المجاهد البطل: الفضيل بوعمر
قائد دور قبيلتي العبيدات والحاسة بمنطقة درنة
.
د. إدريس الحرير
.
ولد الفضيل بوعمر الأوجلي المعروف بأبي حواء “بوحوّا” في واحة أوجلة حوالي سنة 1880م، وكان والده شيخاً لزاويتها وقد تعلم وتربى تربية دينية إسلامية حيث حفظ القرآن الكريم وشب على الشجاعة والاقدام وقول الحق وحب الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الدين والوطن وكان مشهورا بالتقوى والصلاح.
المجاهد الفضيل بوعمر
وعندما غزت ايطاليا الأراضي الليبية سنة 1911م كان الفضيل بوعمر من أوائل الذين انضموا إلى قوافل المتطوعين للجهاد للدفاع عن الوطن، وقد أبلى بلاء حسناً في العديد من المعارك وبذل جهدا كبيراً في تنظيم حركة المقاومة ضد الايطاليين في المرحلة الاولى من الجهاد.
ولما اصبح عمر المختار قائدا لحركة الجهاد في الجبل الاخضر سنة 1922م اختاره مساعداً ومستشاراً خاصاً له وعيّنه قائدا عسكريا لدور “معسكر” قبيلتي العبيدات والحاسة بمنطقة درنة وعضوا في الهيئة الجبلية بقيادة حركة المقاومة وهو بمثابة المجلس الاعلى للقيادة او ما يشبه هيئة اركان الحرب اليوم.
كان للمجاهد الفضيل بوعمر دورا بارزا في المعارك ضد الايطاليين وفي المفاوضات التي جرت بين عمر المختار والايطاليين فقد حضرها كلها وكان متفقا في الرأي مع عمر المختار حول الاصرار على نيل حرية واستقلال ليبيا وتحريرها من الايطاليين، أو الاستشهاد دون ذلك. فقد حضر الاجتماع الاول مع الايطاليين الذي عقد في القبقب في شهر مايو سنة 1929م، واجتماع سيدي ارحومة في 19 يونيو 1929م، وكان هو الذي قام بتلاوة شروط المجاهدين امام بادوليو.
كان موقف الفضيل بوعمر صلبا، لا يتهاون في حقوق الوطن وقد ظهر ذلك واضحا خلال المفاوضات مع الايطاليين وبالذات في اجتماع سيدي ارحومة الذي اشرنا اليه فقد أصر على نيل حقوق البلاد كاملة ولكي يقطع الطريقا أمام سماسرة ايطاليا وعملائها ويفوّت عليهم التلاعب بمطالب حركة الجهاد تلا على الحاضرين بصوت جهوري قوي ما يريده المجاهدون وقد اضطر بادوليو إلى قبول كل شروط وفد المجاهدين والوعد بدراستها مع الحكومة الايطالية والرد عليها في اقرب وقت ممكن.
قام الفضيل بوعمر بناء على تعليمات من عمر المختار بجولة من اجل تجنيد المتطوعين للجهاد وقد نجح في ذلك إلى حد كبير فنراه يجند مرة واحدة من قبيلة أزوية مئة متطوع وذلك بفضل شخصيته وقدرته على الاقناع.
شارك المجاهد الفضيل بوعمر في العديد من المعارك ضد الطليان ومنها معركة بلال الثانية غرب اجدابيا في 28 اغسطس 3 سبتمبر 1923م والرحيبة 28 مارس 1930م وبلقس جنوب الفائدية في 11 ابريل 1930م ومعركة وادي السّقيّة قرب الاثرون في 20 سبتمبر 1930م وهي المعركة التي استشهد فيها، هذا الى جانب العديد من المعارك الاخرى التي جرت مع دور العبيدات والحاسة والايطاليين.
كانت معركة وادي السّقيّة من المعارك الكبيرة ضد هذا المعسكر “دور” فقد وجه الايطاليون قواتهم الموجودة في المنطقة الشرقية من الجبل الاخضر كافة وذلك في محاولة للقضاء على قيادة المجاهدين التي كانت موجودة بهذا المعسكر ولهذا دفعت بقوات كبيرة حاصرت نقطة الاثرون من جهات سوسة والقبة ودرنة. وجرت تبعا لذلك معركة رهيبة بين الجانبين استمرت يوما كاملا من دون انقطاع. تمكن الايطاليون من ضرب حصار حول المجاهدين وحصارهم في منطقة شديدة الوعورة في وادي السقية الصعب المسالك. وعندما لاحظ الفضيل بوعمر ان العدو قد تمكن من فرض حصار على المجاهدين قاد مجموعة من احسن رماته وشن هجوما خاطفا على احدى حلقات الحصار الايطالي وفي الوقت نفسه طلب من قوات المجاهدين الخروج بسرعة من الثغرة التي تم فتحها وكان على رأس الذين خرجوا سالمين عمر المختار وكبار قادة المجاهدين وأغلب قواتهم. وتنفيذا لهذه الخطة المحكمة الناجحة بقي الفضيل بوعمر ومجموعته في المؤخرة يقاتلون الايطاليين ويعطلونهم عن اللحاق بالمجاهدين المنسحبين فأصابته رصاصة استشهد على اثرها مضحيا بنفسه من أجل سلامة الاغلبية وعلى رأسهم عمر المختار وكبار معاونيه. وقد أسفرت المعركة عن استشهاد خمسين مجاهدا.
