في الزيارة الأخيرة العام 2015 وصلتها قادمًا من لندن والليل في آخره فوجدتها هاجعة في فراشها في حالة استرخاء بعد تعب وإرهاق نهار طويل، فقبلت جبينها امتنانًا وتمنيت لها نومًا هنيئًا وأحلامًا تليق بها.
هذه المرة وصلتها قادمًا من مطار بيروت والصبح في أوله، فوجدتها وقد استيقظت مبكرًا نشطة تفيض حيوية في الشوارع والطرقات وفي طريقها لمباشرة دوام عمل يوم آخر في المكاتب والمدارس والجامعات والمتاجر والأسواق وحين التقطتني عيناها في وسط زحام الواصلين في ردهات المطار حيتني على عجل مرحبة بتلويحة من يدها وابتسمت لي ابتسامة مفعمة بالود وغابت فانقض عليَّ محتالو سيارات الأجرة، عارضين توصيلي إلى مقر إقامتي بأسعار فلكية فقبلت صاغرًا مستسلمًا معترفًا بهزيمتي.
لو كانت القاهرة سفينة لغرقت منذ وقت من شدة زحام البشر وثقل حمولة تاريخها، لكنها مدينة مشرعة الأبواب على الزمن والفن والأدب والعلم والدين والعمارة والثورة وسطوة حضور نهر النيل الذي يقسمها ضفتين فتوحدها أبجدية الضاد وتوت عنخ آمون وتجلي الله لنبيه موسى في طور سيناء، و «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» وضجيج حركة السيارات الذي لا يكف وشكوى صغار الموظفين والعاملين من ضآلة الأجور أمام تفاقم استفحال غلاء المعيشة.
بين أول زيارة لها في الشهر الذي سبق العبور العام 1973 وآخر زيارة في أكتوبر 2018 تغيرت القاهرة عبر هذه السنين كثيرًا وتمددت في كل الاتجاهات في تحدٍ مستفز للزمن وانكمش خجلاً علو مآذنها أمام تغوّل علو ما اُستُجد من عمارات شاهقة، لكنها ظلت حريصة على الاحتفاظ برونقها وتشبثها بالحياة. وتغيرت أنا كذلك خلال هذه الأعوام كثيرًا وعلى عكس القاهرة دهسني قطار الزمن بلا رحمة ورغم شدة حرصي تسرب هاربًا من بين أصابع يديّ، كماءٍ، شبابُ عمري ورونقه حتى لم أعد أعرفني.
من شرفة معلقة في الطابق الخامس لفندق يقع في «الدقي» كان يومًا ما شاهد عيان وموقعًا لجريمة خطف مناضل وطني هو المرحوم منصور الكيخيا من قبل نظام المقبور القذافي، ظللت مدة أربعة أيام بلياليها أطل أول الصبح على «ميدان المساحة» محتسيًا قهوة مُرّة ونافثًا في صحو سمائه دخان سجائري، راصدًا بعينين هرمتين مدينة تنفض عن نفسها غبار النوم وتهرع مغادرة بيوتها لتلحق بتفاؤل بإيقاع دفء نهار آخر قد لا يختلف عن سابقه أو عن لاحقه كثيرًا إلا في ارتفاع قليل أو انخفاض صغير في درجة حرارة الطقس.
هذه الزيارة تتميز عن سابقاتها؛ لأنها الأولى التي زرت فيها مكاتب جريدة «الوسط»، وتعرفت على عديد الشباب العاملين بها وقضيت فيها وقتًا طيبًا صحبة الصديق القاص بشير زعبيه رئيس التحرير، وهي أيضًا الأولى التي أحظى فيها بشرف زيارة نقابة الصحفيين المصريين بدعوة كريمة من صحفي شاب تعرفت به مؤخرًا في مكاتب جريدة «الوسط»، مخضرم مهنيًّا وطيب السريرة وكريم، اسمه حمدي الحسيني، حرص خلالها على أن يكون مرشدًا ودليلًا إلى تاريخ ذلك الحصن التليد وأكثر محطاته إضاءة وتألقًا ومصرًّا على عزومتي لتناول وجبة غداء خفيفة في الكافتيريا.
الصديق الشاعر والقاص والروائي والكاتب الصحفي عمر الكدي خصّني مشكورًا بمساء كامل من وقته وصحبته وظرفه وكرمه لجولة في معالم المدينة ومكتباتها تخللتها أحاديث وحكايات كثيرة وكانت طرابلس بثقل مواجعها ترافقنا، وحين تعبنا أرحنا أرواحنا في مقهى «الحرية» حتى ساعة متأخرة من الليل، مستدفئين بصحبة وأحاديث وظرف القاص محمد جابر والروائي حمدي الجزار والصحفي المخضرم محمود البوسيفي وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم.
سلامًا للقاهرة: لزحام وضجيج شوارعها وطرقاتها، لصمت ونبل نيلها، لعراقة مساجدها وكنائسها، لأهلها وهم يخوضون بدأب وصبر في حفر تضاريس نهاراتها ولياليها. وسلامًا لكل أصدقائي بها، خاصة منهم مَن تسبب ضعف ووهن ذاكرتي في زعلهم دون قصد.
___________________