بقلب طفل يبوح، وبقلم أستاذ يكتب، وبحنكة الخبير المجرب يطرح أسئلته، هو شغوف بالأسئلة إلى حد أن جعلها تتصدر غلاف كتابه «الخلاصة»، بل ويستحضرها في متن الكتاب السيرة، أو شبه السيرة، التي يصفها في مفتتح الكتاب بأنها «خلاصة أسئلتي وأفكاري».
هل يكفي أن نطلق على يوسف الشريف صفة «الأديب» لأنه أحد رواد كتابة القصة في ليبيا (كتب أولى قصصه العام 1959، وفازت قصته «الجدار» بجائزة الفنون والآداب الليبية العام 1968م)، وما تلى ذلك من إنجازاته في مجال الكتابة للأطفال (قصص وموسوعات وترجمة)، ومساهماته باحثًا وناقدًا، أم نضيف أنه الإعلامي، الصحفي والإذاعي، الذي لم تتوقف إسهاماته في هذا الإطار على الإنتاج البرامجي والصحفي، بل شغل أعلى المراكز، من مدير للإذاعة العام 1969 إلى وزير للإعلام العام 2013 ، وفي بلاط صاحبة الجلالة أسس جريدة «الليبي اليوم» ورأس تحريرها، كما رأس تحرير غيرها من الصحف والمجلات، ولم تكد تخلو جريدة أو مجلة ليبية معروفة إلا وكان اسمه يتصدر كتَّابها، يكتب، بلغة يقول عنها إنها تنتمي إلى «السهل الممتنع»، وتتميّز مقالاته بجرأة الطرح ووضوح الفكرة والمباشرة في الأسلوب، مدركًا تداعيات ما قد ينتج عن تلك الكتابات في مناخ لا يتحمل هذه الخصائص، ولعل هذا كان السبب الرئيسي في استقالاته المبكرة من المواقع القيادية التي تولاها، ويقول في تبريره لإحدى هذه الاستقالات: «تفاؤلي كان وهمًا»، وكأنما كان يلخص مسيرته، التي لم يتخلَ فيها عن وهمه هذا طوال 60 عامًا، أي منذ كتابة قصته الأولى.
إنه الوهم الجميل، توأم الحلم الذي تشكلت ملامحه بوضوح بدءًا من قصته الشهيرة «الجدار»، التي يقول الناقد الليبي منصور أبوشناف عن بطلها، والمفترض أن يكون يوسف الشريف نفسه: «يأتي لزيارة شارعه القديم فيصدَم بالجفوة وعدم القبول من جيرانه ويرى جدارًا يبنى بينه وبينهم، بين حياته القديمة والجديدة. كان يوسف الشريف في تلك الفترة وتلك القصص ينظر خلفه غاضبًا، ويبني وكما جيله بينه وبين ذلك الماضي جدارًا يحصن المستقبل الذي يريدون من أوهام وأمية وفقر وتخلف ذلك الماضي».
ويرى أبو شناف أن يوسف الشريف «كان ينظر خلفه غاضبًا طوال عقدين من الزمن قبل أن ألتقيه»، مستدعيًا مسرحية «انظر خلفك غاضبًا» للكاتب الإنجليزي جون أوزبرون، وأنا أرى أن يوسف الشريف الذي لازال مسكونًا بأوهامه الجميلة أو بأحلامه إن شئت، لم يتوقف عن النظر إلى الخلف غاضبًا، حتى هذه الساعة، وإلا ماذا تعني هذه الإدراجات والتغريدات على صفحات التواصل الاجتماعي، التي يكتبها يوميًّا، محاولاً رسم ملامح ليبيا جديدة، ليبيا التي يريدها أن تجتاز وتتجاوز «الجدار» الذي اكتشف مبكرًا أنه ينتصب بين واقع متخلف، ومستقبل يعانق الحداثة، وهو لا يتصور أن هذا المستقبل قد يتحقق ما لم تكن ركيزته الطفولة، هاجسه وهمه الدائم، الذي يرتقي عنده إلى مستوى «عقيدة، واجب الدفاع عنها، بكل السبل، باعتبارها روح الأمة ومستقبلها»، هكذا يدوِّن ويوثِّق في كتابه «الخلاصة»، بل يصفه بـ «رحلة بوح طفولية»، ولو أن يوسف الشريف الذي «لم يكن في يوم من الأيام سياسيًّا»، كما يقول، رغم انغماس جل ما يكتبه في عمق السياسة، قرر إنشاء حزب لخوض المعترك السياسي، لما خرج برنامجه عن هذا الذي يعتقده ويطرحه ويعمل من أجله بشأن الطفولة، التي بدأ بها كتابه السيرة، أو سيرة كتابه «الخلاصة» وأنهاه بها.