من أعمال التشكيلي محمد حجي.
المقالة

الكتابة والمنفى.. معاناة الأديب العربي في دول اللجوء

يأتي المثقف العربي إلى الغرب فارا بحياته وبفكره وبحرية تعبيره حسب رأيه، من مكان بدأ في البحث عنه لقمعه وتصفيته جسديا إن أمكن، وما إن يصل إلى أوروبا أو أمريكا حتى يجد نفسه منغمسا في إجراءات طويلة، وبرامج كثيرة من أجل الاندماج وتعلم اللغة، ومتابعة مشاكل أسرته، خاصة إن كان بها أطفال صدمتهم الأوضاع الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها فجأة، فتتشتت هويتهم بين التمسك بإرث بلد قدموا منه مرغمين أو بإرث جديد مختلف عن ثقافتهم يعيشون في كنفه الآن، وبعد أن ينهي المثقف العربي قسما من مشاكل الأسرة وإجراءات الحياة الجديدة، يجلس ليكتب فها هو الآن حر ولا عذر له، فلا رقابة مطبوعات ولا بوليس سري ثقافي يتابعه، ويمكنه حاليا أن ينتقد ويرتقي بآرائه إلى أعلى سقف دون أن يتعرض إلى ملاحقة أو تضييق، لقد تحرر القلم الآن وبإمكانه أن ينزف على راحته ويغني ويرقص ويمشي حتى عاريا في الطرقات.

لكن حتما ستواجهه مشاكل أخرى ما كان يتوقعها قبل قدومه إلى المنفى الحر، فعندما يكتب قصة أو رواية أو مقالة لا يجد أين ينشرها، معظم المطبوعات العربية المقروءة ومواقع الانترنيت تتبع حكومات عربية أو ممولة من مؤسسات ثقافية عربية، وبالطبع لن يتم نشر أي شيء إن كانت المادة تتعرض للبلد الداعم أو نظامه السياسي بأي نقد ولو كان رمزيا، والأمر ينطبق أيضا على القنوات الفضائية الممولة جميعها، فلا يمكنك الإدلاء برأي غير مؤيد للدولة الداعمة لذاك المنبر، وإجمالا يمكنك أن تنشر إن انتقدت هذا في صحف ذاك، أو انتقدت ذاك في صحف هذا، ومن هنا لن يتبقى أمامك سوى مواقع التواصل الاجتماعي لتنشر ما تكتبه في صفحتك الخاصة حيث بعد ساعة من النشر تتعب وأنت تحذف في كم الشتائم التي ستصلك من المتصفحين خاصة أصحاب الأسماء المستعارة.

نعم في المنفى توجد حرية في الكتابة لكن لن تجد مكانا جيدا تنشر فيه حريتك، فكل الأراضي والسماوات الإعلامية وضعت عليها الدول التي تمتلك المال السياسي الفاسد يدها وشغلت لرئاسة تحريرها أعتى المخبرين الثقافيين خاصة القادمين من منطقة الشرق الأوسط والذين لهم تجارب مجيدة في خدمة الأنظمة الشمولية والأحزاب والمنظمات والجبهات التي تسير في فلكها.

ومن هنا ستحاول أن تكتب طبعا بلغة البلد المضيف الألمانية أو الانجليزية أو الفرنسية، اللغة التي تعلمتها في المدرسة أو الجامعة زمان أو عبر كورس 1000 ساعة في بلد المنفى، حيث ستفقد بعد أن تفعل ذلك بصعوبة وبالاستعانة بجوجل وبعدة قواميس صفراء 80 % من إبداعك، فتكتب نصا ركيكا يستغرب القارئ الألماني أو الانجليزي قائلا كيف صار هذا كاتبا أو صحفيا أو روائيا؟، ما هذه اللغة الركيكة؟ ما هذا الهراء؟، وبالطبع القارئ معه الحق فالكتابة بغير اللغة الأم لن تكون بنفس جودة اللغة الأم، وحتى لو أحضرنا ألمانيا تعلم العربية وصار يترجم من العربي إلى الألماني وقلنا له اكتب نصا بالعربية فسيكون عند القارئ العربي ركيكا، لأن في اللغة روح لا تمنحها إلا لمن تكون أمه..

