة من قراء كانوا في مخيلة الشعراء. السؤال الدارج لدينا: وما الفائدة التي نالها الشعراء؟ حسنا إنها لعبة الشعر حين يكون محدقا في البعيد.

استعجال النجاح 

ثمة شعر كثير، أو شعراء كثر، يحدقون تحت أقدامهم، ويقيمون النجاح من أول قصيدة ينشرونها، أو من كم النسخ التي يملؤون بها حتى محال البقالة، أو الجوائز التي يفوزون بها، لكن عادة ما يخذل الزمن أو التاريخ هذه التجارب التي تتوخي ضجيجا لكل نقرة على الكي بورد، وتتوقع زحاما شعبيا على كل أمسية شعرية، أو أكداسا من نسخ كتب القصائد تملأ مكتبات العالم.

لم تكن هذه أبدا لعبة أو غاية الفن عموما، الذي يشبه تاريخه مهنة صائدي الذهب الذين يحصلون على جرامات منه عبر غربلة أطنان من التراب. 

في هذا الزمن أصبح النشر متاحا لكل منتج شعر وفق رغبته الشخصية عبر المواقع الإلكترونية وعبر مواقع التواصل دون الحاجة لمؤسسات نشر أو توزيع، وأصبحت ردات فعل المتلقي فورية لقصيدة ربما نشرت مسودتها الأولى وعبر تعليق من أول قراءة، وهذه ميزة تتيحها هذه الثورة المعلوماتية، لها جوانبها الإيجابية والسلبية، فهي تتيح فرصة للتفاعل بين منتج الشعر وقارئه، وكأن هذا التفاعل ورشة شعرية يشارك فيها الشاعر وأصدقاؤه في العالم الافتراضي، لكنها من ناحية أخرى تفضي غالبا إلى نوع من تورم الذات والاكتفاء من عدة الشعر، بعد يقينها أنها أصبحت في قلب متحف الشعر العالمي، وأن هذا التصفيق الصامت تحت القصيدة عبر التعليقات المجاملة، أو القلوب الملونة، يعطي وهما لذيذا بأن الشاعر تكرس في لوحة الشعر من أول قصيدة ينشرها دون أن يحتاج إلى عنت وتعب من ذكرناهم من قليلي الحظ الذين انبثقت مواهبهم حين كان غربال النشر أعمى، وحين كان أغلب الناشرين ينظرون إلى منطق سوق الكتاب الذي لا يعتقد إلا بالنجوم وبما يريده زبون الكتاب الراهن، لكن قلة من الناشرين المبدعين الشغوفين بالمغامرة هم من وثقوا في النهاية هذه المغامرات التي شكلت في مجملها متن الشعر الإنساني الذي لا يطاله النسيان.

معدلات الإقبال

لعبة الشعر والفن عموما معقدة، غير أن الجوهري فيها هو عدم الرضوخ لمعدلات الإقبال أو الطلب الجماهيري، لأن الشاعر عادة ما يحدق بعيدا محاولا الإجابة عن أسئلة لم تطرح بعد، أو طرحت بطريقة خاطئة، وغالبا لا تعنيه ردات الفعل الآنية لأنه يدرك أن لعبته لا ترضخ لقوانين اللحظة، بل أحيانا يكون صادما لذائقة عصره، مؤسسا لحساسية جمالية قد يكتشفها جيل أو أجيال قادمة، وقد يتوقف عندها نقد هو أيضا ينطلق من منطقة الشغف المعرفي نفسها، وقد يموت هذا الشاعر مجهولا وفقيرا تاركا منجزه تحت تراب النسيان حتى تعثر عليه حفريات النقد مستقبلا، والباحثون في تاريخ الفن الأصيل، فيزحزحون به مفاهيم كثيرة تتعلق بالجوهر الشعري وبالجمال وبالخطاب وباللحظة الخاطفة التي تتحول إلى أبدية.

مقالات ذات علاقة

عتمة تحجب الضوء

آمنة القلفاط

استعادة ليبيا المتحدة ضمان لليبيا الواحدة

أمين مازن

ثقافة العقل العربي

عبدالرسول العريبي

اترك تعليق