هبة عادل | مصر
الأيام الباردة لا تفسح المجال للدفء كي يعم شجرتنا التي ماتت ولم تلقِ بظلالها يومًا علينا وأصبح تبادل النظرات من خلال زجاج سميك يخفي ما في القلوب من غصة البيت العتيق الذي كنت أظن أن صمته سيزول بإنجاب البنات والبنين حلم تبدد بمرور السنوات.
أصبح الجلوس على عتبة البيت من عادتي اليومية ومتابعة الأطفال وهم يلعبون جعلني هذا ساخطة على كل الأشياء من حولي أهلي الذين أجبروني على البقاء في عصمة رجل أمله ضعيف في إنجاب الولد إلا من خلال التلقيح الصناعي الذي لا يملك من ثمنه جنيهًا واحدًا، يحمد الله دائمًا ويبرر عجزه عن تحقيق حلمي بالخوف من أن يرزقنا الله ولدًا فاسدًا يضيع كل أعماله الصالحة في الحياة، أنظر إليه ثم أدير وجهي وألعن حظي العاثر.
الحاضر كئيب والماضي اختفى وقلبي ينبض برغبة في أن أكون أمًّا، الشيخوخة المحزنة تتسلل إلى قلبي، يومًا بعد يوم أفقد صبري، طلبت منه البحث عن فرصة عمل بالخارج لعله يعود ولو بالقليل كي نجري العملية وتقر عيني بطفل.
خابت مساعيه وعاد يستغفر ولسان حاله يقول ليس في السفر والغربة غير الندامة.
قلبي يتحطم والصمت يطبق على روحي بكل إحكام.
ذات صباح بدأ الهمس بين الجميع عندما شوهد عبد الشافي منصور يحمل صرة تحتوي على القليل من أغراض مهمة عزعلى زوجته تركها في منزلهم القديم يحمل أبناءه ويهرول للخروج من القرية بعد أن وضع قفلًا كبيرًا على الباب، تقول النسوة إنه وجد في باطن الأرض أسفل داره مسخوطًا يرجع لعهد الفراعنة.
قلت لجارتي: وما هو المسخوط؟
قالت: تمثال من الذهب وقد باعه بمال أخرجه من الفقر المدقع، ولاذ بالفرار حتى ينفق المال كيفما يشاء.
صمتُّ لحظة ثم أردفت بأن الأرض التي بنيت عليها بيوتنا أسفلها كنوز تكفي أولادك وأولاد أولادهم فهي كنهر لا يعرف الجفاف.
على عكس طبيعتي العصبية جلست بجوار زوجي خارج البيت وهو يستنشق الهواء وينظر للقمر الذي شحه الضوء وبدون مقدمات فاجأته بقولي: وإيه يعني لما ندور في باطن الأرض على مسخوط زي عبد الشافي؟
لم ينبس ببنت شفة فأكملت حديثي: شيخ الجامع بيقول فلوسها حرام نعمل العملية وبعدها تبني مسجد كبير لنحلل باقي المال.
فما كان منه إلا أن صفعني صفعة قوية على وجهي جعلت برد الليل يذهب دون رجعة، وقال: أيتها الشيطانة أتريدين ولدًا بمال ملعون؟
بعدها امتد الهجر، كان يغيب بالأيام عني لا أعلم عنه شيئًا حتى علم الجميع بذلك، وعندما يعود لا يحدثني ولا ينظر لوجهي ولكني حزمت أمري وقررت المحاولة مرة ومرات، تقمصت دور الشيطان في وسوسته، قلت: “عندما تموت السعادة نصبح بلا هوية”، أصبح بداخلي قوة مظلمة لنيل المراد أيًّا كانت الوسيلة، وفي ليلة صفا فيها الوصال أقنعته، همست له همسة عاشقة لن يدري أحد بالأمر سوف أساعدك أنا في الحفر، سوف يبقى سرنا، ارتعشت شفتاه وهو يعلن الموافقة، الليل الداكن ساعدنا في نقل كل ما نحتاجه من آلات بسيطة وبدأنا الحفر في غرفة نومنا، مشاعري مختلطة تجاهه لا أحمل له الود ولا الكره ولكنه نصيبي من الدنيا، لم أرضَ به ولكن أجبرت عليه، سأوصد الأبواب كلها علينا حتى نصل لحلمي، لكن الحر يكتم الأنفاس وبين الحين والآخر أشعر بأنفاس خفية تقترب مني، ألتفت ولا أجد غيرنا في الحجرة أخرج لأتنفس بعض الهواء ثم أدخل بسرعة أشد من عزيمة زوجي حتى يكمل الحفر تهب روائح من الأعماق وكأنها زهور وأحيانًا أخرى تكون الروائح نتنة تعمق أكثر وأكثر لم أعد أراه ولكني أسحب الحبل الذي يأتي بمزيد من التراب حتى جاء ذلك الصوت الصاخب وكأنة يدق على قطعة من حجر صوان وصل صوته إليَّ يحمل الفرح، إنها البوابة، لحظات وجاء الانهيار سريعًا مباغتًا لي وله حتى إني لم أسمعه يصرخ أو يستغيث ابتلعته الأرض، عادت أرض الغرفة مستوية كما كانت.
ظننت أني أحلم، جلست أنبش الأرض دون جدوى، تمنيت أن تنشق الأرض ويظهر منها، دعوت الله أني لن أوسوس له مرة أخرى ولكن ذلك لم يحدث، وعندما علمت أنه لن يعود بدلت جلبابي الموحل، وجاء الصباح يشق السماء وبدأ الناس في الحركة صنعت كوبًا من الشاي المغلي من مزاد سوادة فتحت باب البيت على مصراعيه وجلست على العتبة مر بي أحدهم وسأل عن محفوظ، قلت بلا مبالاة لقد هجر الدار كعادته أيامًا وسيعود.