الكاتب الروائي والقصصي الليبي سالم الهنداوي لـ “المشاهد السياسي”:
المثقَّف الحكومي هو مثقَّف مزيَّف مثله مثل النظام المزيَّف
الكاتب العربي إنسان بلا معنى ومثقَّف بلا قيمة في مجتمع ضد المعنى وضد القيمة
نحن لسنا ضحايا إسرائيل وإنما ضحايا حُكَّامنا الذين يقتلوننا في الليل والنهار
التغيير الحقيقي في الناس لا بد أن يبدأ بالثقافة
الديمقراطية هي معضلة ثقافية بالدرجة الأولى
حاوره: نوري الجراح
سالم الهنداوي واحد من أبرز الكتاب الليبيين، ومن أكثرهم شهرة عربياً إلى جانب عدد قليل من كتاب الرواية والقصة في ليبيا الذين تمتع أدبهم بإطلالة عربية كالصادق النيهوم وأحمد ابراهيم الفقيه، ومحمد الشويهدي. صدرت أعماله الروائية والقصصية في ليبيا وبيروت، وقضى فترات من حياته في جزيرة قبرص.
من أعماله الأدبية: “الجدران” قصص قصيرة 1978/ “الأفواه”، قصص قصيرة 1984/ “الطاحونة” رواية 1985/ “علاقة صغيرة” حكايات 1985/ “أصابع في النار” قصص قصيرة 1986/ “دراسات في الأدب” مع آخرين 1986/ “خرائط الفحم” رواية 1994/ “رصيف آخر” مقالات 1994/ “الغابة” قصص للصغار 1996/ “ظلال نائية” قصص قصيرة 1999.. ويستعد سالم الهنداوي لإصدار عمل روائي ومجموعة قصصية جديدة.
“المشاهد السياسي”: التقت الكاتب في حوار ساخن حول عودته إلى ليبيا وتجربته الأدبية وجديده الذي يتهيأ لإصداره.
سألت الكاتب الليبي سالم الهنداوي:
* لنبدأ من الحديث عن جديدك الأدبي، هل هناك عمل روائي جديد لك قيد الطبع؟
– لديَّ رواية ستصدر هذا العام عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت تحت عنوان (رحلة نوح الأخيرة) وهي رواية فانتازية تبني قصة لنهاية العالم إثر اشتعال حرب نووية، وكان من المفترض أن تصدر هذه الرواية مكتملة قبل سنوات وبعد صدور جزئها الأول في قبرص بعنوان (خرائط الفحم). وكنتُ قبل أربع سنوات بصدد نشر رواية أخرى تحت عنوان (ليلة الطوارئ) لكني عدلتُ عن ذلك بسبب كونها تتعرَّض لتفاصيل سياسية وأمنية من صميم النظام العربي السائد، وبذلك ستكون ممنوعة حتماً من التداول في البلاد العربية. وأنت تعرف أن الموقف الثقافي من السياسة لا يعني المغامرة أو التهور لكسب مجد ما على حساب الرصيد المعرفي بأخلاقيات هذا النظام أو ذاك. فكتابتها لم تكن بهدف الإثارة لتحقيق الشهرة كما هو الحال مع بعض الروايات، والتي كان لمصادرتها فقط، وارتباط ذلك بالحريات، كل ذلك الضجيج، على الرغم من الاختلاف البيِّن على قيمها الفكرية أو الفنِّية.
*هل يعني ذلك أنك أعدمت (ليلة الطوارئ)؟
– لا، أبداً لكنني ربما أجري عليها بعض التعديلات البنائية والمعالجات الفنية للحفاظ على قيمتها الأدبية كعمل فني في الدرجة الأولى ولا يترك أي قيمة لما هو غير إنساني. الرواية مشحونة بتفاصيلها الاجتماعية والجمالية كحدث مكاني مفتوح على بيئته، ولذلك يُمكِن الرجوع إليها في أي وقت.