أما القوات الايطالية فقد كانت خسائرها كبيرة باعتراف غراتسياني نفسه الذي كتب عن هذه المعركة قائلا: “في يوم 20 سبتمبر سنة 1930 هاجمت قوات الجبل الوسطى مقر قيادة الثوار بالجبل وعلى أثر هذا الهجوم تحركت القوات من جهة اليسار لتضايق الثوار في وادي السّقيّة. وهكذا استمر القتال إلى ما بعد الظهر حيث وصلت الفرقة الرابعة عشر الاريترية بقيادة الكونت من جهة اليمين وبهذا اصبحت قوات الثوار شبه مطوقة. ورغم هذه الحركة التكتيكية العسكرية استطاع الثوار ان يفلتوا من هذه الكماشة بعد أن تكبدوا خسائر فادحة في الارواح..
وكان من بين القتلى الفضيل بوعمر مساعد عمر المختار ومستشاره. وهو الذي هجم برجاله على التطويق وفتح فيه ثغرة حيث خرج عمر المختار وأتباعه وكانت خطة محكمة وضربة قاسية في كياننا. وغطيت هزيمتنا بقتل الفضيل بوعمر. وكان الشعب الليبي قد ابدى تحمسه اثر هذه المعركة الكبيرة. ولكي نوقف هذا الحماس قمنا بهجوم آخر في المنطقة الشرقية. وحتى هذا الهجوم المكون من القوات الثلاث بقيادة القواد الثلاثة بياتي وماروني ورولي لم نتحصل على نتيجة منه. فكل اعمالنا الحربية في المنطقة الشرقية باءت بالفشل في كل المحاولات.. بعد قتال دام 15 يوما”.
وعلى الرغم من فقدان الشهيد الفضيل بوعمر القائد الحقيقي في تنظيم قوات المجاهدين كما يصفه غراتسياني صراحة في كتابه برقة الهادئة فإن نتائج المعركة كانت هزيمة منكرة وموجهة للقوات الايطالية وخططها الحربية. وقد نتج عن هذه المعركة رفع معنويات المجاهدين والمؤيدين لهم من الشعب الليبي.
ولكي توقف ايطاليا هذا الحماس الوطني لحركة المقاومة ضدها الذي اخذ يزداد قوة بعد الانتصارات التي حققها المجاهدون ضد قواتها قامت باتخاذ اجراءات قمعية وحشية ضد المواطنين الليبيين العزّل من السلاح الذين تشك في تأييدهم لحركة الجهاد. ومن هذه الاجراءات الصارمة حرق وهدم ممتلكات المشتبه فيهم او مصادرتها بالاضافة الى القتل الجماعي كما حدث مع عائلة الحمر بوادي درنة حيث تم الفتك بحوالي ثمانية عشر رجلا نظرا لاستضافتهم لبعض المجاهدين ويمثل هؤلاء الرجال ارباب منتجع هذه العائلة المجاهدة التي قضي على رجالها جميعا باسثناء صبي واحد نجا من رصاص الايطاليين بأعجوبة. ولا تزال رفات هؤلاء مدفونة في كهف يعرف بكهف الشهداء يعتز سكان درنة بشجاعتهم ويزورون مقامهم الذي يعرف شعبيا “بمقطع الحمر” للترحم عليهم. واعتزازا بشجاعتهم وجهادهم الوطني.
ومن الاجراءات اللاأخلاقية التي قام بها الايطاليون ضد المجاهدين الليبيين هي التمثيل بأجسادهم وقطع اطرافهم أو رؤوسهم وعرضها في الميادين العامة والطواف بها على المساجين السياسيين الليبيين المؤيدين للمقاومة الوطنية وذلك في اطار الحرب النفسية التي شنتها ايطاليا إلى جانب حرب الإبادة العسكرية لإثارة الرعب والخوف في نفوس الليبيين ليوقفوا تأييدهم ومساعدتهم لحركة الجهاد ضد الطليان.
