الروائي الليبي إبراهيم الكوني
حوارات

إبراهيم الكوني يتآسى: لا أبشع من صفقات بيع الضمير

محمد الحمامصي

القبائل الصحراوية التي ننعتها نحن اليوم بالتخلف ونعتقد أنها متخلفة، كأنها نظام سياسي عادل بل أكثر عدلا وحكمة وأكثر فعالية، بدليل أن هذه الإمارات التي نراها اليوم بنتها حكمة شيخ صحراوي عادل، وهو صحراوي بكل معنى الكلمة، وهو الشيخ زايد آل نهيان.

أكد الكاتب الروائي الليبي الشهير إبراهيم الكوني في حوار أنه ليس هناك صفقة أبشع من صفقة يبيع فيها الإنسان ضميره لكي يسود، وتساءل: هل يقبل الرب أن يأخذ منا إنسان دينارا، إنسان ذهب ليعقد صفقة باسم الرب مع الشيطان؟ ليجيبوني ـ مخاطبا تيارات الإسلام السياسي التي تستخدم الدين وسيلة للاستيلاء على السلطة ـ عن هذا السؤال.

وقال “أعتقد أن هذا مستحيل، التجربة البشرية تقول مستحيل، وهنا يمكن استرجاع قصة ذلك الشيخ الذي أتى إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقال له دعك منها لم تًخلق لك ولم تُخلق لها، بطبيعة الحال إنسان نقي مثل علي لا يمكن أن نساويه بمعاوية، مستحيل، معاوية رجل دولة بكل معنى الكلمة، بما تحمله من اللاأخلاقيات، وأكبر عمل لا أخلاقي هو قضية المبايعة، عمل عملا لاأخلاقيت بحيلة، صاحب الدولة لا يستحي أن يلجأ لأي حيلة خسيسة للبقاء في السلطة، وهذا ما فعله معاوية، ولو سمع علي بن أبي طالب وصية هذا الشيخ الذي أعتبره أنا مبعوثا إلاهيا وقد جاءه متنكرا في ثياب شيخ، لما حدث لعلي بن أبي طالب ما حدث”.

وأضاف “من أراد الحقيقة فالحقيقة خارج السلطة، سيما إذا كانت خارج الوجود أصلا، فكيف تكون في السلطة أو السياسية، هل هناك عمل غير أخلاقي مثل ممارسة السياسية، الإنسان يعمل بالسياسة ثم يتحدث باسم الدين، لا يقنع أحدا، أعتقد أن فعل هذا شروع في تدمير القيم، هذا خلل في غاية الخطورة، أنا لا أعترض على مبدأ الدولة الدينية إذا كانت دولة دينية بالمعنى الأخلاقي، لكن هل هناك دولة بلا سلطة، لا، مادامت هناك سلطة فهي غير أخلاقية، ولذلك رجل الدين يجب أن يتعفف عنها، ويكون بعيدا لكي يحمي نفسه أولا، ويحمي مبادئه ودينه، يجب أن ننقذ الدين من السياسة ومن السلطة، نحن ننقذ الدين إذا أبعدناه عن السياسة وعن السلطة”.

* وهم الديمقراطية العادلة

وحول انجرار الشعوب والتفافها حول خطابات هذه التيارات الإسلامية قال “هذا الأمر يدهشني، ويدهشك ويدهش الجميع، أن يعتقد المواطن العادي المسكين أن هذا الإنسان ـ مريد السلطة ـ الذي جاءه في ثوب الدين لكي يحقق له العدالة، هذا وهم، هذا الرجل متنكر فقط، طالما يهوى السلطة فهو متنكر، وليس رجل دين حقيقي، رجل الدين ـ والدين مبدأ سمو ونقاء مطلق ـ لا يمكن أن يضع رأسماله في يد السلطة أو السياسة”.

وأوضح مؤكدا أن “السلطة عمل غير أخلاقي على مدار التاريخ.

والسلطة لم تحقق عدالة على الإطلاق، لم تحققها حتى في الغرب، الديمقراطية التي نراها ونسمع بها ونتشدق بها ونحاول أن نصل إليها هي في واقع الأمر الحد الأدنى للعدالة، ليست هي العدالة، ليست هي الحرية، لذا لا يقولون عنها الحرية ولكن ينزلونها من بعدها السماوي إلى بعدها الأرضي ويقولون إنها ديمقراطية، أي أنها الحد الأدنى من العدالة، حتى في أوروبا العدالة المطلقة غير موجودة، لا يمكن أن توجد على الأرض، هذا هو الفردوس، والفردوس ملكوت سماوي وليس ملكوتا أرضيا”.