* لك تجربة مع الكتابة والسفر والإقامة خارج ليبيا فترة من الزمن. يبدو أنك تركت قبرص وقفلت راجعاً إلى ليبيا. ما الذي تفعله الآن..؟
– لأعترف لك أنني أضعت الكثير من الوقت بلا جدوى، كما هو الحال بالنسبة إلى كل عربي بدأ حياته حالماً ومن ثم اكتشف الحقائق. لقد كبرنا وكبر أولادنا وعجزنا عن توفير حتى لقمة العيش الكريمة لهم، في الوقت الذي كان بإمكاننا أن نعيش بامتياز لو أننا كنَّا كُتَّاباً مأجورين لأي نظام. هل تعرف إنني أسوأ حالاً من أبناء قبيلتي، وأسوأ حالاً أيضاً من كل أصدقائي. هم جميعاً ينامون مبكراً لمواعيد قد تكون سعيدة في صباحات حياتهم، بينما أفكر في مصير أطفال جوعى في فلسطين نثرتهم القنابل التي هدَّمت بيوتهم، وأتأمل معهم في الليل، كيف يأتي الصباح ليبدأ الألم من جديد. أبناء قبيلتي يجمعون المال من التجارة ومن التدريس في الجامعة ومن إدارة الأعمال، بينما انتظر مرتباً زهيداً يأتي زاهداً مع بعض الدراهم من صحافة تتلكأ قبل أن تدفع. أصدقائي يتفرَّجون على برامج المنوعات وأغاني الفيديو كليب ويتابعون مباريات كرة القدم الأوروبية ويذهبون في رحلات صيد، بينما أتفرَّج على نشرات الأخبار واتابع برامج السجال الفكري والثقافي، حتى أني لم أعد استمع كثيراً لأغاني السيِّدة فيروز التي استثنيتها من الانحطاط الطربي العربي الشنيع. وإذا ذهبت إلى مكان سرعان ما أعود ضجراً فأجد القراءة أو الكتابة فرصة للخلاص من براثن الملل الذي يعتريني. لقد كبرنا وكبر أطفالنا وما عدنا ننعم براحة البال وبأحلام أيام زمان يوم كُنَّا نذهب إلى فعل الكتابة في الحياة ونخال أننا نذهب إلى المستقبل . لقد أضعت وقتي على حساب تربية أطفالي وتنشئتهم لمستقبل قد يكون أفضل من حاضر فقدنا فيه معنى وجودنا كبشر وكمثقفين. إنسان بلا معنى ومثقَّف بلا قيمة في مجتمع بلا معنى وبلا قيمة. وبالرغم من هذه النتيجة المؤسفة من التضاد السلبي في العلاقة بالمحيط الهشّ، مازلتُ أكتب. من الوجع ربما، ومن مقاومة اليأس والإحباط والخوف من الندم في الحياة. مازلتُ أكتب لانتصر بذاتي على المشهد. أطفالي يفتخرون بي وأصدقائي يرأفون بي، وهذا يكفيني. لقد تخلَّيتُ عن كل شيء لتبقى لي الكتابة فهي لي كل شيء.
صوت غاضب
* المتتبِّع لسلسلة مقالاتك الأخيرة يلاحظ أنك تطلق عياراتك النارية في كل اتجاه. إنك تبدو خارج أي تصالح مع الواقع القائم؟
– لم يبق لدينا الكثير من الذخيرة الحيَّة لقتل هذا الواقع المؤسف لي ولك ولكل المثقَّفين المشرَّدين في عواصم العالم والقابعين في السجون العربية والنائمين على عتبات المقاهي في القيلولة . لقد خسرنا أحلام الناس فينا يوم كانت تضيء لنا دروب المعرفة من أجل الحرية. لم نكن نعرف أن هذا الانحياز المثالي لقضية الحرية سوف يقتلنا ويقتل الناس في عقر أحلامهم . لقد ذَبحَنا الإسرائيليون في فلسطين وصادروا منّا القدرة على مواجهتهم، والأميركيون يقتلوننا في العراق ليشطبوا التاريخ العربي بدمنا على أعتاب بابل كربلاء. لم نكن ضحايا هؤلاء القتلة في النهار. كُنَّا ضحايا حُكَّامنا الذين يقتلوننا في الليل والنهار. لقد كان النظام العربي الرسمي هو قاتلنا منذ نلنا الاستقلال بجهود المقاومة الوطنية، ليعتلي الحُكَّام السلطة وليأتوا بالاستعمار من جديد. النظام العربي الرسمي هو قاتلنا البشع قبل أميركا وإسرائيل. ولقد كانت أحداث 11 سبتمبر عاملاً قوياً للالتفات إلى أهمية الإصلاحات الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة توتُّر ناهضة بقومياتها الطائفية والعرقية وتشهد معارضات كبيرة، دينية وسياسية. لكن أميركا باعتقادي لا تستطيع بهذه الخطوة تحقيق الأمن والاستقرار لها حتى وإن تحقَّق لها تغيير أنظمة الحكم في المنطقة، وحتى وإن التقت مصالحها بمصالح شعوب هذه المنطقة في الدعاية الديمقراطية. ذلك لأن أميركا بمشروعها الاستعلائي تستهدف تقويض الثقافات المختلفة في عمقها الحضاري ونشر ثقافة استهلاكية متوازية مع مشروعها في العولمة. والنتيجة أن إسرائيل المستفيد الأول من نتائج هذه الثورة الأميركية في المنطقة .
