صلاة العيد بميدان الشهداء، بمدينة طرابلس.
قصة

كلاكيت العيد

(1)

أغنية الفنان أحمد سامي: معيدين وديما عيد.
أغنية الفنان أحمد سامي: معيدين وديما عيد.
الصورة: عن منتدى سماعي للطرب الأصيل.

“العيد”

من منا لا يقلب صور ذكرياته.. يجرفه تيار الحنين نحو ماضيه الذي لا يفارقه.. يحمله بين خفقات قلبه ويصقل شخصيته ومسلكه.. وكلما كان الماضي عناقيد حب مدلاة وحبات زهر موشاة وجناحان فراشة ودغدغة نملة وشهد نحل… كلما تغلغلت في نفسه راحة وتقبل السنين بابتسامة…
أعياد مضت… مطرزة بالحب وموشاة بالحنان ومطعمة بالسكر…
” معيدين وديما عيد معيدين” يصدح أحمد سامي ليلة العيد من شاشة التلفاز وهو يحرك يديه أمام ناقل الصوت، بإبتسامته العريضة…
في الصباح الباكر تحنو علينا يدان ناعمتان.. وصوت يهمس في آذاننا.. ” كل سنة وانت طيب(ة)”، بالتزامن مع أصوات خافتة تهب علينا ” الله اكبر الله اكبر .. ولله الحمد”.
نحبو تحت أسرتنا لنكتشف ألعابا تبرق في أركان مظلمة تنتظرنا.
نتحمم، ونضع لباسا ينطق قماشه بجدته..نغطي اقدامنا البضة بشراب ناعم ناصع، ونغلفها بأحذية لامعة نكاد ننزلق بها…
نعانق والدي ” كل سنة وانت طيب يا بابا”… ونطبع على خده اللامع المعطر قبلة تمحوها قبلات أخرى طوال الْيَوْمَ من عديدين غيرنا..
ننتقل في شوارع المدينة الكسول، تخالها هجرها سكانها إلا من بضع عربات متمهلة.. الدكاكين موصدة.. لكن فرحة ما تحوم من حولنا… لابد وأن يكون مصدرها نحن.. المتأنقين.. المحبين… الجاهزين للعناق وطباعة القبلات على كل تلك الخدود التي تدنو منا وتنحني نحونا فنلتصق بها.

(2)

المقروض، من الحلويات الليبية.
المقروض، من الحلويات الليبية.
الصورة: عن الشبكة.

“المقروض”

