يفتتح المفكر وعالم المستقبليات البريطاني ضياء الدين ساردار دراسته “الأزمنة ما بعد العادية: نموذج معرفي جديد في الدراسات المستقبلية” كاشفا ما يعنيه بـ “الأزمنة ما بعد العادية” مؤكدا أنه الزمن الذي نثق فيه بالقليل، والقليل أيضًا هو ما يمنحنا بعض الثقة والاطمئنان.
ويضيف أن روح عصرنا تتسم باللايقين والتغير السريع وإعادة توزيع القوة والتأزم والسلوك الفوضوي. نعيش في مرحلة بينية؛ حيث تحتضر السرديات القديمة فيما لم تولد بعد تلك الجديدة. ويبدو أن فقط القليل من الأشياء هو ما يحمل معنـى.
إن زماننا انتقالي؛ زمان بلا ثقة في القدرة على العودة إلى أي ماضٍ عرفناه، وبلا ثقة في أية طريق نحو مستقبل مرغوب وممكن ومستدام. تبدو الاختيارات مؤلمة، وغالبًا ما تؤدي إلى خراب إن لم يكن إلى حافة الجحيم. في وقتنا هذا، من الممكن أن تكون لدينا القدرة على الحلم بمستقبلاتٍ مشرقة، ولكن غالبًا ما يكون من المستحيل أن تكون لدينا القدرة والالتزام على جعلها حقيقة واقعة. إننا نعيش في حالة من فيض اللا- قرارات: فما الذي يحقق الأفضل؟ وما الأسوأ؟ إننا مكبلون بالمخاطر، ومروعون بالإحجام الذي يسببه الخوف من اختيارات ربما نكون ميالين أو مقتنعين بالإنعام فيها.
ويلفت ساردار في دراسته الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية بمكتبة الإسكندرية والتي ترجمها الباحث د. محمد العربي وراجعتها د. خلود سعيد إلى أن مصطلح “ما بعد العادي” استخدم للمرة الأولى على يد فيلسوف العلم البريطاني المرموق جيروم رافترز، والرياضي الأرجنتيني سيلفيو فونتفيش. حيث لاحظ الاثنان أثناء عملهما في رياضيات المخاطرة أن الصورة القديمة للعلم؛ حيث تؤدي المعطيات التجريبية الإمبريقية إلى استنتاجات صحيحة ويؤدي التفكير والإدراك العلمي إلى سياسات صائبة، لم تعد ممكنة. هناك قدر كبير من اللايقين في الحقل العلمي؛ وهذا يعني، إلى جانب التحولات الحادثة في التمويل والتتجير والاهتمامات الاجتماعية المتعلقة بالتطورات في العلم والقضايا المعقدة للأمن، أن العلم لم يعد يعمل بالطريقة “المعتادة”.
كتب رافتز وفونتفيتش “كلما وُجدت قضية متعلقة بالسياسات تتضمن العلم، نكتشف أن الحقائق غير يقينية، والتعقيد هو النمط السائد، والقيم في حالة تنازع، والمخاطر كبيرة، والقرارات عجلـى، وهنك خطر حقيقي بسبب التهديدات الحادثة بفعل الإنسان غير الممكن السيطرة عليها” . لقد وصفا التطورات الصاعدة باعتبارها “العلم ما بعد العادي” والذي أصبح الآن حقلاً بحثيًّا قائمًا بذاته.
ويقول “يتساوى الكثير مما قاله رافتز وفونتفيتش عن العلم في التسعينيات في صحته على بقية المجالات الآن، أو بالأحرى المجتمع ككل. لقد أضحى كل شـيء، من الاقتصاد إلى العلاقات الدولية، ومن الأسواق إلى السلع في الدكاكين المحلية، ومن السياسة إلى المعارضة، ما بعد عاديًّا. وهناك أسباب وجيهة جدًّا لهذه الحالة وكل منها مرتبط بالعوامل الثلاثة: التعقد والفوضـى والتناقض أو الـ 3C؛ وهي القوى التـي تُشكِّل الأزمنة ما بعد العادية وتدفعها. ومن الضروري أن نفهم هذه القوى لاقتراح سبيلاً للتعامل معها والمضي قدمًا”.
يتضمن بحث ساردار ثلاث دراسات ترصد الدراسة الأولى المميزات الرئيسة للعالم في وضعه الحالي حيث يسود فيه التناقض والفوضى واللايقين والتعقد، وهي الصفات التـي تؤدي بدورها إلى شيوع الجهل والارتباك حيال العالم المتغير. ويرى ساردار أن الجهل الحالي يمكن أن يكون جهلاً ثلاثي المستويات أو جهلاً مكعبًا: الجهل بجهلنا، والجهل المضمن في المخاطر المحتملة للتطورات الأخيرة، والجهل الناتج عن فائض المعلومات. وعلى العكس من الجهل المعتاد، والذي يمثل فجوة يمكن ملؤها بالبحث والمعرفة، فإن التعامل مع الجهل يتطلب طرقا مختلفة جذريًا للتفكير .