دور المثقف
* هل من دور للمثقَّف حيال أزمة الإصلاحات السياسية في المنطقة؟
– الثقافة منذ زمن كانت خارج الأحداث. لقد عَمد النظام العربي إلى تهميش صوت المثقَّف منذ تأسيس أول وزارة للثقافة بعد الاستقلال. فكان صوت المثقَّف من خلال منابر النظام الإعلامية والثقافية، يمرُّ على الرقيب ثم يمرُّ أيضاً على الرقيب، ومع مرور الوقت صارت الرقابة الذاتية من الأخلاقيات الوضعية للصحافة والكتابة في البلاد العربية. النفر القليل الذي تأسست عليه صحافة المهجر، استطاع التخلُّص من هذه العادة العربية المعادية للثقافة ولحرية التعبير. وهو النفر الذي كشف فجأة عن ضحالة أنظمة فاسدة وبائسة في تعاملها مع شعوبها ومثقَّفيها. وبغزو الفضاء استطاعت الفضائيات المرئية اقتحام البيت العربي بجرأة غير مسبوقة في التلفزيونات المحلّية. ومع الانتشار الرهيب للإنترنت، صار يجب أن يخجل النظام ويكفِّر عن ذنوبه التي اقترفها في حقِّ الثقافة والمثقَّف. الآن، وحيال هذه الأزمات، كان يُمكِن أن يلعب المثقَّف العربي دوراً مهمَّاً، ليس لحماية النظام ، وإنما لحماية حقه في الإصلاح السياسي في النظام الاجتماعي؟ هذا سؤال لكن المثقَّف الحقيقي كان دائماً خارج السلطة، بينما المثقَّف الحكومي مثقَّف مزيَّف، مثله مثل النظام المزيَّف الذي تأسس على قاعدة الخلاف مع المثقَّف النهضوي. لقد كان المثقَّف ومازال أحد أهم شرائح المجتمع المدني الذي تتحرك الإصلاحات من خلاله. وهو بثقافته الوطنية يُعتَبر قائد مؤسسات المجتمع المدني. فحقوق الإنسان كانت دائماً تبدأ من حرية التعبير. ولأن المعضلة كانت هنا، تحديداً، فإن أي حرية لجموع الناس، يجب أن تبدأ بالمصالحة مع المثقَّف. وتلك مسألة قد لا يتحمَّس لها المثقَّف العربي الحر كثيراً، في الوقت الراهن، كونه كان أحد أهم ضحايا النظام السياسي، وعليه فإن مسؤولياته تقع ضمن فعاليات المجتمع المدني ككل وأدواره مجتمعةً من قضية الإصلاحات.
* هل تعتقد أن الثقافة فعلاً ما يزال في وسعها أن تلعب دوراً في التغيير الاجتماعي وفي تحرير العقل من أزمته الحاضرة؟
– الثقافة منظومة متكاملة. لا يستطيع فردٌ مهما كان تأثيره أن يقيم علاقة استثناء مع الناس، علاقة نبوئية متكاملة تجعل من الناس مريدين له مدى الحياة. كما لم تفعل السياسة التي جعلت من الحُكَّام آلهة تحكم بلا معروف، وتسقط في التاريخ كما يسقط اللصوص والمجرمون. لا أحد يستطيع فعل شيء ترضى عنه كل الناس. النبوءة انتهت، وكل هؤلاء العباقرة الذين تعرفهم في التاريخ الحديث، مجرَّد نتاج غير طبيعي لأوضاع غير طبيعية قادت الناس إلى الاعتقاد بامتيازاتهم في السلطة. إن التغيير الحقيقي في الناس لا بدَّ أن يبدأ بالثقافة، ثقافة لا تقودها دولة أو يقودها شخص في دولة. ثقافة اتجاه عام لكل الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني، في التعليم وفي القوى العاملة وفي مختلف وسائل الإعلام. علينا أن نفكِّر بعقل اجتماعي واحد ، كيف يمكننا الخروج من مأزقنا الآسر في التاريخ وننهض بثقافة جماهيرية تقود ولا تُقاد.
