مقدمة ديوان (مهابة الغائب) للشاعر جمعة عبد الله الموفق.
1-
هل من الممكن الكتابة في حالة الغاضب، أن يكون الغضب شعرا، القرف والازدراء والسباب والتقيح والإحباط واليأس من الكتابة. وأن ثمة جمال يكمن في السخط والعبث واليأس من الكتابة ،ومنه أن الشعر لا يكمن في جمالية الدال وجمالية الدلالة.
أزهار الشر أرادها شاعرها الملعون بودلير أن تكون جماليات السخط والرعب وحتى الابتذال، بودلير في وبهذا لم يلتفت بالمرة لجدل ثنائية النص: الدال والمدلول، ومنذها لم يُعر شعراء جماليات القبح أي أعتبار لماهية الشعر، والأولى ما الجمالية ؟. وفي الحداثة الشعرية بزغت أزهار الشر كزهور لا حقل لها تنبت على حاشية الحداثة، تنزع حتى إلى نزع الشعر عنها ،فهي قصائد برية ونصوص مفتوحة، ومنها سفر لوتريامون (أناشيد مالدورور) هتكٌ للشعر ولأغراضه ،لقد سَحبَ الشعر إلى الهذيان فكأنه أُرجع لطفولته وبدائيته.
أما التشيلي نيكانور بارا فقد نحل الشعر من اللا عقل واللا منطق، فبدا وكأنه يكتب معادلات وألغاز واللا قصدية الحياة التي يلتقطها من الشارع ومن المنثور، فالشعر ما يزدري الشعر، ويمارسُ عادته السرية علانية وبكل فجاجة ممكنة وغير ممكنة مثلما غمغمة الغضبَ. كأن شعر بارا لا يدعي ولا يتملق السخف والإسفاف، وبهذا يجرجر الشعر من شعره ليهجو الشعر وأغراضه ويَسلهُ من نفايات الحياة. بارا الغضوب لا يألو جهدا في النظر بغضب إلى الأمام ،ويلوي رقبة الشعر إلى المنثور في الخلف، وبهذا لا يكتب قصيدة نثر بل نثر الشعر.
وفي القصيدة العربية ثمة معايير ما يمكن استنباطها منذ آمرؤ القيس إلى الشابي والسياب، لكن هامش هذه القصيدة ظل متمردا على التعيير ولهذا حُذف من متنها. ولقد أصيبت الحداثة الشعرية العربية بمسّ أزهار الشر وتمثلت في شعرية الماغوط من خجولا أطل كشاعر مُفارق يكتب شعرية الصحف اليومية ونشرات الأخبار، يقطر شعرية اليأس ساخطا متبرما يوقظ الشعر من نوم الكسول، يُغذيه بالغضب من الشعر أولا ومما يحوطه، لكن هذا لم يجعله يفتك الشعر من معقوليته وتعقله. الماغوط وهو يحرق قصائده بسجائره، مُتكأ على أريكة وسائل النشر من صحف وكتب، كثيرا ما تأنى كلما تراءت له عين الرقيب، فتتسربل شعريته بالوجل ،ويركب يأسا مركب النثر العفيف، فظلت قصائده مسكونة بهواجسها يُراجع ويُدقق ويقرأ سمعي ويلقيها -هي التي على خلاف مع الألقاء- على نفسه المترددة الوجلة، ما يكبلها الشبكة التي يهجوها من رقابة ووسائل نشر وهلم جر.
2 –
الشبكة التي كبلت الماغوط وحاكمت بودلير ،ستُفككها شبكة عنكبوتية في القرن الحادي والعشرين، ويبدو لي أن التشيلي نيكانور بارا هو كاهن معبد دلفي (الشبكة العنكبوتيه ) من ينتمي إليها قبل اكتشافها، إن نص بارا كأنما كتب مرة دون مراجعة ولا مُدقق، منفلتا من التقعيد ومفرداته كما كلمات متقاطعة دون حسيب ورقيب.
كذا ستنبثق قصيدة الانترنت يكتُبها الشاعر في اللحظة التي تُنشر فيها ،ويشارك المتلقي في تلقيها وأعادة صياغتها دون مصحح رسمي ولا ناشر مراقب، ويمكن القول أن قصائد الانترنت هي كما قصائد “بارا” طائر يسبح ضد الجاذبية ولا يشده ولا يدفعه تيار، من الفرن إلى فم القارئ ، وبهذا فالشعر الحر يتحرر من نفسه وما قعد لنفسه، فتتمسرح على شاشة الحاسوب القصيدة الجديدة ،وتتنوع وتتشكل لكل قارئ قراءة أثناء الإنشاء.
نصوص الانترنت تنفلتُ حتى من كاتبها وتتكون تحت نظر مُتلقيها، هي مُرسلة دون عنوان مرسل إليه حاملها اللغة المكتوبة بها لكن دون حدود، وكأن الحاسوب روح المبدع والانترنت دماغه يُخاطر الآخر فيتشكل النص في فضاء مُرسل من الحروف والمفردات في التو، بهذا الوسيلة هي الهدف، وكأنما النص لا كاتب له ومحرر بل كاتب مُتلق في نفس اللحظة، وهذا يبان في نصوص تنشر على الانترنت خاصة في صفحات التواصل الاجتماعي، وهي تُكتب وتُحور وتُراجع مع قرائها ،وحتى إذا ما ضمتها دفة كتاب فذلك بعد أن طالعها قارئها.
