على إحدى نواصي طريق قرقارش المستوي إلا من بعض الحفر، يطل مقهى بلافتة عريضة ” مقهى الطيب للمأكولات”. بمحاذاته مباشرة ينفتح الطريق على البحر السماوي الذي يلتصق بسقف السماء في خط طويل يتلون كل مساء….. نمر بالمقهى في غدونا ورواحنا محشورين في سيارة لا نملك في رحلتها المضجرة إلا ان نقرأ اللافتات ونحفظها عن ظهر قلب.
لكن مقهى الطيب كان له امتدادا لامرئيا آخر يتجاوز أمتاره المعدودة، وجهته البحر ومصطافيه..تهب نسائم “العشية” على بحر قرقارش صيفا وتحمل معها رائحة الدجاج المشوي المتبل والمغطى جسده والمحشو بوريقات الإكليل الإبرِية .. تأتي إلينا في الوقت الذي تنقبض فيه معدتنا وتتمرد وتصيح طلبا للقيمات تهدىء من روعها..
وكلما جرفنا تيار الموج نحو الصخرة التي اعتادت على أقدامنا الحافية ليلفظنا نحو الشاطيء مجددا، كلما تحرك فينا وحش الجوع الصغير الكامن في بطوننا.. حينها تهب علينا تلك الرائحة الزكية من مقهى الطيب…
رأينا تلك الدجاجات المحمرة التي شق أجسادها الصغيرة سيخ من المعدن، تدور دون إرادة في ذلك القفص الحراري على مدار الْيَوْمَ حتى نصاب بالدوار ونحن نتابعها…وكم من تحذير ألا نتناول هذه المأكولات خارج البيت، والذي يذكرنا بدرس “الحلوى المكشوفة” في سنوات الدراسة الأولى..
لكن رائحة دجاجات عمي الطيب لا تقاوم ولا يمكن هشها أو تخفيف هجماتها.. تتسلل من الأبواب والنوافذ.. لتطير بلا أجنحة في حركة غير منتظمة نحونا تباغتنا ونحن نخرج بإعياء من الماء إلى اليابسة.. كالحيوانات البرمائية الجائعة.
كانت فكرة الذهاب إلى المقهى مستحيلة وقد بللنا الماء و يبس شعرنا وعلقت بأقدامنا و أرجلنا طبقات الرمال..و أعيتنا السباحة والتسابق واحمرت عيوننا ولهب وجوهنا نحاس الشمس…وكيف لنا أن نخرج من الماء إلى المقهى بلباس كيفما اتفق يقطر ماء، ونجتاز حفاة أو بخف خفيف الرمال الساخنة و اسفلت الساحة اللاسع الذي يفصل بيننا وبين مقهى عمي الطيب.
وذات يوم قررت والدتنا أن تشتري لنا كعكة بمناسبة نجاحنا آخر العام.. وبخجل.. و تردد طلبنا منها أن لا يكون الاحتفاء بكعكة.. استغربت الوالدة و تساءلت نظراتها الضاحكة عن السبب.. اضطربنا .. لكن أحدنا تجرأ وطلب بدل الكعكة دجاجة.. ضحكت الوالدة حتى اتكأت إلى الخلف.. ” دجاجة.. حاضر ساهله”.. لكن أحدنا استرسل وقال “دجاجة قهوة الطيب”.. فتحت أمي عينيها و أبتسمت وهي تتمالك استغرابها.. “علاش”؟
“يا ماما ريحتها مش عادية”.. لم يكن لأمي ان ترفض هذا الطلب الشهي.. المتبل.. المحمر… المحشو بالإكليل.. كان اللعاب يكاد أن يسيل والمعدة تئن ليس جوعا ولكن توقا لحلم بعيد المنال.
“حاضر”…
حين ركضنا إلى المقهي.. تعرفنا على عمي الطيب..الجالس خلف آلة الدفع مبتسما، تلمع في طرف فكه سن ذهبية.. سأل عن لقبنا فتبين إنه صديق لعمي..
“تي عمكم صاحبي.. سلمولي عليه”
خرج عمي الطيب من وراء آلته واتجه نحو الشارع..فتح الفرن الحراري.. كان الدجاج مايزال يدور فيه غير آبه برؤوسنا الصغيرة الدائرة معه.. وقال “وازوا الدجاجة اللي تبوها…”
كان عبق الدجاج قد غلفنا وسد فتحات أنوفنا وتكاثر لعابنا واتسعت أفواهنا وغامت عيوننا في ذلك الدخان وانقبضت معدتنا من الرائحة.. فلم ننطق.
اختار عمي الطيب الدجاجة المحمرة الأكبر، المشدود قوامها، الملون جلدها.. وغلفها بورق جيدا وأخفاها في كيس بلاستيكي ومده إلينا…
أسرعنا نحو شاطئ البحر ، اخترنا صخرة تداعب فتحاتها المياه، نزعنا الغلاف الورقي المزين ببقع الزيت وبسطناه، كانت ماتزال دافئة وفائحة، فككنا أطرافها ثم تقاسمنا لبها بأصابعنا العارية.. و التهمناها حتى عظامها..
لم تكن دجاجة ولَم يكن غذاء.. كان مكافأة .. هدية..خيال داعب أنوفنا صيفا وراء آخر ليصبح حيّا رأي العين.. كان صورة بعيدة لذيذة نستطعمها دون أن نتذوقها.. رائحة اشتممناها دون أن نقتفي أثرها كالقطط أو الجراء…شجرة تفاح محرمة سمح لنا بغزوها …
دجاجة عمي الطيب مذاق استثنائي يولده خيال طفولي على مدار العمر لا يهفت ولا يبهت، لم استطعمه بعد ذلك أبدا…
2 تعليقات
لقد رجعت الي طفولتي بهذه القصة فمقهي عمي الطيب كان المفضل لدي رائحة الدجاج والهامبورغر المميز بالجبن واللحم الوطني لم أذق له طعما ابدا لا في مقاهي اخري ولا حتي عند سفري شكرا استاذة عزة علي هذه القصة
نشكر مرورك الكريم.