مشروع متوسطي
* خلال فترة إقامتك في قبرص بصفة دبلوماسية كنت تفكر بتأسيس مشروع نشري عربي من هناك هل تراجعت عن هذه الفكرة؟
– كان لدي مشروع دار نشر متوسطية في قبرص، اعتبره مشروعاً حضارياً لكل دول المتوسط ، العربية والأوروبية، ولقد توقَّف المشروع لأن بعض المسؤولين في ليبيا لا يريدون ذلك، ولم أستطع حينها بسبب وضعي الدبلوماسي في قبرص آنذاك من الاتصال بالمؤسسات المتوسطية لتنفيذ الفكرة. ولدى عودتي المفاجئة إلى ليبيا عام 2001 حقَّق بعض الوسطاء من الأصدقاء العرب والأوروبيين نتائج عملية لاستجابة بعض المؤسسات الأوروبية المتوسطية، وتم الاتصال بي لإحياء المشروع من جديد على ضوء نقاش حول مستقبل العلاقات المتوسطية الجديدة، لكنني لم أتابع الأمر. وربما يمكن إحياء الفكرة مستقبلاً.
تكوين عصامي
* بعد نحو ثلاثة عقود من العطاء الأدبي كيف تنظر إلى مآلات تجربتك الأدبية؟
– يزعجني كثيراً أنني لم أحقِّق لذاتي تلك الطمأنينة التي يتمنَّاها أي إنسان . لقد وقعتُ في أسر ثقافة بقدر ما أعطيتها صادرت مني الهدوء والاستقرار. قد يكون تكويني الثقافي جاء من أضيق الأبواب، إذ نشأتُ عصامياً كما هو الحال بالنسبة إلى زكريا تامر ومحمد الماغوط وحنا مينة ومحمد مستجاب، وقلة غيرهم من المبدعين العرب. فكانت معرفة الناس عن قرب هي النتاج العملي لكل النظريات التي تطرحها الجامعات في كل المجتمعات. بدأت أعمل على تحليل المجتمع منذ صغري، واكتسبتُ مراجعي من علاقاتي الطبيعية بالمجتمع الذي أنتمي إليه. وهذا ما جعلني دائماً خارج مؤسسات الدولة.
إن المشقَّة التي عشتها لكي أُثبت ذاتي في المجتمع ككاتب لم تكن سهلة، بل لم يستطع غيري من الكتَّاب أن يعيشها بذات القسوة على مدى عقد من الزمن تقريباً ، حتى أن بعض النقَّاد الذين يعيشون على كلاسيكيات الثقافة الليبية في ذلك الوقت كانوا يعتبرونني كاتباً تخريبياً، فحاربوا تجربتي مع القصة الجديدة لأنني بدأتها من موقعي الجديد في الحياة ، وليس بتأثير وامتداد لتجربة جيل مات وكان يرفض أن يموت. وإزاء ذلك لم أتحامل في قراءاتي على نتاجات ذلك الجيل ، واعتبره تجربة أدبية مهمَّة في زمن توفَّرت فيه فرص النشر والانتشار من خلال الصحافة الرائجة والمناخ الثقافي المتاح، ولكنها تجربة لا يمُكِن أن تكون مؤثرة فينا حتى وإن خسرنا، كجيل، ذلك المناخ وتلك الفرص المهمَّة في النشر والانتشار .
كان لتلك المعارك الصاخبة والفارغة في آن السبب في اللجوء إلى النشر خارج الوطن في منتصف السبعينيات ، فنشرتُ أول نتاجي القصصي في مجلات كانت تصدر في لندن، وباريس، وفي مجلات بيروتية كالآداب، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أنشر معظم نتاجي الثقافي والإبداعي وكتاباتي الصحفية في صحافة المهجر، كما أني عملتُ ومازلت مع عدد من الصحف العربية ككاتب غير مقيم بمقالات وزوايا ثابتة.
