في هذا الديوان، (قريبا من القلب)، المخصص للمرأة تقريبا، إذ ان كل قصائده كُتبت بإلهام منها وانطلاقا من حضورها، في هذا الديوان ذو الخمسة عشر قصيدة والذي لا يتجاوز عدد صفحاته الثمانون صفحة والذي وقع بين يدي صدفة عند زيارتي لأحد الأصدقاء والأطلاع على مكتبته، وكنت قد اطلعت قبل ذلك بإحدى المكتبات العامة على ديوان “شظايا العمر المباح” للشاعر السنوسي حبيب وأعجبني ما وجدت به من قصائد وكنت أتمنى أن أمتشق قلمي للكتابة عنه سوى أن عدم توفره لدي منعني من ذلك، وكنت قبلها قد اطلعت على العديد من قصائد الشاعر بشكل متفرق ومتباعد في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الأمر الذي لم يمكنني من بلورة رؤية واضحة لشعره، ومع هذا الديوان الذي بين أيدينا اليوم ومع القراءة المُركزة، القراءة دفعة واحدة والأهم من كل هذا هو القراءة الورقية المجتمعة التي تختلف بكل تأكيد عن القراءة الإلكترونية، إذ تتوفر على خصائص لا يمكن أن نعثر عليها في القراءة الإلكترونية التي أعتبرها قراءة عابرة تتسم بالسرعة والخلو من العمق – هذا فيما يخصني على الأقل –.
في هذا الديوان الذي كُتبت قصائده ما بين سنوات 1989 و 2002 بحسب ما أرَّخ لها الشاعر وحسنا فعل لأهمية ذلك للقارئ العادي وللباحث المُنقب، هنا بدا الشاعر عاشقا حتى النخاع ولم يكتفي بذلك حين ذهب بعشقه حتى آخر حدود الشعر ولم يستنكف عن كتابة عاطفته بهذه القوة والوضوح.
مقدار هائل من الحب تنطوي عليه ذات الشاعر أفلح في أن يرسمه في قصائد ويُصدّرهُ إلى قارئه إلى حد أنه قد تنتقل إليه عدوى الحب ويصير عاشقا مثل الشاعر، هنا وضع الشاعر كل ثقله الشعري ليبدو تبعا لذلك شفيفا حالما محباً متيماً ولم يترك صورة جميلة وصل إليها خياله الوثاب إلا ووضعها في قصائده لتزيدها بريقا إلى بريقها ولتزيده تألقاً وتحمل شيئا من طاقة الحب التي تضمها جوانحه.
والشعر لدي السنوسي حبيب مثلما أنهُ تجريد وأخيلة وصور تتراءي، بوضوح أحيانا وغائمة أحيانا أخرى، حمَّال لعواطف ومشاعر وانفعالات – متضاربة أحيانا ومنسجمة أحيانا أخرى -، الشعر يمر عبر الحواس ويمكن تمثله حسياً – إن جاز التعبير – والفكرة التي أريد إيصالها هي أن شعر السنوسي حبيب يكتظ بتلك الصور الأخاذة والعبارات الفاتنة التي لا نستطيع أن نتمثلها ونتصورها إلا إذا ما أستعنَّا بالحواس، التذوق والشم واللمس والسمع والنظر، وللبرهنة على هاته الخصيصة التي تبرز بوضوح هنا نستعين بهذا النص المجتزأ من قصيدة ”العاشقان”:
العاشقان الصغيران
يلتهب قرمز الغروب خلفهما
يتراشقان بكرات الرمل
ويتغازلان برشقات الماء
تغمرهما نشوة المساء
وينزلقان في اليم
يتسابقان لاختطاف تفاحة الشمس
لحظة التحافها البحر.
وفيه كما يتضح نلحظ مرور الشعر من ثقب الحواس لأن صورة القرص القرمزي وقت الغروب، يؤطر المشهد ويلقي بتأثيراته وإيحاءاته القوية، ولتصور ذلك التوهج ولتمثل الصورة لا بد أن يكون القارئ قد شاهد من قبل منظر الغروب الساحر بألوانه المشتعلة وفي هذا استثارة للعين وحاسة البصر، ثم أن العاشقان الصغيران يتراشقان بكرات الرمل ويتغازلان برشقات الماء وذلك يعني أنهما يجدان متعة في ممارسة هاته الأفعال البسيطة التي تبعث الانتعاش في الجسد والروح وذلك يعني أيضا أن العاشقان يتواجدان على الشاطئ وهو الشيء المضمر الذي لم تقوله القصيدة إلا لاحقا قرب نهايتها، ولا شك في ان برودة الأنزلاق في الماء وانسيابيتها والنشوة الناتجة عن هذا الفعل الطفولي ستنتقل إلى القارئ ليتخيل نفسه مغمورا بالماء حتى رقبته منتعشا بالبرودة، وهذا يحيل إلى حاسة اللمس بطبيعة الحال، كما أن العاشقان إذ يتسابقان لاختطاف تفاحة الشمس الغاربة قبل أن يبتلعها البحر وتغيب في الأفق يرسلان صِوراً متتابعة تُحيل إلى حاسة التذوق وفعل القضم بما ينطوي عليه من لذاذات حسية، هذا إذا ما صرفنا النظر عن الدلالات الأخرى للتفاحة وهي معروفة مثل تفاحة نيوتن وقبلها تفاحة الغواية حسبما ورد في الأثر، هذا مثال بسيط على الجانب الحسي وقِس على هذا العديد من الصور والمقاطع الشعرية.
