محمد البشير المرابطي
شيخ عارف.. وسيرة منسية
.
محمد العنيزي
.
شيخ صوفي عارف.. كاد أن يطويه النسيان.. له طابعه ومذاقه الخاص في الآثار القليلة التي تركها من أوراق مكتوبة.. من القوم الذين هاموا في رياض الحب.. فجادت قريحتهم بالشعر والنثر وخلفوا لنا تراثا شعريا مميزا عن غيره من الأشعار في دلالاته وأشاراته الصوفية ومعانيه..صاحب حزب الأستغراق في مناجاة الله الخلاق.
هو “محمد البشير بن محمد بن علي بن محمد بن أبي بكرالمرابطي” نسبا..من مواليد بلدة (آقـار) في قضاء الشاطيء بفزان سنة 1204هـ.. تلقى تعليمه الأول في جامع القرية العتيق.. حفظ القران الكريم.. ودرس الفقه والتفسير وعلم التصوف.. وتنقل بين قرى وادي الشاطيء وسبها ليتلقى العلم على يد كبارعلماء تلك المنطقة من أمثال العالم “عبدالله بن عبدالجليل” في (براك) و”شمس الدين بن أحمد الحضيري” في منطقة (الجديدة) بسبها.
هاجر من قريته أثر حصول الأضطرابات في منطقة فزان وذلك أبان فترة حكم “يوسف باشا القره مانلي”، ثم عاد أليها ليتم تعيينه أماما بها، ويقوم بتدريس العلم للطلاب فيستفيد منه خلق كثير.. وتذيع شهرته في الجنوب الليبي كعالم ومتصوف كما ينتشر صيته في الشمال ومناطق المغرب العربي.. وتنتشر الكثير من القصص عن ورعه وكراماته.
لم يترك الشيخ “محمد البشير المرابطي” مؤلفات مكتوبة.. ولكن تم العثور على بعض الأوراق المنسوخة عن مؤلفاته الأصلية.. وقد قام الدكتور “محمد الطاهر الجراري” بجمع ما يمكن منها وأخراجها في ثلاثة مؤلفات هي: الحكم والدعاء والقصيدة..ضمنها في كتاب واحد صدر عن مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية عنوانه (نصوص أدبية- محمد البشير المرابطي).
تشتمل هذه النصوص على حكم مستقاة من منهج أهل التصوف في التربية والمجاهدة وسلوك الطريق للمريد بصحبة شيخ عارف..والتحلي بالأدب قبل العلم.
ويبين الشيخ الصوفي العارف “محمد البشير المرابطي” رؤيته المنبثقة من مجاهداته حيث تتماهى الحدود الفاصلة بين الواقع المعاين المباشر وماوراء الواقع.. شأنه في ذلك شأن مشاهير أقطاب الصوفية الذين طبقت شهرتهم آفاق العالم الأسلامي.. وقدموا رؤيتهم في مؤلفات اشتملت على أساليب سرد متنوعة. يقول في أحدى الفقرات من نصوص الحكم مبينا صحبة العارفين:
لاسبيل يرشدك إلى معالم التحقيق
سوى صحبة أستاذ عارف وصديق
سلبته الحقيقة عن ملاحظة أياه
وتجلى فيه مولاه
فقم بأداء حقوقه
وتكاليف شرائعه
والزم صحبته
تجد الحق فيه.. فعلامة الشيخ العارف الذي يشير أليه الفقيه المرابطي والذي يجب الأدب معه أن يكون عارفا بالكتاب والسنة قائلا بها في ظاهره وباطنه متحققا بها في سره.. يراعي حدود الله ويوفي بعهد الله.. ولايمقت أحدا من العصاة بل يتلطف به ويدعوه ألى الخير.
والتوكل عند أهل التصوف هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة.. ويعرفه بعضهم بأنه طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة ألى الكفاية فأن أعطي شكر وأن منع صبر.. قال بعضهم:
التوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خواص الخواص..
ويقول الفقيه الصوفي “المرابطي” في تفويض الأمر ألى الخالق:
من فوض أمره ألى مولاه
ولم يشهد فعالا لسواه
فليعلم أنه اجتباه وارتضاه
وعلى كنوز أسراره أولاه
ويقول في التذلل للخالق دون سواه:
ما المراد منك اظهار الفاقة لخليقته
أنما المراد منك اظهار الفاقة لربوبيته
ويقول في أحد المواضع الأخرى عن العارفين:
كل مشرب من مشارب الجمال والجلال شربت منه أرواح العارفين به
وعلمته فحققته.. فالمطلوب منها غيبتها فيه عنها.. لينالها ما أعظم منه..
كما يقول أيضا:
العارفون به بصائرهم ناظرة أليه وأرواحهم هائمة فيه وقلوبهم متأنسة به وأبدانهم مطيعة له..يصدعون به ويرشدون أليه ويعرفون له بما ظهر لهم منه..ظواهرهم مع الخلق وبواطنهم مع الملك الحق المبين.