يعيش المثقف العربي في المنفى خاصة الذين قدموا مؤخرا عبر موجة ثورات الربيع العربي وما أنتجته من تداعيات مدمرة أزمة حقيقية، فمعظمهم منشغلون بمشاكل أخرى غير الكتابة، فاللجوء أو الحماية أو الهجرة ليست منحة أدبية يتفرغ فيها الكاتب وتوفر له كل الإمكانيات ليكتب نصه فقط وبعد ذلك ستنشره وتترجمه المؤسسة صاحبة المنحة، إنما وضع جديد وجد المنفي نفسه فيه، وعليه أن يتعايش معه ويتعامل مع كل تداعياته المربكة.

ومن هنا حسب رأيي لن يغير المنفى الأدب العربي، أو الأديب العربي القادم إلى هنا، وستبقى الأمور كما هي، سيكتب الكاتب عن حنينه إلى الوطن وما يعانيه وطنه من مشاكل، سيحلب ذاكرته بقسوة ليكتب ماضيه كله، أو أنه يكتب عن حياته في بلد المنفى وما يعيشه من مشاكل يومية لم يتعود عليها، والقارئ الأجنبي في بلد المنفى يتطلع أن يقرأ أدب المنفيين ليتعرف عليهم أكثر، ويفضل أن يقرأ عن ماضيهم وبلدانهم وعاداتهم وتقاليدهم وتراثهم الخ، ولا يفضل أن يقرأ عن أجواء حياتهم في ألمانيا مثلا فهو يعرفها ويعيشها يوميا، القارئ يريد معرفة شيء يجهله في الأساس، ومن هنا عندما يكتب الكاتب عن ماضيه وبلاده يتعرض للانتقادات يقولون له أنت تكتب أشياء يريدها القارئ الأجنبي أنت تنشر غسيلنا الوسخ الخ.

سيكتب الكاتب في المنفى بالطبع بكل حرية، لكن لن يجد مكانا ينشر فيه كتابته، عليه أولا أن ينضم لتيار ما يؤيد رؤاه ليتحصل منهم على فسحة ينشر فيها، أن يكون مستقلا بالطبع سيجد صعوبات ولن يعمل في أي مؤسسة ثقافية تدفع مكافآت للكتاب، وحتى دور النشر معظمها ممولة، لا يمكنك نشر كتاب في دار نشر ممولة من دولة وفي كتابك انتقاد لنظام سياسي شبيه للموجود في تلك الدولة، كلهم يقولون لك عيب “نأكل الغلة ونلعن الملة”، نحن آسفين ابحث عن منبر غيرنا، إن كتبت ضد الإرهاب فالدول الداعمة للإرهاب لن تنشر لك مؤسساتها أو حتى تفوز بإحدى جوائزها الأدبية، إن انتقدت الدين فلا تحلم بنشر كتابك أو مقالتك في مطبوعة أو مؤسسة تدعمها دولة دينية، وإن كتبت عن الجنس فضع الكتاب في أول بالوعة مجاري فلن ينشره لك العرب من محيطهم إلى خليجهم، ومن هنا أمامك النشر الالكتروني أو النشر على حسابك الخاص في دار نشر نكرة أو حتى بدون دار نشر وهذا أمر صعب يؤثر في نفسية الكاتب حيث يتعب عدة شهور في إنجاز كتاب يراه مهما، وبدل من أن يجد التقدير على جهده، عليه هو أن يدفع المال من قوت أسرته كي يرى الكتاب النور.