وتمثل الدراسة الثانية والمعنونة بـ “الأزمنة ما بعد العادية: إعادة نظر” تطويرًا للإطار الأول المبدئي الذي وضعه ساردار. وفيها يرصد بعض الشواهد التـي تدل على دخول العالم في الحالة ما بعد العادية. فعلى سبيل المثال، تُوضِّح الأحداث السياسية الأخيرة بأننا لم نعد نتعامل مع تبعات منفصلة للأحداث أو تبعات محلية الطابع وقابلة للعزل في وقتها أو تُؤثِّر على عددٍ محدودٍ من الأفراد أو جماعة صغيرة أو تربك عددا محدودا من العمليات. فالتحولات التـي نشهدها اليوم سريعة وشاملة؛ وهي تمتد لتُؤثِّر على كل جانب من الحياة الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تقتصر الحالة ما بعد العادية على الأنشطة البشرية وحدها، بل أيضًا على المناخ والطبيعة التـي تشهد تغيرات متسارعة.
أما الدراسة الثالثة التـي كتبها ساردار مع جون سويني تحت عنوان “الآفاق الثلاثة للأزمنة ما بعد العادية” فتأخذ الحالة ما بعد العادية إلى نطاق القراءات المستقبلية من خلال استكشاف إمكانيات تحول العالم مستقبلاً. حيث يبرز سؤال جديد ومهم أمام المستقبليين وباحثـي وممارسـي الاستشراف: هل الطرق الحالية قادرة على مواكبة المستقبلات المعقدة والفوضوية وغير اليقينية والمنهارة بسرعة؟ إن الدراسات المستقبلية كانت تتعامل تقليديًّا مع تعددية المستقبلات البديلة من خلال التمييز بين المستقبلات المعقولة والمرجحة والممكنة والمفضلة. ولكن ما هو المرجح في عالم أصبح فيه اللايقين والفوضـى النموذج السائد؟ وهل تخبرنا رواياتنا حول المستقبل (ات) بشـيء ذي معنى بإمكانه أن يُولِّد سياسات واستراتيجيات تتواكب مع التعقد واللايقين والسلوك الفوضوي؟
ويكشف ساردار أن معنـى أن تكون إنسانًا هو الآخر على وشك التغير الجذري. فعلى مدى قرون، افترض الغرب أن هناك سبيلاً واحدة لأن نكون إنسانًا: سبيل الحداثة. لقد كان هذا الافتراض هو العقبة الأساسية أمام تقدير التنوع الإنساني. أما الآن، فإن التقدم في الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التركيبـي يُدمِّر النظرة التقليدية لما يكوِن الكائن البشري. فلنفكر مثلاً في التجارب العلاجية المسماة بالإحلال الميتوكونداري “المصورات الحيوية، أو مركز توليد الطاقة في الخلية”، والذي يتضمن أخذ مادة خلوية من رجل وامرأة ومن شخص ثالث لخلق جنين. ويتم إحلال الميتوكوندريا الضعيفة من الأم بأخرى قوية من متبرع أكثر صحة. وبالتالي يصبح للجنين الناتج ثلاثة آباء لا اثنان. أو فلنفكر مثلاً في العلاج الجينـي ما قبل الاستزراعي والذي ظهر في البداية لمساعدة الأسر التـي لديها تاريخ من الاضطرابات الجينية الخطيرة لاختيار الأجنة في التلقيح الصناعي غير المتأثرة بالحالة. لكنها أيضًا من الممكن أن تستخدم بالمثل، وقد استخدمت، في تحديد جنس المولود.
وقد استخدمت هذه الممارسات على نطاق واسع في الهند والصين. ففي الصين يولد 118 ولدا في مقابل 100 بنت، أما الهند فلديها متوسط 111. بيد أن هذه الممارسة تشيع في بلدان مثل أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وألبانيا. وغير تحديد جنس المولود، أصبح بالإمكان أيضًا تغيير وتبديل المواليد. وفي الهند، حيث تفضل الطبقة الوسطى الغنية المواليد البيض الشقر، يُستخدم العلاج الجينـي لإنتاج مواليد “ببياض الحليب”. بالإضافة، إلى أن أي شخص قد لا يحبذ أن يكون لديه طفل صاحب إعاقة.