ويمكن الحديث هنا أيضا عن الغزل الذي أجاد الشاعر اجتراحه وتوظيفه ببراعة، ولئِن بدا الشاعر حذراً في الوقوع في الغزل المباشر والجريء والصريح وكان خجولا إلى حد بعيد، إلا أن ذلك لم يمنع الشاعر من أن يُسرب بعضا مما هامسته به نفسه، ولأن القصائد تتعلق بالمرأة الحبيبة لا بد أن تتسلل إلى النص مفردات ومسميات تجعل منه غزليا، وفي نهاية الأمر الشاعر إنسان له اشتهاءاته وتطلعاته وهو ليس ملاك خالي من الرغبات، وتحت ضغط وقوة الشعر واندفاعه كما لو أنه نبع لا يمتلك الشاعر إلا أن يُسطر صِوره وإن خالطتها بعض الجرأة، والجُمل الشعرية التالية التي اقتطعناها من سياقاتها تُظهر الشاعر عاشقا فوق العادة وتُكمل ملحمة الحب التي افتتحها ذات ديوان:
تورد الخجل على الوجنتين، الأرتعاشة البكر على الشفتين، الأكتناز الشهي للصدر، ترسمين الأبتسامة على الشفة المتضرجة، والميسان الباذخ في الصدر المكتظ، على ضفاف اكتناز النهدين، حليب هو الليل يقطر من حلمات النجوم، يلتهب المعنى على شفتيك، عذوبة تسيل من الشفتين، فواكه كل الفصول بعينيك مترعة باللذاذة، قُبلة عذبة كالصباح، يتثاءب الليل على متكأ نهديها، يرخي المعطف الطويل أجفانه على هضاب الردفين، على مهل يشمخ النهد رأسه ويسأل صنوه، إلى أن يقول الشاعر في مفتتح قصيدة ” مصادفة “، بثوبك الفصفاض حتى القمر، وشعرك الطويل حتى الفجر / تفتتحين باب الغزل، لكأنها القصيدة مكتنزة وهيفاء صلبة وبضة، حتى أن الأمر ليختلط علينا لنتساءل هل هي قصيدة أم امرأة، إمرأة أم قصيدة التي يعنيها الشاعر هنا.
هذا على سبيل المثال، ورغم وجود هذه الأوصاف والصور إلا أن توظيفها شعريا لم يكُن مبتذلاً ولا رخيصاً فجاً، ورغم أن النصوص لم تُعول على هاته الأوصاف كثيرا إلا أن وجودها طرّزَ النصوص وأضفى عليها من رونقه والوانه، وهذا الغزل الذي يُراوح ما بين الظهور والتخفي والوضوح والأستتار كثير في الديوان وبإمكان القارء تتبعه ورصده، وما قمنا باستحضاره هو جزء يسير منه.
كما أنه لا يمكن بحال من الأحوال غض الطرف عن الكم الهائل من مفردات الفرح والبهجة هنا التي عكست حب الشاعر للحياة واحتفاءه بها وإقباله عليها للنهل من لذاذاتها المباحة كما لو أنه يريد أن يعوض سنوات الحرمان سنوات السجن والأعتقال الاثنتي عشر، كما لو أنه يريد أن يحيا بكثافة فيما تبقى له من أيام ويسابق الفناء الذي أدركه في نهاية المطاف، وهذه عينة من مفردات الحب، مفردات الفرح، مفردات الحياة، الضياء، الفجر، العذوبة، الذوبان، الأماني، الدفء، الجنة، النشوة، قرمز الغروب، تفاحة الشمس، الأنسكاب، الهسيس، القُبلة، الهمس، التواشج، الشهقة، الشهوة، الضفاف، الأنثيال، البهجة، الهفهفة، الأنتعاش، الأرتعاشة، التدفق، الأكتناز، التورد، التألق، التزين، التوقد، الرقة، التوهج، الرذاذ، البهاء المسرة، الفاكهة، النضوج، الشفافية، الخوخ، القرقرة، الأنشراح، الوجد، البخور، الجذل، التثاؤب، الأبتسامة، الأبهة، وغيرها الكثير من المفردات التي تحيل إلى حب الحياة.