لن أتناول سوى صنف واحد من سفرة العيد الغنية… أنواع مختلفة من الكعك إضافة إلى البكلاوة الأنيقة التي تبدو كسيدة وسط الرجال!
“المقروض”.. لم أحبه يوما، ذلك أن حشو التمر كان ثقيلا على لساني…
صغيرة كنت أحب “الغريبة” البيضاء الناعمة المكتنزة…
لم أحب المقروض إلا حين اقتربت من صنعه..
كبرت قليلا.. وكان عليّ أن أكون ممثلة عن الأسرة في صناعته.. تأخذني عمتي خديجة معها إلى مضارب أمها ( جدتي) في سوق الجمعة وهي تحمل معها أكياسا من الطحين و السميد الناعم وصناديق التمر وعلب الزيت المعدنية برقابها الطويلة اللامعة وتلك الرسومات الزيتية على سطحها.. كانت تحمل أيضا علبا بلاستيكية فارغة ذات مغاطي..
تلك الرحلة تكون على مدار يومين أو ثلاثة في الأيام الأخيرة من شهر رمضان بعد الإفطار.. أنام طوال الطريق، حتى ندلف ازقة “الساحل” الضيقة وسط سواني الهندي… فيهبط عليّ هدوء ثقيل يبدد نومي وكأنه ساعة بيولوجية تعلن تغير المكان.. تهتز السيارة وسط الأزقة غير المرصوفة ويعم السكون إلا من محركها الذي انتبه فجأة إلى هديره..
الوجهة بيت إبن خالها…تستقبلنا سيدة البيت وهي إبنة المدينة وبناتها بالترحاب.. يتغير نمط البيت لإعداد “حلاوات العيد”… تفرغ الصالة من أثاثها لتصبح فسيحة شبه خالية يفرش على بساطها مفرش كبير من القماش يغطيه آخر من البلاستيك الشفاف.. وتوضع فوقه سفر خشبية مدورة تزينها مسامير متفرقة .. بينما تستند سفر الألومنيوم الدائرية اللامعة على الجدار..
نجلس في حلقة غير مكتملة.. ونبدأ تحت إشراف سيدة البيت الخبيرة في تتبع حركة أصابعها والاستجابة برحابة صدر إلى توجيهاتها..
اجلس كما يجلسن تعانق سيقاني بعضها البعض، وينحني ظهري نحو السفرة الخشب.. أراقب ما يجري وأمارسه دون ان ابعد عيني عن أصابعهن حتى لا أغفل عن شيء…
حينها اكتشفت صنعه فأحببته وتلذذت بقضماته وطحنه بين أسناني..
أتناول حفنة من الخليط أشق قلبه طوليا واغرس فيه صلصال التمر.. ثم أغلقه وأقصه بحرص بشكل مائل بالسكين.. أتناول القطعة في راحة يدي ارتب عليها وانقشها بعناية بمنقاش معدني .. ثم انحني وأودعها برفق على السفرة المعدنية…
ساعات تمضي بين حديث وصمت يتخلله نوبات ضحك .. لكن لا راحة فيها.. أيادي وأعين وألسن وجلسة متعبة مع مضي الوقت مصحوبة بألم في أعلى الظهر ما بين الكتفين…
بعد أن تجهز السفر… تتخذ مواضعها فوق رؤوسنا الصغيرة… لتبدأ رحلة حملها إلى ” الكوشة” التي يمتلكها ويديرها إبن الخال وهو زوج سيدة البيت… هذه الرحلة هي أجمل مقاطع صناعة “الحلاوات”.. هي الخطوة ما قبل الأخيرة.. رحلة خارج البيت.. نستخدم فيها مهارات أخرى في ظلام هادىء يحول سوق الجمعة إلى مكان ساحر.. يوشوس فيه سعف النخيل وينمنم فيها النسيم، ويحتفي بِنَا القمر وتتمسح الرمال بأقدامنا وتخيفنا ظلف الهندي التي تبدو لنا كرؤوس بأعين فارغة ..وتتحول البيوت الارضيّة إلى شخوص تراقبنا.. فتيات ينعمن بحرية وجيزة في هجيع الليل.. تقلق أصواتنا بلاشك تلك الجدران الصماء وما ورائها من نفوس صامتة…
كلما رفعت حبة “مقروض” إلى فمي… أطل علي شريط طويل من القصص والصور التي تحركها ذاتي الكامنة فيّ… وجوه باسمة.. وأصابع رطبة وأيادي تتحرك بذات الايقاع في رقصة متناغمة كذلك النخيل الباسق الذي يتجاوب مع الريح القادمة من البحر ولا يقاومها.. تلك القدرة على الصبر مع الابتسام.. والتحمل مع المتعة… وانجاز العمل بإتقان..
قضمات ذات سحر خاص تحث على المزيد طمعا في الوصول إلى حشوها المختبىء …
حبة مقروض واحدة لها ألف حكاية… فترفقوا بها وبمن شكلها وعسلها وقدمها سائغة.

(3)

الفطيرة، من المعجنات الليبية.
الفطيرة، من المعجنات الليبية.
الصورة: عن الشبكة.

“الفطيرة”