وفي موضع آخر نجده يقول:
العارف رجل تجلى فيه مولاه فظهرعليه..فلا تلقه ألا فيه ومعه ومنه وأليه وعنده وله..وهو و أياه بالحق يصدع وللحق يرجع..شرابه شهوة جمال عين اليقين وسكره اتساع فيه وتمكين.. وصحوه حضور معه وتحقيق منه وعلم به وتبيين.. سره بسره في الوجود فدهش.. وتجلى له نوره فارتعش..وتجلى فيه سناه فانتعش..به كان كل كاين.. ولولاه ما كان كاين.
ويقول أيضا عن أهل الحال:
من أشرق فيه نور منه..خص بشعائر النبيين ورسله الصالحين..وهو ملازمة الأدب مع الله تعالى.ومع عباده..والتخلق بالرحمة الألهية ظاهرا وباطنا..حتى يكون بالمؤمنين رحيما.. فمن كان على هذه الحالة فاعلم أنه القطب في الحال والمقام..وهو السراج الذي يهتدي به.
ومن أحوال الصوفية الصحو والسكر.. فالصحو عندهم رجوع ألى الأحساس بعد الغيبة.. والسكر غيبة.. وقد يقوى السكرفيزيد على الغيبة وفي ذلك يقولون.. ربما يكون صاحب السكرأشد غيبة من صاحب الغيبة..
ويقول الصوفي “محمد البشيرالمرابطي”:
غيبتك عنك في مشاهدة أفعاله ترشدك ألى مراتب الهداية والنور والاستباق.. وغيبتك عن مشاهدة أفعاله في مشاهدة أسمائه ترشدك ألى مراتب الدراسة والكشف والأشتياق..وغيبتك عن مشاهدة أسمائه في مشاهدة صفاته ترشدك ألى نهاية السائرين أليه.. وتنظمك في عقد السائرين فيه.. لأن سيرك أليه ينتهي بوصالك له..وسيرك فيه لانهاية له.. ماينتهي جلاله وجماله وكماله..وسره وظهوره ونوره ومظاهره..
فلا يعلم حقيقة ماهو ألا هو..ولايعرف الله ألا الله.
وفي أدبيات الصوفية وأقوالها مايميز بين ماهو صوفي وماهوغير ذلك.. أذ أن شعريتهم تنسجم مع رؤيتهم ألى الكون.. وفي محاولته لتمثل رؤيته الصوفية أبداعيا ترك لنا الشيخ الصوفي محمد المرابطي مجموعة من الأشعار.
فالصوفي المحب يتكلم بلسان المحبة والعشق والسكر لا بلسان العلم والعقل والتحقيق.. أذ يقول “المرابطي” في ذلك:
أيها العشـاق طبتم فاشــربوا
من خمور الود في حان النـديم
شربكم صرف فهيموا واطربوا
بين ساقي الحب والساقي القديم
بحـر فضل ما تشاءون اطلبوا
لكم الرضوان والفوز العظيــم
ويقـول أيضا:
حان شـــربي من صفاء وده
فوجدت الخمر في حان الحبيب
وســقاني قدحا من صرفــه
صرت أيــاه به فيه أغيب
واجتماعي وافــتراقي قـل به
وصـفائي و وفائي والنصيب
ويرى الصوفية أن الخوف والرجاء كجناحي طائر، أذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه وأذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وأذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وعلامة الرجاء عندهم أذا أحاط الأحسان بعبد ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من الله تعالى عليه في الدنيا وتمام عفوه في الآخرة.. كما يعرف بعضهم الرجاء بأنه ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو المحبوب.. يقول الفقيه الصوفي “محمد المرابطي” في الرجاء:
حقق رجاءنا يا ذا الجـــلال
لاتعذب من رجــا وهو يقــول
يا ألهي ياكبير متعـــــال
أعطني الأمان في يوم الذهــول
كما يقول في أبيات أخرى:
وافتحن باب الجنــــان والمآل
كي أرى ياخالقي دار الحــلول
واجعلني في الصراط من رجـال
مرهـم عليه كالبرق الأفــول
وأحطني بنعيـــم وظـــلال
ثم حور عين والحصر يطــول
قـادني الفضل ألى دار الوصـال
بقصور الخلد في قرب الرسول
والوجد حالة من حالات الصوفية التي تصادف القلب.. وهو عندهم نور مقارن لنيران الاشتياق تلوح آثاره على الجسد.. يقول المتصوف العارف “محمد المرابطي”:
ظهر الوجــد علـينا فاختفى
ظاهــرا وباطـنا فينا يـلوح
وسقاني الساقي من خمرالصفا
طيب أنفاس وأسـرار و روح
وهـداني للمعــالي باصطفا
فوجدنا الملـتقى برا صـفوح
ظل الفقيه المرابطي يلقن العلم في قريته أقار ألى أن توفي سنة 1289 هـ، ولقد رأيت أنه من الواجب علي توجيه الشكر للدكتور “محمد الجراري” عرفانا وتقديرا لجهوده في جمع ونشر نصوص هذا العالم الصوفي الجليل أذ لولا هذه الجهود لكانت سيرة علم من أعلام ليبيا مطوية في صفحات النسيان.