مشغولا بامرأة غير مُسماة تنتقل معه من قصيدة إلى أخرى وتقفز كما لو أنها نسمة هفهافة وقّعَ الشاعر نغماته ووضع ألحانه التي تحتفي بالمرأة ظاهرا ومن جانب خفي تحتفي بالحياة، ولأن الشاعر هو السنوسي حبيب صاحب المشروع الشعري متعدد الروافد والجوانب والذي استثمر إلى جانب الخيال، الواقع والتجربة الشخصية – تجربة السجن والأعتقال – ولأن المرأة الحبيبة هي موضوع الديوان ولحمته وسداه كان ضروريا أن يكون مُترعا بالشعر مكتظا بالعذوبة مكتنزا بالبهاء، ولأن الأمر يستحق ولأن السنوسي حبيب شاعر، كان الشعر هو الرابح.
وفيما يلي نضع مختارات من قصائد الديوان رأينا أنها تعزز من شاعرية السنوسي حبيب وتؤكد تفوقه سيما وأن هاته القصائد كُتِبت في البدايات أو ما بعدها بقليل في المرحلة الوسيطة واللاحقة قبل أن يكتمل مُنجزه الشعري بوفاته رحمه الله وغفر له بعد معاناة طويلة مع المرض.
من قصيدة العاشقان التي كتبها الشاعر سنة 2001 في مدينة بنغازي نقرأ:
حليبٌ هو الليل
يقطر من حلمات النجوم
ينثال على بساط الرمل
وينبسط على زرقة السماء
يرشق الجسدين الفتيين بطراوته
يكسوهما بذوبه الفضي
ويرشرش عذوبته حولهما
ويتوج رأسيهما بالتماعات خاطفة
تغمر قلبيهما بالبهجة
هو البحر يغويهما بداكن زرقته
تهفهفهما نسمة منعشة
يستلقيان على الرمل جسدان ماتعان
يباركهما القمر بعذوبته المفرطة.
*****
وهذا مقطع من قصيدة “الشاعرة ” التي نبخسها حقها ونُقصِّر في حق الشاعر إن لم نستحضرها كلها هنا:
أيكما القصيدة
أنتِ أم ما تقولين؟
الأرتعاشة البكر على الشفتين
أم التدفق الملتهب لمكنونات القلب
الأكتناز الشهي للصدر
أم الأكتظاظ المباغت للفكرة البسيطة
مسحة التورد الخجل على الوجنتين
أم فسحة حزن المفردة
تتزينين بالشعر
وتزهو بك القصيدة
تتنافسان في التألق
وتتسقان في الأمتلاء
تضج بك حدائق المعنى
إذ يلتهب فمك المغناج بوهج الشعر
برذاذ المفردات الشهية
يلتهب المعنى على شفتيك
وتضيق العبارة
يسمو بك المعنى
يهزك الإيقاع
فيساقط رطب القصيدة.
*****
برشاقة واندفاع
تدخلين مغامرة الشعر
يضج بك فضاء القصيدة
بحضورك المبهج
تنعشين الوقت الكسول
تفتحين شهية الشعر
بإطلالتك المثيرة
متوقدة كالشرارة
ورقيقة كقطرة طل
وتكونين
صباحا بهي الطلعة
تطاولين القصيدة وتسكنين الشعر
عذوبة تسيل من الشفتين
وتوهج نابع من القلب
تساورك المسرة
وتحف بك الأعين
صباح حافل بالشعر
إذ تقولين نفسك
ببساطة وجرأة.
*****
وها هو الشعر ينثال رقراقا من قصيدة “الكرسي” التي كُتِبت أيضا العام 2001 بمدينة هون:
عصيٌ على الصمت هذا النهار
وأنت
فواكه كل الفصول بعينيك
مترعةٌ باللذاذة
مثل نافذة يسكن البحر شرعتها
تصطفيها النوارس
عابقٌ بالمباهج هذا الصباح
دعي ما يظن به إلى ما يباح
دعي الهمس يفصح عن نفسه
جُملاً عذبة
وأفردي للمسرة وسع الجناح
دعي الشفتين
تصوغان نفسيهما
قُبلة عذبة كالصباح
لك كل مدخر القلب
من لهفةٍ واجتياح
وكل الذي لا ينال
وكل الذي لا يقال
وكل الذي يوقد الروح
من بهجةٍ وانشراح.