ورأى أن حنين الإنسان إلى التغيير هو حنين في طبيعة الإنسان، لا يمكن لإنسان أن يقنع بالثبات، هل هناك أعظم وأجمل وأكبر سعادة للإنسان من الفردوس، ومع ذلك الإنسان لوحده وبخياره ذهب وعصى الرب، هذه هي ترجمة لعمق ومدى تشدد حب طبيعة الإنسان للتغيير، لكن لم يحدث أن جاء التغيير بالخلاص، هذه قاعدة أيضا.

وأشار الكوني أن “المثقفين العرب يعانون إقصاء ممنهجا وقويا من كل الأجنحة، يعانون إقصاء من السلطة، سواء السابقة أو اللاحقة، وليس فقط من السلطة وأدواتها، وإنما يعانون من إقصاء من الأحزاب، أيضا يعانون إقصاء ممنهجا وقاسيا وخطيرا من الشارع، لأن الناس لا يقرأون، إنسان الشارع لا يقرأ وفي غاية التواضع ويسهل خداعه بكل بساطة، لذا واقع الأمر أن المثقفين في كوكب، والعالم العربي في كوكب آخر، ما أراه يحدث في واقع الأمر هو نتاج لمراحل تاريخية سابقة، نحن فيها مازلنا نجوس في عصور الظلمات ولم ندخل مرحلة التنوير حتى اليوم”.

ولفت إلى وجود حلقة مفقودة بين المثقفين والشارع، “المثقف الجاد يجب أن يقرأ، وقراءته صعبة والناس لدينا لا تقرأ ما هو جاد، وهذا أدى إلى انقطاع همزة الوصل والعلاقة بين المثقف والإنسان البسيط، ولذلك فإن الإنسان البسيط ضحية والمثقف أيضا ضحية، ومن ثم الشارع ضحية المثقف، والمثقف ضحية الشارع، كلاهما ضحية لانقطاع الصلة، وبطبيعة الحال لابد أن ينفرد بالواقع الأقوى، والأقوى هم أولئك الذين يعتقدون أن رجال الدين هم من سيأتون لهم بالفردوس، ولكن هل هم رجال دين فعلا أم أنهم مريدو سلطة؟”.

* خلل في العلاقة الثقافية

وقال الروائي الليبي المعروف “إن إعادة التأهيل للمجتمعات العربية هي أمر يرتبط بالمشروع الحضاري، يجب أن يبدأ من مناهج التعليم، فالإنسان الذي لم يُدرّب على أن يقرأ لا يمكن أن يقرأ بعد أن يبلغ من العمر عتيا، أقصد أنه إذا لم تكن هناك ثورة في المناهج، وإذا لم تكن هناك ثورة روحية، وإذا لم تنعكس هذه الإرادة، إرادة التحرير والتحرر، وتترجم إلى ثورة ثقافية وروحية لا يمكن أن تأتي بالنتائج المرجوة.

وهذا لا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة، هذا عملية صيرورة طويلة، ويجب أن تلعب فيها وسائل الإعلام دورا إلى جانب مناهج وزارات التعليم ودور الثقافة، وهذا مشروع غير موجود في العالم العربي، والجامعة العربية لم تتول مهامها في هذا المجال، علينا أن نعترف بذلك، لا وجود لحلول مفاجئة، كل الحلول الممكن تحقيقها هي دائما تتحدث عن الحد الأدنى، إننا نعتقد أننا بخروجنا من الشتاء حققنا الربيع، لا، دفء الربيع صعب، ولا يزال بعيدا، يجب أن نعرف أننا خرجنا للتو فقط من صقيع الشتاء، الزمهرير، ولكن لم يينع الشجر بعد ولم نر ورودا بعد”.

وحذر الكوني من تضخيم الأمر “لا يجب أن نضخم من حالنا، فحالنا شعوب كثيرة وهذا شيء جميل، أن نجرب ونقاتل ونعمل ثورات، المثقف بطبيعة الحال يعاني التهميش والإقصاء ويعاني حربا من السلطة، حربا من السلطة السياسية والدينية والدنيوية ويعاني إقصاء من الشارع حيث لا يوجد لغة تفاهم بسبب خلل في العلاقة الثقافية، لأن الشارع ليس مثقفا، درجة الوعي في الشارع متواضعة جدا، لا يستوعب ولا يتبنى أي مشروع ثقافي للمثقفين، المأساة أننا نعتقد أن المثقف هذا يمكن أن يكون فارس الميدان في قضايا التحرير، هذا خطأ جسيم، لأنه في تاريخ الثورات ثبت أن المثقفين هم ممهدو ثورات وليسو شهود عيان للثورات، من يطلب من المثقف أن يفعل ذلك هو كمن يطلب من ديدرو أو روسو أو فولتير أن ينزل للشارع لكي يساهم في الثورة الفرنسية، وهذا لم يحدث، هم يمهدون ولكن لم يكونوا شهود عيان أو محرضين، المثقف ليس محرضا على الإطلاق، المثقف مشروع يجب أن يسكن في الأذهان لفترات طويلة، وما لم تستوعبه الناس لن يقوم بدوره في هذا السياق”.