علاقة المرأة بالعجين تكاد أن تكون علاقة طبيعية… لا يعجن في البيت سواها.. تستخدم قبضتها كما يستخدمها الملاكم سوى أنها تضرب نحو الأسفل دون ان تنشد أَذًى، بينما يركز الملاكم ضرباته على الوجه بغية الأضرار بخصمه بهدف الفوز…
تحب المرأة العجين… وتخلق منه أصنافا وأشكالا ومذاقا وأطباقا شتى. تقف إلى جانب التنور يصهد وجهها سخونته، أو تقترب من الفرن وتمد لجوفه ذراعيها فيخلف علامات بنية عليهما.. أو تدلك “البازين” بكامل قواها حتى يصبح مطواعا بين يديها…
ككل البنات.. بدأت علاقتي بالعجين مبكرا… كانت عمتي مشهود لها بالطبخ التقليدي الحار.. لا تحب الحلو ولا تصنعه. بالكاد أصل إلى عجيزتها، تحملني وتوقفني على كرسي المطبخ إلى جوارها، تمد لي بقطعة عجين تلهيني بها، حتى تكمل طبيخها…لا تقلق من حركتي داخل المطبخ ولا تتبرم منها.
أمسك بقطع العجين وأعبث بها بأصابعي ثم أبرمها على سطح الطاولة واشكلها ليتحول لونها الأبيض إلى ما يشبه الرمادي، إلى حين ان تفرغ عمتي من مهامها في قَطَع “رشتة البرمة” بالتساوي، أو سحب شعيرات “رشتة الكسكاس ” من “الماكينة” برفق.
في العيد، تنهض عمتي باكرا.. قبل صلاة العيد.. اشعر باستفاقتها ودبيب قدميها.. فألحق بها.. تخلط الماء والملح والدقيق وتفركها وتدعكها وتدلكها بيمينها بينما تمسك باليد الأخرى ” المعجنة” حتى يتماسك قوامها ثم تربت عليها وتدهن سطحها بزيت الزيتون وهي تبتسم… ” خليها ترتاح”…
أتحرك خلفها وهي تجهز لزيارة الاقارب… وعيني على العجين.. أتمنى لو أغوص بيدي فيه.. أشكل منه وجوه وملامح أخاطبها وأعنفها وأتحكم بمصيرها وإنهيها بأصابعي ثم أعيد تشكيلها..
تعود عمتي لعجينها، ” خلي نقرصها”، تقتطع منها إجزاء وتديرها بسطح يديها حتى تصبح في شكل كرات وتدهنها ببعض الزيت وتردد ذات الكلمات ” خليها ترتاح”… وكأنني من سيقلق نومها أو راحتها وهي ترتخي على سطح “السفرة” بلا حراك…
تطل عمتي عليها من حين لآخر.. وأنا إلى جوارها أرقب حركتها بفضول ..
تضع “الطاوة” على النار وعليها لمسة زيت.. تفرد كرة العجين بين يديها حتى تصبح رقيقة كالورقة البيضاء التي لم يخدشها قلم.. تضعها على “الطاوة” وتقلبها سريعا وهي تتأوه وقد احترقت أطراف أصابعها..
تمد لي الفطيرة الأولى الساخنة الناعسة في صينية مسطحة…”سكر وإلا عسل؟”
“سكر عميمة”!
اتسلق الكرسي خلفها.. آكل شطيرتي الساخنة بأصابع ملتهبة.. العق السكر الملتصق ما بين أصابعي…
ترمقني بنظرة عتاب وهي تعض شفتها السفلى “ما عاش تلحسي صوابعك”..
يحضر أعمامي الواحد تلو الآخر لتناول فطيرة العيد ساخنة…
“عسل ولا سكر”؟
لم ترتاح الفطيرة طويلا ولَم ترتاح عمتي في ذلك الْيَوْمَ…

(4)

صلاة العيد بميدان الشهداء، بمدينة طرابلس.
صلاة العيد بميدان الشهداء، بمدينة طرابلس.
الصورة: عن الشبكة.

“العيدية”