*****
نتجاوز العديد من القصائد لنتوقف عن هذا المجتزأ من قصيدة “حسناء جناين اليوسبريدس” التي تفوقت على بقية القصائد بما احتوته من تجريب واستدعاء للأسطورة:
أيتها الملكة الصحراوية العصية
المولودة من وهج القبلي
والمغتسلة في نهر الليثي
تتفلتين من قلب الأسطورة
وتؤسطرين الحاضر
الحديقة الملتحفة بصهبة الرمل
بهية كحسناوات قورينا الثلاث
وعذبة كارتشافة متمهلة من نبع أبولو
حيثُ انطبعت شفتاك على وجه الماء
كركرت النشوة في أوصال الجبل
تهيّج النبع
وتموجت الأبتسامة
زغردت اللهفة المشتعلة
وددت لو أشرب السيل كله
دفعة واحدة
وعلى عجل.
*****
وهامسة وحالمة تأتي قصيدة “مهاتفة” التي نختار منها مطلعها الذي يقول:
تملأينني بالبهجة البكر
يمسد صوتك الدافئ على قلبي
تثيرين مكامن التودد القصية
تزهر على طرف اللسان الكلمات
وتنوس اللهفة على أطراف الأصابع
تشعلين حقول الرغبات
وتُسقطين حُجب التعقل الثقيلة
كعاشقين صغيرين
يتغازلان عبر الهاتف
يتبادلان الهمسات والامنيات اللذيذة.
*****
ويتواصل الهمس عبر أسلاك الهاتف حتى يقول الشاعر:
غير آبهين بوقار عقدهما الخامس.
الحب لا يموت ولا ينال منه الزمن في مُعتقد الشعر ولا أتصور الشاعر إلا متحدثا عن نفسه في هذا البوح الشاهق أو متماهياً في الشخصية التي استحضرتها القصيدة.
وتستمر لعبة الشعر اللذيذة التي يجيد الشاعر إدارتها بمهارة، مع قصيدة “مصادفة” التي كُتِبت في مدينة الشعر هون، ودائما مع ذات المرأة الغير مسماة والمهيمنة على مجريات الديوان، فنقرأ:
بثوبك الفضفاض حتى القمر
وشعرك الطويل حتى الفجر
تفتحين باب الغزل
وترسمين الأبتسامة على الشفة المتضرجة
والدمعة على المقلة الناعسة
والميسان الباذخ في الصدر المكتظ
وكأنني
واقف على باب الغبطة
أستجدي رهجة فرح
وأرسم السماء
فراشاً لاستلقاءة حبيبتي.
إلى آخر الشعر وإلى منتهى العذوبة تندفع القصيدة ولا تتوقف إلا بعد أن يشحنها الشاعر بما يمتلك من خيال وهمس ولهفة ورغبات واشتهاءات وبوح لذيذ.
وهذه القصيدة ما قبل الأخيرة التي لم تبتعد كثيرا عن انشغالات الديوان وموضوعه الأثير – المرأة – ولكن من جهة أخرى إذ يتحدث فيها الشاعر عن النساء الأرامل اللواتي:
يقضمن أظافر الوقت
خلف أبوابهن المغلقة
مرخيات أعنة خيالهن
على أحباب رحلوا في مقتبل العمر
بلا فرصة وداع
أو فسحةٍ للقاء لا يتم
يضفرن جدائل الانتظار
ضمائد لرأس ارهقه الوساوس
يضنيهن الشوق
وتدمي قلوبهن اللهفة.
إلى آخر القصيدة التي شخصت مكابدات الأرامل، تلك المكابدات التي لا تظهر أمام الآخرين ولا يحس بها إلا من اكتوى بنارها من النساء، المعاناة في صمت ومعاقرة الأحزان بصبر تعجز عن حمله الجبال، هذا ما أرادت قوله القصيدة التي استعارت لسانهن لمرة فأفصحت عما يعتمل في صدورهن من حزن وأسى، وأشد الحزن هو ذاك الذي تتم معاناته في صمت ومغالبته بسرية.
وغني عن القول ونحن نغذ السير نحو خاتمة المقالة أن القصائد انحازت تماما للشكل النثري الذي يبدو أن الشاعر يتبناه ويتخذ منه وسيلة لتأثيث مُنجزه الإبداعي إذ لم يحفل الشعر هنا لا بالقافية ولا بالموسيقى الصادحة ولا بالتقليدي من البناءات وإنما انهمر بعفوية آسرة وتشكل ببساطة قاتلة وعرف طريقه إلى القلوب كما تعرف الثمرة طريقها إلى النضوج ومثلما يعرف القمر طريقه إلى الضوء، هكذا بحمولته من البهجة يلامس المعنى ويتنعل أجنحة الخيال.
________________________________