لقد رصدت ايطاليا مبلغ مئتي ألف فرنك ايطالي لمن يأتي برأس عمر المختار حياً أو ميتاً. أو قدم معلومات عن مكان تواجده ولا بد وانها وعدت بالمكافأة نفسها لمن يدلي بالمعلومات نفسها ويأتي برأس أحد كبار قادة الجهاد الآخرين كما حدث مع الشهيد الفضيل بوعمر الذي تعرف على جسده احد المجندين الليبيين مع ايطاليا فحز رأسه وأسرع بها إلى القيادة الايطالية التي بدورها نقلت الرأس إلى بنغازي وعرضتها على السجناء السياسيين الليبيين في معتقلات بنينة وبرج شويلك وبنغازي بقصد ارهابهم وتحطيم معنوياتهم ثم عرضتها في ميدان البركة ليشاهدها عامة الشعب الليبي، في هذه المدينة التي أبدت حماسا وتشجيعا كبيرا لحركة الجهاد بقيادة عمر المختار.
يتضح لنا من عملية حزّ الرؤوس لخصوم ايطاليا في ميدان الحرب مدى انحطاط الفاشيست المنافي لقوانين الحرب الحديثة. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على مرارة الحقد على الشهيد بوعمر الذي سدد لايطاليا ضربات موجعة في الميدان الحربي والسياسي حيث كانت موافقه اثناء المفاوضات رافضة للحلول الاستسلامية. وقد قام الايطاليون بالاجراء نفسه مع الشهيد يوسف بورحيل الذي قتل في معركة شرقي طبرق فقطعوا رأسه ونقلوه إلى بنغازي.
لقد حزن عمر المختار والمجاهدون على فقدان الشهيد الفضيل بوعمر الذي كان بحق قائدا عسكريا قديرا ثائرا ومجاهدا مخلصا ومساعدا ومستشارا امينا لحركة الوطن بالجبل الاخضر. ولكن رغم هذه الفاجعة الاليمة استمرت حركة المقاومة في جهادها بفضل شخصية قائدها عمر المختار ورفاقه الابطال المخلصين.
في سنة 1977م واثناء تجميعنا لتاريخ جهاد الليبيين الشفوي روى لنا عدة مجاهدين هذه القصة حول الرجل الذي حزّ رأس الفضيل بوعمر وسلمها للطليان من اجل المكافأة المالية.
ونظرا لأهمية هذه الرواية والدرس المستفاد منها أود سردها للقارئ العربي الليبي وكل محب للحرية يتخذ منها عبرة في الحياة.
بناء على طلب من المجاهدين رفاق الشهيد الفضيل بوعمر الذين رغبوا في زيارة قبره واقامة احتفال سنوي بمناسبة استشهاده اضطرت حكومة ولاية برقة آنذاك أن ترسل وفدا للبحث عن المكان الذي دفن فيه. وشاءت الاقدار ان يكون قاطع رأس الفضيل ضمن هذا الوفد الرسمي والذي يبدو انه ظن إنه لا يوجد من يعرف فعلته الشنيعة تلك. وذهب الوفد الى الموقع الذي دفن فيه الفضيل بوعمر مع رفاقه الذين استشهدوا معه وسأل الوفد حارس المقبرة عن قبر الشهيد وكان هذا الحارس يعلم بقصة قطع رأس الفضيل وهوية من قطعها. فكان جوابه إن جسده من دون رأس مدفون هناك مشيرا إلى مكان القبر أما رأسه، “فاسألوا” عنها رفيقكم هذا فهو الذي قطعها وسلمها للطليان. فصعق الوفد لهول الصدمة وحراجة الموقف لأن رفيقهم كان أحد كبار المسؤولين بحكومة برقة. واقترب احد اعضاء الوفد من الحارس محاولا اثناءه عن توجيه تهمة قطع الرأس الى ذلك المسؤول قائلا له: إن الرجل الذي اتهمته يمكن ان يتدخل لدى الحكومة ويفصلك من عملك كحارس فكان رده لا أبالي لأنه لا توجد وظيفة أدنى من وظيفة حارس مقبرة “غفير جبانة”، فازداد احراج الوفد ولكنهم اعجبوا بشجاعة وصراحة هذا الرجل الذي أبى عليه ضميره الوطني إلا ان يفضح هذا العميل.
وينطبق على موقف ووضع قاطع رأس الفضيل بوعمر قول الشاعر العربي القديم:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة .. وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد كشف الله سبحانه وتعالى في الدنيا عمل هذا الرجل الشنيع ضد جثمان بطل وشهيد وطني كرّس حياته لقتال عدو الله والدين والوطن رافضا كل اغراءات ايطاليا المادية وتهديداتها المستمرة له بالقتل.
وتقديرا من جماهير بنغازي لجهاد هذا البطل الوطني فقد قامت في صيف سنة 1977م ببناء نصب تذكاري له في المكان نفسه الذي علّق فيه رأسه وهو ميدان البركة وتسميته باسمه ميدان الفضيل بوعمر بعد ان حُرم منه سنين طويلة.
_____________________________________
* قسم الدراسات التاريخية والأثرية، جامعة قاريونس – بنغازي.
عن موقع جيل ليبيا