ستحاول أن تكتب أو تنشر في منابر ليست عربية، منابر أوروبية وهي قليلة، وتجد صعوبة بالطبع فمعظم المنابر والأقسام العربية في الإذاعات والقنوات الأوروبية تحت سيطرة مجموعة معينة من المحررين العرب، الذين يعيشون بنفس عقليتهم السابقة في منح الفرص للمعارف والصديقات وأبناء البلد، فمثلا ترسل لهم ايميل فلا تتلقى ردا، تتركهم وتحاول أن تشارك في أنشطة ثقافية تقام في بلد المنفى بها مكافأة بسيطة أو حتى لا شيء، وستجد صعوبة في برمجة اسمك الذي هو معروف في وطنك العربي ولك كتب صادرة جيدة بشهادة النقاد، فالأنشطة هي الأخرى تحت سيطرة مافيا ثقافية، انتقلت من الوطن العربي لتعيث في العالم الحر فسادا. أضف إلى ذلك أن 90 % من القادمين إلى أوروبا عبر اللجوء أو الحماية يعرضون أنفسهم ككتاب وكشعراء وكصحفيين ومنهم من حتى لديه نصوص مترجمة إلى الألمانية أصدرها في كتاب، سألت أحدهم لديه ديوان باللغة الألمانية، هل أصدرت الديوان باللغة العربية أولا، قال لي لا يا رجل، هناك حاربوني لم يمنحوني فرصة، قلت له هل نشرت بعض قصائده في صفحة أدبية في إحدى الجرائد العربية أو المجلات قال لا لم أنشر، ابتسمت فكتاب يترجم بلغة الآخر قبل أن يصدر بلغته الأم شيء مبهر حقا، سألته كيف تمت الترجمة هنا، قال لي صديقتي الألمانية هي من ترجمت لي القصائد ثم أصدرناه هنا، سألته هل صديقتك درست العربية أو تتكلمها، قال لا تعرف لغة عربية، أنا أشرح لها الصورة الشعرية وهي تكتبها باللغة الألمانية.

وفي النهاية سيظل الوضع كما هو لأن المهاجر أو اللاجئ عندما يأتي إلى هنا تتغير أوراقه وبعض سلوكياته التي يفرضها عليه المشهد العام كعدم البصق أمام الملأ أو المرور والضوء أحمر، لكن عقليته وتفكيره تظل كما هي، والحرية في الكتابة التي يتحصل عليها هنا لا يستثمرها بشكل جيد، لا يرفعها في وجه رقيبه الداخلي، يتعامل معها وكأنها عضو غريب تم زرعه فيه وجسده رفضه، فيكتب بيدين مكبلتين وقلب مغلق وروح ميتة، ولكي يؤثر المنفى في الأدب بشكل إيجابي لابد أن يمر وقت طويل، وفي النهاية لماذا ينبغي للمنفى أن يغيرنا، أنا ككاتب يهمني أن أبقى كما أنا، جئت إلى هنا لحمايتي وليس لتغييري، إن غير المنفى طريقة كتابتي فمعنى ذلك أني خنت نفسي، وفي الوقت نفسه لا أرغب في تغيير المنفى، فلدي أفكاري وللمنفى أفكاره، يمكنني أن أقايضه فكرة بفكرة، يمكنني أن أصنع معه كوكتيلا نشربه معا.

____________________

نشر بموقع أمل برلين.

مقالات ذات علاقة

القارب والنحوي

محمد دربي

المثقفون وفن اللامبالاة..

عبدالله عمران

الرّوائي وكاتب التَّاريخ

يوسف القويري

2 تعليقات

نعمان رباع 18 مايو, 2020 at 18:44

أستاذ محمد الاصفر على الرغم من انني لم احصل على روايتك سرة الكون ولكنني من خلال نبذة عنها تذكرني بكتاب فكري وليس رواية ولكن مقدمته وسرده الابداعي اقرب الى الرواية بجمالها ورونقها وهو كتاب فكري للشهيد ناهض حتر كتبه عن فترة غربته في لبنان وهو يشتاق الى العودة الى ارض الوطن الاردن الغالي وعنوان الكتاب اسمه الملك حسين بقلم يساري اردني وكان يحكي عن نفسه كيف كان حزينا في الغربة ويوم السابع من شباط 1999 يوم وفاة الملك حسين رحمه الله كان يقول في سرده الشهيد ناهض حتر انه كان حزينا ويخاطب الهة الاردن القديمة بتعبير مجازي وهو ينظر الى شاطئ البحر المتوسط ويقول يا ايتها الالهة الطيبة تايكي يا معبودة زيوس ويا حارسة عمان ومعبودة فيلادلفيا احفظي اردننا الغالي من كل شر ويجاوبه صدى صوت من البحر المتوسط البقاء للاردن البقاء للاردن

رد
المشرف العام 19 مايو, 2020 at 09:07

نشر مرورك الكريم…

رد

اترك تعليق