العمق الذي يكتسي النصوص الشعرية هو بحر الشاعر نفسه
تعقيد المشهد الذي وصلنا إليه الآن سببه الانقسام الثقافي بين النخب
ما يهمني أنْ أكون مرنة في كتابة الشعر
لا أعتبر نفسي غائبة و إنْ كنتُ أعلم أنَّ بعضهم يُصرُّ على الدعاية بأنني غائبة عن (مناشط بنغازي)
خجلتُ من قبول هذه العروض، فقد اعتبرتها مأخذاً كبيراً على بلادي التي تعوم فوق بحيرة نفطية
حاورتها: حنان علي كابو
عزة سمهود.. شاعرة وروائية ليبية من مدينة بنغازي، كتبت الشعر والقصة والمقال والنصوص السردية والنثرية، تنطلق كتابتها من مبدأ الإنسان، مناهضة لقضايا العنف ضد الطفل والمرأة، ومؤيدة لأنسنة الجمادات، تكرس كتابتها بشكل عام ضد الحروب، وضد التمييز العنصري، وضد ممارسة العنف، لها رواية، وأكثر من خمس مخطوطات شعرية، ومجموعة قصصية، ومجموعتان سرديتان، ومقالات فكرية وفلسفية عديدة ومتنوعة المواضيع
ـ نصوصك حداثوية في آخر نسخة مطورة من لغات البرمجة الشعرية، كيف جئت إلى الشعر؟؟
لم يكن الأمر مصادفةً، فأمي رحمها الله شاعرة، تعاطت الشعر الشعبي والمحكي منذ طفولتها، واعتادت على الترحال الذي أكسبها تجربة ذات موروث شعبي أصيل، فقالت الشعر المحكي والغنائي.
– كيف تحيلين الألم اليومي إلى شعر، وبساطته إلى عمق، وعاجله إلى فلسفة، وكل التقاط إلى لسع، وكل ما يمرَّ وينطلي إلى إثارة وأسئلة في روعة حزينة؟؟
الألم شرنقة نُولد فيها جميعاً، وقدرتنا على الخروج منها تعتمد على أسلوبنا في تعاملنا مع الكيفية التي تسكن ذواتنا، هنالك من يترجم ألمه بالفرشاة، وهنالك من يغني له، وهنالك من يكتبه، وهنالك من يشيح بوجهه عن ألمه، فينساه ويدفنه كعظام رميم، لا يُحييها إلاَّ جرح جديد، علاقتي بالحزن تكاد تكون مشبوهة، أكثر من مرة تواجدت معه مُتلبسة، كنتُ أُبدي له احترامي، و أكتب من أجله، لكني لا أتجاوز عنه ببساطة، بل أدقق في ملامح تكوينه، أدلله حتى يكبر و يتجلَّى، فإنْ تجَّلى فله قدسية الشعر، وعبقرية الفِكرة، وله أنْ يصبح جميلاً كقمر سافر في معارج البياض.
– لك خيال خاص حيث تطوعين العمق الفلسفي في سيريالية؟؟ ماذا تقولين؟
لكل منا خياله، يجنح به أينما امتطى صهوة الشعر، الاختلاف بين شاعر وشاعر لا تحدده سوى الثقافة والاطلاع والقراءة، لذلك العمق الذي يكتسي النصوص الشعرية هو بحر الشاعر نفسه، ولا أعتقد أنَّ المسألة فيها جانب التطويع، قدر ما هو جانب التأثير، فاللغة تتأثر وتتشكل في النَّص وِفق المخزون اللغوي والثقافي الذي يصبَّها على الورقة البيضاء، قد يكتسي حينها مضموناً موضوعياً، أو سريالياً أو تجريدياً، أو فلسفياً، أو فسيفسائي متحول.
– اختيار قصيدة لك ضمن قصائد عربية ترجمت للإنجليزية ثم للإيطالية وتمَّ غناءها للإيطالية، كيف وجدت هذه التجربة؟؟
هي تجربة خلاَّقة لأهمية بعدها الإنساني الشمولي، الشعر في نظري ومبدأي الخاص إذا لم يحقق المبدأ الشمولي فهو غير جدير بأنْ يُقرأ، و إذا لم تقُده دالة المعنى التي تؤثر في القارئ فتجعله مهتماً ومُحباً للقيم النبيلة والسامية فهو لا يستحق أنْ يكون عابراً للقارات، وعابراً للهوية، وعابراً للطائفية، وعابراً للغة، لأنَّ الغاية القصوى من الشعر أنْ يكون للإنسان رسالة الأرض للسماء.