هكذا حال يُذكر بالارتجال، مثلما في المسرح مثلا، حيث تنمو وتحور النصوص من متلقيها، وكأنما ثمة ورشة عمل تقوم وتُحرر النص، وإن هذا يطال كل النصوص حتى التي لم تمسى بعد نص انترنت.
لن أذهب في هذا كثيرا لكن أردت توضيح أن النصوص حاليا قد أفتكت من اضبارة الرقيب، وقد تحررت من تعقل وقيود كاتبها المتفرد، وأن النص يسبح حرا في هذا الفضاء ،أما إلى أين فلعل أكتشاف المطبعة يجيب كيف أمست النصوص تسبح في بحور النور، وكيف خرجت من بحر الظلمات.
3-
نص جمعة الموفق هو هذا النص الذي قدمنا ،لكن يطرح أيضا مسألة تخص “الزمكان” حيث هذه الشعرية تأتي ضمن لحظة استثنائية، وذلك يمكن استشفافه من النصوص التي تبدو كما صرخة ساخطة عنيفة في مواجهة عنف مستشري ضد الطبيعة البشرية، ولهذا فإن الشعرية تكسر الاعتيادي ،وتنفي صلتها بما كائن وبما كان، وتنبئ بأن لا أفق للشعر في حال كهذا الحال فما هو هذا الحال؟
قد يُضيء تجربة الموفق الشعرية أن الشاعر ليبي، وأنه شاب تعيش بلاده حربا أهلية التي هي عنف مدمر يتجاوز الطبيعة، فحتى منطق الغابة لا يُبرر حصاد هكذا حرب أو كما يقول الموفق.
قبل الشعرية العربية الليبية أنتجت شاعرا مثلما محمد الشلطامي من مثل صرخة في مُواجهِ سلطة سياسية طاغية مارست العسف، لهذا جاءت شعرية الشلطامي ضمن ما عُدّ شعرية المقاومة السياسية في الشعرية الإنسانية عامة كما شعرية أراغون ومايكوفسكي وناظم حكمت ومحمود درويش، هذه الشعرية الرومانتيكية المشحونة بالغنائية المتمركزة حول الذات التي تعتقد بالتقدم، شعرية سلسة جزلة ،جملتها معقولة تشحنها المخيلة بالصور المدهشة العاطفية ،وتغترف من المُتاح ،ولا تذهب بعيدا حتى أن لا معقولها معقول، ووشائجها بالتراث الشعري قوية ففي حال الشلطامي شاعر قصيدة التفعيلة شعريتهُ جدل قصيدة المتنبي والصوفية، وبنية القصيدة كما البنية التقليدية في قصيدة البيت الواحد كما جاءت عند خليفة التليسي، من يرى أن عمود الشعرية العربية قصيدة لبيت واحد مُكتفٍ، وعلّ هذا يُوصم الشعرية الغنائية أساسا.
لكن “الموفق” قطيعته مع هكذا شعرية واضحة، وقد وضعنا أُسها فيما تقدم من تبيين صلاته ووشائجه ،وعليه تتضح الانفصالات والمقاربات التي تخص هكذا شعرية، والمفارقة الصارخة الزمكانية: زمن الدوت كم، وبلاد الحرب الأهلية، التي وإن لم تقبر شعرية المقاومة فإنها كسرت مسلماتها ،وعرت حفريات سردياتها الساذجة البسيطة، ولا يبين هذا التضاد الشعرية الجديدة التي نرصد في أول تجربة الموفق لكن هذه الشعرية هي التي تبين هذا التضاد والانفلات ،ورصدنا مرجعيتها في بيان نيكانور بارا المضاد للشعر.
الإنشاء الشعري للموفق المجدف ينزاح عن القبول ويقبل بالرفض ،فينشيء علاقة التضاد مع المعقول ويغترف من المستبعد والمدان أخلاقيا، المفردات وحشية والجمل حادة جارحة، والصور معينها المبتذل وحتى المقزز، بهذا فإن الجدة في شعريته ليست في الإنشاء فحسب بل في أنها تطرق السبل المستهجنة فتجعلها الشعرية.
تأويل أي نص للموفق كما تأويل مهابة الغائب التي هي مهابة ارتيابي متصورة ،فالغائب غير محدد بل افتراضي، والغياب يُسربل بالمهابة التي منحها الشاعر للغائب، هذا الغياب يؤول تجربة الشاعر ويطبع شعريته : غياب ما يمنح المهابة لكن لا ندرك غياب ما هو قادم أو ما ذاهب، هل هو غياب الأب أم غياب الابن ما يمنح للغياب المهابة لكن في كل الأحوال للغياب هذا مهابة، فهل المهابة أم الغياب هو ما يسربل شعرية الموفق بالغضب فالسخط والقلق والتوتر فالقرف والتقزز، وهل هذا ما استدعى قبل (مأدبة لبكاء مُرّ).
إن كانت تجربة الموفق الشعرية في أولها وبالتالي مصابة بالارتباك، فإن المدهش فيها لا تردد ،وأنها ليست مُدعية ولا تتملق قارئ معروف ما يريد ومن السهل دغدغته، تتدفق دون احتراز كما وفر ذلكم عصر الانترنت ،واستباح العالم الحروب الأهلية ،فالعصور الوسطى المُستعادة في الهجرة ،وأسوار المدن ،والحدود وهلم جر، وبالتالي شعر الموفق المضاد للشعر يتأتي في زمن اللا شعر، وهنا والآن يستحوذ بمفارقته هذه على شعريته الغضوب المغمغمة ،ويستلها في ( مآدبة لبكاء مرّ) وفي (مهابة الغائب) من اللحظة الاستثنائية البكماء المُفرطة في القتل والهمجية..