عشت بين عالمين مختلفين… عائلة تقليدية محافظة واُخرى عصرية منفتحة.. وسعيت بينهما بكل أريحية في حركة طبيعية ككرة تتأرجح بين مرميين أو أرجوحة تعلو ما بين مسافتين.
ورغم الطابع التقليدي لأسرة والدي، الا ان خليطا نسائيا كان كفيلا بإسباع انفتاح على ثقافات اخرى.. زوجة عمي الشيخ الأزهري قاهرية من أصول تركية، وزوجة عمي الطبيب فلسطينية من جنين، وجدتي لأمي اسكندرانية ووالدها من غريان، وزوجة عمي الصغير اصولها من مدينة غرب طرابلس لكنها نالت شهادة الطب من القاهرة.. كلهن متعلمات.. طبعن على العائلة طبائع خففت من تقليديتها.
كنت أتناول الفتة عند زوجة عمي الأزهري، واللبنة والمكدوس عند الجنينية والبركوكش عند زوجة عمي الأصغر.
اما بيت جدي لأمي فقد تميز بإنفتاح ونشاط وحيويةً ومرح دائم.. كان دافئا رغم نوافذه المشرعة.. ضاحكا رغم رحيل بعض ساكنيه باكرا… متحمسا ومتقدا رغم أن جدي كان يتكأ على عصاه…زهور من الحب وعرائش من الحنان تسقيها أمي واخواتها في بيت جدي، حتى استقر في نفوسنا ذلك الشعور العميق الذي يذيب الفوارق ويتخطى الحقائق بأن بيت جدي هو بيتنا، وأن خالاتي أخواتي وأن أمي أمهن. كان بيت جدي المكان والمناخ الأمثل لتفتح براعم الطفولة..
يرتدي جدي لأمي بدلته الزرقاء الغامقة وطربوشه الأحمر ويجلس في صالونه بلون طربوشه .. ينتظرنا.. يدخل يده في جيب سترته الداخلي.. يخرج منها أوراقا خضراء.. ويمنحنا بسخاء.. فرحا بقدومنا.
سخاء أهل أمي في العيدية ظاهرا… يرفع من ميزانيتها وتسيل بها شهيتنا وتعلو معها وتيرة طمعنا… لم تكن عيديتهم أوراق ذات أحجام صغيرة.. أو حتى ذات الدينار الأزرق.. كانت ورقة كبيرة برقم صحيح.. مع هذا السخاء كانت الأحلام تتحقق.. والآمال تقترب والأماني تتسع…
لذا.. مع كل ما جمعناه.. قررت أمي ذات عيد أن تحقق لنا حلما كبيرا.. شراء دراجة تزينها آلة تحكم السرعة لكل واحد منا.. وان تسدد عنا أية تكاليف لا تغطيها ميزانيتنا…
سرنا على الأقدام نتبعها بل نسبقها و نقتفي أثر الحلم الذي ظل يقترب مع كل خطوة.. ازدحمت دقات قلوبنا وارتفع إيقاعها… ازدادت ثرثرتنا وعلت في ذلك الطريق ونحن نركل خطواتنا نحو ” السكليستي” في حي قرقارش. توقفنا أمامه.. تصطف داخله دراجات ملونة وعالية بأناقة..بكراسي جلدية وأذرع مفتوحة وغطاء ابيض على كفوفها.. كان البائع جالسا.. ما أن اطلت أمي ونحن الخمسة نتزاحم على بابه حولها، حتى نهض…
“نبوا خمسة بشاكليط…”
تفاجأ البائع وهو يرانا..
كانت الدراجات تقف بإعتزاز تواجهنا و بدت أعلى منا.. لكن اصرارنا وانتشارنا في المحل وقد وقف كل منا بثقة إلى جوار احداها، دفعه إلى أخذ الأمر بجدية، اذ سرعان ما نادى على أولاده ليساعدوه في صفقة العيد…
في طريق العودة.. ارتفع مقام الفرح كأعناق مقعد الدراجة.. وتجدد في نفوسنا بدوران عجلاتها.. واشعرتنا حركة أيادينا القابضة على ” المارشة” بأننا نتساوى مع السيارات التي تتجاوزنا. البحر على يميننا… تدغدغ نسماته احلاما تحققت ذات عيد.
تسابقنا، و غيرنا درجات السرعة وقد تمدد خيالنا ليوازي الأفق الذي يتبعنا..تركنا أمنا خلفنا تجر دراجة اختي الصغرى التي أعيتها حركة الدواليب.. فتركتها وفضلت السير.
تغيرت حياتنا منذ ذلك العيد.. سهلت حركتنا .. نقود الدراجات في طابور عكس اتجاه السير حتى نكون مرئيين لسائقي السيارات.. نواجهها دون تردد.. نتفادى الحفر ونزيد من سرعتنا وقوفا، ولا اتذكر يوما أننا استخدمنا رصيف المشاة..
تنوعت وسائل مواصلاتنا فيما بعد لكن يظل لتلك الدراجة طعما خاصا.. أن تسرق زمنا من الحرية في الهواء الطلق.. أن لا نافذة ولا باب بينك وبين العالم الخارجي .. أن تتحكم في قرارك فتسرع السير أو تبطئه وأن تتخلل السيارات المزدحمة لاختصار الطريق، أن تعتمد على جهدك، وأنه بقدر قدراتك تصل إلى مبتغاك، و أن تواجه مخاطر الطريق بحكمة… ومع كل هذا أن تستمتع .
عيدية غيرت حياتنا ذات عيد…..

14-17 يونيو 2018

مقالات ذات علاقة

قصتان مدلهمتان

محمد دربي

قليل من الدفء

غازي القبلاوي

كريمة

عزة المقهور

اترك تعليق