– يعاني المشهد الثقافي الليبي من الشللية والنخبوية لماذا برأيك؟
لعل السبب أنَّها لم تُواجه، ولم يتمَّ نقدها، ولم يثر عليها المجتمع الثقافي، فكان لها أن تتمدد وتبقى ــ من أجل مصالحها الشخصية ـ ما بقي الصمت حيالها قائماً.
– الانقسام الذي يشهده الشارع العربي بين قوى التكفير والجهل والتخلف قد أمتد لكل ساحات الأدب والثقافة، دور المثقف في هذا المجال، كيف يجب أن يكون؟؟
المثقف مسؤول عمَّا يكتب، ومسؤول عما يسوقه للآخرين، المبدأ الإنساني لا أتخلى عنه في كتاباتي، والانفتاح في نظري ليس فوضى لفكري، بل هو إعادة لتنظيم أفكاري، وطريقتي في التعاطي مع الحياة، لذلك أتعامل مع الانقسام القائم بشكل طبيعي، فالاختلاف سمة خلقها الله في كونه، والتعصب في الآراء تجاه الآخرين يمنع حقهم في خياراتهم، يجب أن يكون دور المثقف نابعا ً من مبدأ احترام رأي الآخر، والاستماع له، والتعاطي معه وفق احترام حرية خياراته، كما يجب أنْ نراعي الفرق بين النقد والانتقاد، فالأول ظاهرة صحية من أجل خلق وعي جماعي منظم، والثاني ظاهرة مرضية تزيد من انقسام المشهد.
– تأثير التقنيات الحديثة من شبكة التواصل الاجتماعي على تطوُّر الشعر، أم برأيك أدَّى إلى تراجعه لانشغال الشعراء؟
مواقع التواصل الاجتماعي حملت معها الأصوات التي حُرمت من حقوق النشر، والتي لم يتسن لها الوقت لتبدأ التعريف بنفسها ورقياً، بل أنَّ لمواقع التواصل الفضل في تطوير الشعر، والتعريف به، وجذب جمهور العوام إليه، والتعرف إلى خطوط الكتابة و أشكالها، و طريقة الشكل البنائي لكل وحدة شعرية.
– دور الشاعرة جراء ما يحدث اليوم في ضوء ما تشهده البلاد من أحداث أين وصلت فكرة تقبل الأخر؟ هل ترين أنَّ الشعر خاصة والأدب عامة قد قصر في إرساء قيم التسامح والمحبة بين أبناء الوطن؟؟
لعل الاقتصار على الكتابة فقط هو أمر يبخس حقَّ الوطن في حماية قيمه ومبادئه باعتبار أن مبدأ الكتابة يرتكز على المعايير القيمية والشمولية قبل أنْ تكون تعبيراً ذاتياً، التوثيق لكل ما يحدث هو مهمة الشعر، ومسؤولية السرد، حاولتُ قدر الإمكان ألاَّ أسقط في فخ الانحياز السياسي لأي تيار، وكتبتُ للوطن فقط، ولأبناء الوطن فقط، في منشوراتي أحاول ألاَّ يكون الشتم والسباب وسيلة للتعبير، لأنها تُذكي روح الفتنة، ولأنني مسؤولة عن قيادة القارئ نحو القراءة الآمنة، خاصة أنَّ القراء مستويات، فهنالك من يتأثر وينقل رأيي للشارع ويؤثر به، لا أعتقد أنَّ الشعراء قصَّروا في إرساء قيم المحبة والتسامح وفي توثيق الحرب، كلهم يكتبون من أجل ليبيا، نحن فقط نُرجِّح أنَّ سبب طول عمر المشهد البائس هو أنَّ الذين يتحكمون في مجرياته لا يجدون وقتاً للقراءة، وللتعاطف مع الناس، والاحساس بمعاناتهم، إنهم مشغولين بقضايا السلطة والمصالح.
– برأيك ما الذي نحتاجه للوصول إلى مشهد ثقافي حقيقي؟
نحتاج للتخلص من المجاملات أولاً، وللقناعة بأنَّ ثمة جديد كل يوم، نحتاج لشخصيات قيادية مثقفة، ممتلئة فكراً حقيقياً، نحتاج لظاهرة النقد البنَّاء، وتقبل الآخر، نحتاج للتعدد، و تغيير الدماء في شرايين و أروقة الثقافة انطلاقا من مبدأ أنَّ التحديث يعني التجديد، و أنَّ التجديد يعني الاستحداث.
– يعتبرك الكثير من النقاد والشعراء أنك شاعرة متجددة حداثوية، كيف ترين نفسك؟
أرى نفسي صديقة الشعر، أكتب و أنكب على كتابتي بحبِّ شديد، أُنصت لكل شيء حولي، وما حولي من نكرات ومعارف لها قيمة وجودية في نفسي، لطالما كنتُ صديقة الجمادات وصديقة البشر والحيوانات، يلاحظني بعضهم كيف أكتب بطريقة متجددة، لكني في قرارة نفسي أُجدد من إيماني المطلق بالشعر ليس أكثر.