أنا كاتب عربي
* هل يعني هذا أنك معرض عن نشر أعمالك في ليبيا من حيث المبدأ؟
– بالعكس، فقد سبق لي أن عملت في الصحافة الليبية منذ مطلع السبعينيات وكنتُ محرراً في صحيفة “الأسبوع الثقافي” التي توقَّفت عن الصدور نهاية السبعينيات . وبانقطاعي عن العمل الصحفي في ليبيا آنذاك كنتُ أسافر كثيراً وأكتب في أكثر من صحيفة ومجلة عربية، في صحافة لبنان أثناء وبعد الحرب الأهلية، وفي صحافة قبرص ولندن وباريس ، وأيضاً في صحافة دول الخليج، وفي الصحافة السورية والمغربية واليمنية والتونسية. أنا لم تكن لدي مصلحة إقليمية في ليبيا كي أحرص على النشر فيها، فأنا كاتب عربي واعبِّر عن هموم وتطلُّعات الإنسان العربي، سواءً في ليبيا أو في لبنان أو في مدغشقر. ولعلي نَشرتُ أهم مقالاتي وأكثرها جرأة في الصحافة الليبية.
أعمال جديدة
* قرأت مؤخراً في إحدى الصحف أنك تُعدّ لإصدار كتاب جديد يضم عدداً من مقالاتك الأخيرة التي ارتبطت معظمها بالأحداث الراهنة في المنطقة والعالم. على أي أساس أنجزت هذا الكتاب؟
– هما كتابان وليس كتاباً واحداً، وقد جَمعتُ مادتهما المنشورة وتم الاختيار وضبط أزمنتها المتقاربة والمتلاحقة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر إلى تداعيات الحرب على العراق ومستقبل منطقة الشرق الأوسط. وقد انتقيتُ منها الكتابات المتّصلة بهموم الثقافة ونثرياتها الوجدانية ليكون الكتاب الأول عبارة عن كتابات في الثقافة تحت اسم (حائط اليوم السابع – تأملات في جهة الضوء). أما الكتاب الثاني وهو مقالات في السياسة فسيكون تحت اسم (أوراق في رياح الشرق – سقوط الدولة الثانية). وهذان الكتابان الجاهزان الآن للطبع، يحملان هموم الزمن العربي في لحظته الراهنة، وربما تكون أهمية إصدار هذه الكتابات الصريحة في الثقافة والسياسة، من أهمية هذه الحقبة التاريخية على اختلاف تناقضاتها وتداعياتها اللاحقة على مستقبل شعوب المنطقة.
بين الثقافة والسياسة
* يبدو لي أن الهم السياسي يبدو شاعلاً أساسياً لك، وان أعمالك الأدبية ليست كل ما يحرّك الطاقة الخاصة بك؟
– لنسمه هماً فكرياً.. وهو بالتالي هَمْ ثقافي. فالسياسة على مستوى العالم لعبة رجال أقوياء سادوا في التاريخ. رجال حرب وانقلابيين وحزبيين. رجال سلطة يحكمون باسم الديمقراطية وشعاراتها . رجال محتالون سرقوا حقوق الشعب بشعارات حزبية على ورق وقماش. رجال صنعوا دستور البلاد لحُكم البلاد، فكان صوت الشعب اليائس لنيل الحرية دعامة جوهرية لاستبداد السلطة في البلاد حتى صارت معضلة الديمقراطية مشروعاً داعماً باستمرار لأنظمة الاستبداد، وفي خلال محنة الديمقراطية وخطاباتها السياسية الفجَّة في التاريخ العربي الحديث خسرت الثقافة العربية أهم عوامل بناء الشخصية الوطنية صانعة سنوات النضال والمقاومة ضد الاحتلال. فالحرية التي نالها الشعب عن جدارة في خلال معاركه الثقافية ومقاومته الوطنية للاستعمار، سرعان ما خسرها مع قيام النظام السياسي، كما خسر معها صوته الذي كان المشعل المتّقد لتلك الحرية التي أضاءت العقل العربي في سنوات النضال الوطني .
أمام هذا الزحف المخيف لسطوة السياسي ، لا بدَّ من تفعيل دور الثقافة لمواجهة التحدِّيات الراهنة . فالديمقراطية هي معضلة ثقافية بالدرجة الأولى، امتهنها السياسي للوصول إلى السلطة، وخسرها الشعب في الثقافة. علينا أن نستعيد المعادلة الصحيحة في الحياة ، لينقلب النظام السياسي على أعقابه في التاريخ. علينا أن نبدأ من حيث نريد بثقافتنا العربية والإسلامية، وليس من حيث تريد أميركا بثقافتها الاستعلائية – الوجه الحضاري للاستعمار الجديد بعد الحرب على العراق – سواءً بهيمنتها الاقتصادية أو بمشروعات الهيمنة السياسية في المنطقة التي تتأسس اليوم على مساوئ النظام السياسي العربي.