المقالة

هذيان

اللوحة من أعمال الفنان العراقي جمال إبراهيم مدد
اللوحة من أعمال الفنان العراقي جمال إبراهيم مدد

إذا عُرفَ السبب بَطُل العَجب..

لن أتعجّب إن رأيتُ علامات الاستغراب تُرسمُ على وجوهكم، وأنتم ترون هذا العدد من المنشورات المتتابعة بصفة شبه يومية..

أنتم محقون في ذلك تماماً..

يمكن أن يُخفف وطئها على أنفسكم أن ترونها هذيان مجذوب، أو حتى بهلولاً يحاول استدرار أكبر عطفٍ منكم متصنعاً البراءة والسذاجة..

حالة هذيان تزداد حدّتها إذا سمع مديحاً، أو “طقات بندير”..

الأمر ليس غريباً، إذ يتجدر “ضرب البندير” فينا جينياً..

فمنذُ أن وعيت على الحياة كان والدي رحمه الله قد قطعَ شوطاً كبيراً ما بين “الحضَاري” وأغلبُ زوايا المدينة القديمة، عروسيةً كانت أم عيساوية.

كان أيضاً متيماً بخدمة من ينعتهم الناس بالدراويش وأحياناً “البهاليل” فغالباً ما يرجع الى البيت وقد أصطحب أحدهم ضيفاً مبجلاً، فتغسل أمي ملابسه، ويقوم والدي بتهذيب لحيته وأحياناً حلق رأسه، ولا يُغادر الاّ بعد أن يأكل مما توفر بالبيت من زادٍ قليل، في أغلب الأحيان كان هذا الضيف – لسببٍ أو آخر- شيئا حلواً، عادة ما تكون “عصيدة” بما جادت به الدار من الحلو: رُبّ، عسل أو حتى سكر وزيت..

في داخل والدي شعور عارم أن ذلك يجلب البركة الي دار يسكنها صحبة جيران في بيتٍ متواضع من بيوت المدينة، شعورٌ تسلل ذلك الى ساكني الدار، وإن كان لكلٍ رأيه الخاص.

“يام” مثلاً تصيبها حالة من الفرح غير عادية، وتتحرك بنشاطٍ غريب لغسل ملابس الضيف، أكان الوقت نهاراً. أم ليلاً، صيفاً. أم شتاءَ، وإعداد العصيدة، أمر يتطلب عادة اقتراض بعضاً من الدقيق أو السكر من جارتها.

كانت تستغرب عندما يطلب الضيف أحياناً ارتداء ملابسه وهي مبلولة لم تجفّ بعد، ومغادراً البيت بتلك الهيئة، وها هي قد بلغت هذا العمر وهي بصحة وذاكرة تتذكر بها أدقّ تلك التفاصيل، ترى أن أحد أسبابها خدمة أولئك الضيوف.

“بوي” تلمع عيناه عندما يردد في احترام بعضاً من تلك الذكريات، حتّى أنّه وضع صوراً لمن توفرت صورته في “سقيفة” البيت..

في حالتي لم تتوفر عندي مهارة “ضرب البندير” فقد اقتصر عندي الأمر على حبّ سماعه فقط، خصوصاً من أيدٍ ماهرة.. وهم كُثر في هذه المدينة..

أتذكر ذات ليلة صحبة صديق حميم أن كُنّا في حضرة عروسية، وصل فيها الأمرُ أن حُميت على نار ملاعق أكل حتى أصبحت حمراء ملتهبة، أخذها أحدهم طالباً مِنّا نحنُ صفّ المتفرجين الأمامي لحسها بلساننا، فلم نَدر بحالنا الاّ ونحن نركض حفاة هاربين في أحد الشوارع الجانبيّة..

لو أنّ الزمن يعود يدور..

ترى ماذا لو كان لدي بعضاً من الشجاعة ووضعت لساني محلّ اختبار؟

أسوأ سيناريو أن يختفي اللسان وأكفّ عن الكلام، يكو لزاما عندها أن أختار بين اسمين:

 الحكيمُ أو الأبكمُ…

وبلهجة زنقة قشور: الدرويش أو البكّوش..

وفي كلٌ خير…

مقالات ذات علاقة

مسودة أولى

عبدالقادر الفيتوري

دولة القصر.. دولة الخيمة ودولة اللصوص

عمر الكدي

كلام غير مسؤول وغير جاد ..السيميائية.. وانهيار عصر الأيديولوجيات الكبرى

محمد المالكي

اترك تعليق