– مسئولية المثقف جراء الأحداث كيف يجب أن تكون؟ هل تعتقدي أنَّ الكثير من المثقفين قد تملصوا من أدوراهم؟
تقع أي تسقط مسؤولية المثقف إذا خاض من أجل تيار ما، مُقدماً إياه على كلمة الوطن، المثقف يجب أن يكون بعيداً وعلى مسافة متساوية من كل التيارات السياسية ومن أيدولوجيات السلطة ويتعاطاها وينقدها بالشكل الذي تستحقه دون تعاطف أو تبرير، ولذلك أعتبر أنَّ تعقيد المشهد الذي وصلنا إليه الآن سببه الانقسام الثقافي بين النخب و أصحاب المصالح وما يسمى في السياسة الخارجية بجماعات المصالح، وكان لها دور في خدمة تيارات معينة، والترويج لها خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
– الحداثة وما بعد الحداثة، أيهما تعملين به؟
أكتب بالشكل الذي يمليه عليَّ النَّص وفكرته، ما يهمني أنْ أكون مرنة في كتابة الشعر، هنالك نصوص تعبيرية و أخرى سردية، وهي آخر ما توصَّل له الشعر النثري، وهنالك نصوص ما بعد الحداثة وهي ريشة تسبح في هواء المستقبل ولم تستقر على الأرض بعد ؛ لتتبين ملامحها بالشكل الذي نقول عنه أنه آخر الحداثة، فكل يوم نقرأ الجديد.
– ما الذي شكَّل تجربتك الشعرية؟
التجريب هو الذي ساهم في تشكيل ملامح تجربتي الشعرية، ثم يأتي الاطلاع، أحبُّ القراءة للجميع دون تمييز، أتعامل مع تجاربهم بإحساس عميق بمعاناتهم وما قد يكتبون من أجله.
– استخدمت خيالك الشعري في تناول قضايا بلدك، هل تثبتين أنَّ الشاعر ليس بعيداً عن قضايا بلده؟
– الشاعر قريب جداً من إحساس الناس، والبلد هو مجموعة هؤلاء الناس، لست وحدي من أثبت أنَّ للشعر إحساس عميق بالقضية، كل شاعر وُلد على هذه الأرض حمل على عاتقه القضية، الشعر هو القضية والشاعر صاحب تلك القضية ـ يوصلها بصوته وقصائده المتفاعلة نيابة عن أبناء شعبه.
– تم اختيارك من قبل مؤسسة الشعر العربي والنبطي والشعبي كسفيرة فخرية في ليبيا لتمثيلها في نقل حراك الشعر والأدب الليبي، ما الرسالة التي تسعي لنشرها من خلال هذا اللقب؟
توصيل معاناة أهلي وبلادي للعالم هو غايتي القصوى، نجحتُ في ذلك عبر الترجمة للإنجليزية والفرنسية والايطالية، وكان لي شرف المشاركة بعدد من الدوريات والانطولوجيا العربية والعالمية، ولعل أهم القضايا التي أحرص على توصيلها هي حقوق الناس، ومعاناة المرأة بشكل خاص، ومعاناة المُهجرين قسراً، والمخفيين عمداً، والمسلوبين من حقوقهم.
– غيابك مؤخرا عن الحراك الثقافي في بنغازي، لماذا؟
لا أعتبر نفسي غائبة و إنْ كنتُ أعلم أنَّ بعضهم يُصرُّ على الدعاية بأنني غائبة عن (مناشط بنغازي )التي لها مالها، وعليها ما عليها من مآخذ، ثقافياً بنغازي قدَّمت وكتبتُ لها ومن أجل التعريف بالحرب التي تخوضها حوالي جزأين من سلسلة تتحدث عن الحرب في داخلها تحتوي قرابة خمس وثلاثين نصاً سردياً، وقرابة مائة نص شعري، وعدد من المقالات الفكرية والقضايا السياسية التي نشرتها في موقع ليبيا المستقبل، والحوار المتمدن العالمي، وكان لها قراء مثقفين من كل مكان، و استخدام صفحتي في الدفاع عن حقوق الآخرين وحقهم في الحياة،و توثيقي لسيرة الحرب في روايتي المطبوعة (سفر الريح )، فهنالك وسائل أخرى يمكنها أن تكون أقوى وأكثر حرية وفاعلية وتأثيراً، لذلك أنا موجودة في مناشط بنغازي بالطريقة التي توافق حريتي التعبيرية، وتحفظ مكانتي.
