خيري جبودة
هناك أسماء شاهقة القوة في مسيرة الشعر الليبي، لكن غياب حركة نقدية متجذرة، وإعلام ثقافي فاعل، لم يقدم المشهد الثقافي الليبي لليبيين وللعالم، إلا في صورة مبتورة وغائمة..
بالارتكاز على ذائقتي المدربة، والتي أثق فيها تحضرني عدد من الأسماء من الجنسين.. لكن في هذه الإطلالة أحب أن أنوه وأشيد وأضيء على شاعر فريد، من سلالة كبار الشعراء في العالم، اختطفته البحوث والتنقيب في أراشيف لغات وثقافات العالم، وسرقه الغوص في جيولوجيا الثقافة والهوية والحضارة من عالم الشعر، ورغم أنه لم يغب عنه، ولا يزال بين حين وآخر يخرج رأسه المضي بالشعر من بحار اللغات ونداهة الحضارات.. وهو ما يؤكد ارتباطه العميق بالشعر.. إنه الدكتور والباحث والشاعر الليبي “عبدالمنعم المحجوب“.. الذي سنستعيده ونعيده اليوم كي يقف تحت نور خشبة مسرح الشعر الليبي..
صاحب ديوان الشعر الخرافي (كتاب الوهم) الذي سقط ذات ليلة على مسرح الشعر الليبي، ليحدث هديرا صاخبا لم تستطع مجسات النقد الليبي حينها إعطاءه ما يستحقه من قراءة وانتشار.. وكأنه عصا موسي التي ألقيت أمام السحرة فتلقفت الأفاعي الصغيرة وأسكتتها .. كتاب الوهم؛ وهم شعري اختطه المحجوب لأبطال أوهام العالم ولإنارة الطريق لروحه نحو الأعالي، وكأني حين أقرأ نصوصه وكأني في حضرة كهنة بابل وسومر، وهم يقلبون العالم تحت أبصارهم من فوق برجهم، الذي بلبلت به ألسنة البشرية.. يقول المحجوب في (كتاب الوهم):
بينما الغابة تعلم الخفاء
تكون الصحراء امتحان الخفة
كيف لأثر تتركه ان يسبقك.
ويقول في نص آخر، كان هو أول النصوص التي شدتني إلى شعره، وهو أحد نصوص كتاب الوهم أيضا.. يقول المحجوب في النص، وأنا استعيده الآن من الذاكرة :
اُنجُ
تدبَّرْ قافلةً
أيَّ طريقٍ تختارُ تَصِلْ.
تحية تقدير للكاتب والباحث الليبي العزيز “عبدالمنعم المحجوب”، صاحب الظلال المعرفية الخصبة في مختلف حقول المعرفة، فهو صاحب أطروحة (ما قبل اللغة: الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروأسيوية)، الذي أحدث حراكا خصبا في دراسات الشرق الأوسط الحضارية تقاذفتها الأمواج بين القارات.. وهو صاحب كتاب (مجتمع اللا دولة)، كتابه الأول الذي نشره وهو في الـ19 من العمر..
عبدالمنعم المحجوب؛ حفيد شيخ المحاجيب في صرمان، الذي شب في طفولته على قراءة وحب اللغة والثقافة العربية، حيث كان وهو طفل في مقتبل العمر، أحد مساعدي جده بالقراءة لهذا الشيخ، بعد أن ضعف بصره، ما جعله متشربا منذ نعومة أظافره للغة العربية، واحترام ثقافتها العظيمة وأحد الحراس الأوفياء لتراثها الشاهق..