ويقول ساردار أن الآفاق الثلاثة – الحاضر الممتد والمستقبلات المألوفة والمستقبلات غير المفكر فيها – تحتوي على نظم ونظم فرعية إما على شفير الانفجار ما بعد العادي أو على الأقل تظهر علامات الزحف ما بعد العادي. ومعظم لايقيننا، ومن ثمَّ جهلنا، يرتبط بظهور الحالة ما بعد العادية. لذلك، وبعيدًا عن استيعاب اللايقين والجهل المرتبط بكل أفق، يجب أن يشتبك استكشافنا للمستقبلات، وأيٍ من التوقعات والسيناريوهات والرؤى القائمة عليه، مع الإمكانات ما بعد العادية المتضمنة في الآفاق الثلاثة.
ويضيف إن الظواهر ما بعد العادية أوضح وأسهل رؤية في الحاضر الممتد. إنها تشبه الفيل الأسود في الغرفة، فإما لا يستطيع أحد أن يراه أو أن يختار أن يتجاهله. أو في حال ما أدرك وجوده، لا أحد لا يستطيع التعامل معه فعليًّا. ويلاحظ فيناي جوبتا أن الفيل الضخم هو “حدث بالغ الاحتمالية في الوقوع ومتوقع على نحوٍ واسع من الخبراء، غير أن الناس يحاولون صرف النظر عنه باعتباره بجعة سوداء عندما يحدث في نهاية الأمر.
وعادةً ما يتحول الخبراء الذين توقعوا الحدث، من أزمة اقتصادية إلى وباء أنفلونزا، من موقع التهميش إلى موقع الاستئساد عندما تطل الأزمات برأسها”. وبالاتساق مع تصور جوبتا، يجادل ماركلاي لصالح استخدام النوع الثاني من الأوراق الغرائبية “عالية الاحتمالية وبالغة التأثير كما يراها الخبراء في حال استمرار الاتجاهات الحالية، لكنها ذات مصداقية أقل بالنسبة لأصحاب المصالح من غير الخبراء”.
تعد التركيزات الكربونية الجوية التـي سجلت مؤخرًا 400 جزء في المليون، وهو مستوى يسبق البشرية بآلاف السنوات وينذر بتغيرات مناخية ضخمة، مثال واضح على هذا. وفيما ينكر الكثيرون، بمن فيهم أغلبية واسعة من الأميركيين، التغير المناخي الناتج عن الإنسان، إجماع علمـي حوله. وربما تأتي واحدة من أبكر الإعلانات حول أزمة ثاني أكسيد الكربون في المناخ من تقرير رُفع إلى الرئيس “ليندون” جونسون عام 1965. وعلى هذا النحو، فإن الأفيال السوداء هي نوع من المجهولات المعلومات كما قال رامسفيلد، خاصةً وأن الفجوة بين الخبراء والرأي العام تضع مزيدًا من التعقد واللايقين حول هذه القضية. وعادةً ما تتطلب الأحداث ذات الإمكانية ما بعد العادية فعلاً جماعيًّا كما حدث مع وباء الإيبولا عام 2014. تجسد الأفيال السوداء الآلية ما بعد العادية للحاضر الممتد، كما أنها سياقية وينبغي أن توضح من أكثر من منظور إذا كان عليها أن تصور التناقضات اللصيقة بظهورها. تشير الأفيال السوداء إلى أن الفجوة ما بعد العادية واقع وربما مهيمن داخل نظام معين.
ويؤكد ساردار ليس من اليسير استشراف الظواهر ما بعد العادية في المستقبل (ات) غير المفكر فيه، لكنها موجودة بالطبع. ونمثل هنا الإمكانية ما بعد العادية في المستقبل (ات) غير المفكر فيه بقناديل البحر السوداء، وكمثل الأفيال السوداء والبجع الأسود، فإن لقناديل البحر السوداء “تأثير هائل” لكنها ظواهر “عادية” متجهة نحو الحالة ما بعد العادية من خلال التغذية الراجعة الإيجابية أو النمو المتصاعد الذي يؤدي إلى انعدام الاستقرار في النظام. ولكن لماذا قناديل البحر؟ إن للتغير المناخي تأثيرا ضخما على النظم المائية في العالم. ويؤدي ارتفاع حرارة المحيطات ومستويات الحموضة بها إلى خلق مناخ ملائم لازدهار قناديل البحر، وهو ما تسبب في إيقاف العديد من محطات الطاقة الساحلية حول العالم بما في ذلك بعض المفاعلات النووية. فيما تلخص القناديل الغرابة اللصيقة بالمستقبلات غير المفكر فيها، فهي أيضًا مشهورة “بتقويض القوة العسكرية الأضخم في العالم، وتأجيج الاضطرابات السياسية”.
وتقدم لنا قناديل البحر دليلاً واضحًا على كيف لأشياء صغيرة أن يكون لها تأثير هائل، وهو التجسيد المثالي للحالة ما بعد العادية في المستقبل (ات) غير المفكر فيه.