ـ تعرضت لسرقة أدبية وسطو على نصوصك أكثر من مرة كيف يمكن للأديب أن يحمي انتاجه في ظل فضاء أزرق واسع لاحد له؟
نعم للأسف تعرضتُ للسطو على نصوصي بشكل مباشر وغير مباشر، فالسرقات التي تمتْ بشكل مباشر كانت تُذيل نصوصي بعد نسخها باسم من سرقها، وبعد تعديل أسماء مدن و أمكنة ذُكرت في النص الأصلي المكتوب عن دولة ليبيا أو إحدى مدنها، أما السرقات غير المباشرة فأنا أتابعها جيداً، و أعلم أن ثمة استنساخ للشكل البنائي الذي كتبتُ عليه نصوصي، بحيث تتطابق مع شكل بنائي لنص كتبه شاعر آخر، وهذا حدث أشاهده بشكل شبه يومي، لا أعرف طريقة يُحمى بها نِتاج الأديب سوى النشر الورقي، والحصول على ترقيم دولي.
ـ عرض عليك نشر كل إنتاجك الأدبي من قبل دور نشر عربية،هل سنرى نتاجك قريبا في المكتبات؟
صحيح، قُدمت لي عروض من قبل شخصيات عربية معتبرة تتابع نتاجي، من أجل حفظ حقوق الملكة الفكرية لنصوصي، في الحقيقة خجلتُ من قبول هذه العروض، فقد اعتبرتها مأخذاً كبيراً على بلادي التي تعوم فوق بحيرة نفطية، فبقيت مخطوطاتي الشعرية وعددها يقارب سبع مخطوطات بين سردية تعبيرية وسردية مفتوحة و شعر ونثرية تنتظر في أدراجها في ظل الأوضاع المتردية وقلة دور النشر وارتفاع أسعار طباعة الكتب، وغياب المرتبات و إلخ من الهموم التي تحبط بشدة.
ـ ماذا عن موقعك الخاص الذي تنشرين فيه انتاجك الأدبي كيف جاءت هذه الفكرة وماذا أتاحت لك.
مجموعة مواقع سمراء بنت الخيال، تضم ثلاثة مواقع توثق لنتاجي الأدبي، أحدها يختص بقصيدة النثر، والآخر يختص بالسرد المفتوح ويحتوي على أكثر من 60 نصاً، والثالث يختص بالسرد التعبيري، والذي يضم نتاجي في مجموعة تجديد العربية العالمية، وهذه المجموعة تعتبر الرائدة في تجديد السرد النثري التعبيري، وقد ترجمت عدد من أعمالي بواسطتها وتم استعراضها نقديا ضمن كتاب السرد التعبيري عن عامي 2014ـ 2015
إنشاء هذه المواقع جاء أثناء الحرب، من أجل توثيق كل ما يحدث في ليبيا ومن أجل الحفاظ على نصوصي في ظل غياب النشر الورقي، إنَّ أهم ما أتاحته لي هذه التجربة هي توفير الوقت والجهد حين تطلب مني جهة ما بعضا من نتاجي للاطلاع عليه، فأقوم بإرسال هذه الروابط مباشرة دون انتقائية مني، تاركة حرية الاختيار لمن طلب مني ثلة من كتاباتي.
وبالنسبة لعناوين هذه المواقع:
ـ لماذا لم نر عزة رجب في أمسية شعرية خاصة بها؟
لستُ الوحيدة التي لم تُر في أمسية مخصصة لها، أتمنى أن أسمع بأمسية أو أصبوحة مخصصة لشاعرة أو قاصة أنثى بشكل خاص، بحيث يتم تعريفها للمجتمع وتقديم نتاجها، والدعوة لتناوله من قبل المهتمين.
في القريب هنالك نشاط لافت للنظر و جميل وباعث على الأمل في محيط المدينة التي خرجت للتو من الحرب، تمَّ توجيه دعوة لي للمشاركة فيه، وقد قبلتُ هذه الدعوة لما أعرفه عن المؤسسة التي ترعاه من حراك حيادي تجاه المجتمع، ولما تتميز به من مقدرة على قيادة المرأة، ومساعدتها وتمكينها والاشادة بدورها و التعريف بها للمجتمع.
ــ ماذا بعد سفر الريح؟
بعد سفر الريح شُغلت بدراستي في الأكاديمية البريطانية الليبية، ثم عكفتُ بعد ذلك على تجميع نصوصي، حالياً أقوم بتنقيحها تجهيزاً لطباعتها في حال توفر الفرصة، أما بخصوص كتابة رواية ثانية فهذا بعيد قليلاً بالوقت الحالي، لأنَّ الرواية تحتاج لمناخ خاص، ووقت لتدارس الفكرة والموضوع، ولم يتوفر لي الزمن المناسب، ولا المناخ الجيد للانشغال بها.