وأكد الكوني أنه لم يترك ليبيا إطلاقا، وقال “ربما تركتها كجسد، أنا عندي 75 كتاب لم يقرأ منها الليبيون سوى ثلاثة كتب، في حين قرأها الأوروبيون، وهي موجودة في المناهج الأوروبية، وتدرس في جامعات أوروبية وأمريكية ويابانية، لكن غير موجودة في العالم العربي ولا تدرس في جامعات ليبيا، ولا يقرأها الناس. عندما أقوم بدور في أوروبا أجد العلاقة الثقافية واللغوية بين أوروبا والعالم العربي مقطوعة، كل النشاط الذي قمت به من أجل الثورة الليبية في الغرب مجهول لدى الليبيين، مجهول نهائيا.

في حين أنني منذ قيام الثورة وأنا أتنقل بين الدول والقارات وأجري حوارات مع صحفيي هذه الدول دعما ومساندة للثورة، ومأساة العالم العربي أنه لا يقرأ بلغات أخرى، وهذه القطيعة أوحت للبعض أن لا دور لي في الثورة، في حين ما فعلته أنا للثورة الليبية في وسائل الإعلام الأوروبية لم يفعله أحد على الإطلاق، ومرجع ذلك إلى المشكلة الثقافية حيث في عالمنا العربي لا تعلّم اللغات، في ليبيا كانت اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية عامة ممنوعة، الطائرة لا تستطيع الطيران بجناح واحد، عالمنا اليوم لا تكفي أن تتعلم فيه لغتين، لابد من ثلاث لغات فما فوق، وهم لم يتعلموا حتى اللغة الأولى، فكيف يكون هناك تواصل أو يدرون أو يعرفون أو يجلون ماذا يحدث حولهم في هذا العالم، مأساة”.

ولفت إلى أن كل وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية تعتبره مرجعا بالنسبة إلى ليبيا، و”أنا على اتصال بالشارع الليبي طوال الوقت، أتصل بأهلي، أنا موجود بليبيا بشكل أو بآخر، وأتردد عليها وعلى دول المنطقة بشكل مستمر”.

* القيادة للحكماء

وقال الروائي الليبي “إذا رجعنا إلى التاريخ القديم، والجمهورية الفاضلة يجب أن يكون فيها حكماء، مجلس حكماء على طريقة صولون محفل الحكماء السبعة، هذا نموذج للنظام الديمقراطي الحقيقي، الحكمة هي التي يجب أن تسود، التي يجب أن تقود العالم، ولذلك نجد أن القبائل الصحراوية التي ننعتها نحن اليوم بالتخلف ونعتقد أنها متخلفة، بها نظام سياسي عادل بل أكثر عدلا وحكمة وأكثر فعالية، بدليل أن هذه الإمارات التي نراها اليوم بنتها حكمة شيخ صحراوي عادل، وهو صحراوي بكل معنى الكلمة، وهو الشيخ زايد آل نهيان رحمه الله”.

وأضاف “الحكيم الذي يجب أن يقود الشعوب، هو الحكيم الذي يجبر ويؤتى به إجبارا، لا أن يهرع ويجري، ليس مريد السلطة من يجب أن يسود، هذا الكاره للسلطة هو من يجب أن نأتي به لكي يحكم، لأنه زاهد فيها، لأنه عدو لها، هذا مؤهل أكثر من غيره كما فعل الأثنيون في العالم القديم لصولون، هم أجبروه على أن يحكمهم ويضع لهم القوانين، ووضع لهم شروط ألا يغيروا هذه القوانين التي سيضعها لمدة عشر سنوات، وبرغم ذلك عندما قبلوا هذا الشرط لم يصدقهم، وضع القوانين ثم هرب في رحلة طويلة إلى مصر وإلى بابل، كي يجنب نفسه الحرج لأنه يعرف أن الشعوب ضعيفة وستأتيه وترجوه أن يغير هذا القانون أو ذاك، ولكن عندما عاد بعد عشر سنوات كان الناس قد تعودوا على قوانين الحكمة التي جعلت من اليونان حتى اليوم منارة الثقافة في العالم والنموذج الذي يقتدى به، إذن الإنسان الفار الكاره للسلطة هو الذي يجب أن نجبره أن يأتي ويقود الناس وليس مريد السلطة الذي يسعى إليها”.

وأكد “لقد خرجنا للتو من دهليز الشتاء ولم نر دفئا بعد، نحن في انتظار فصل الربيع، هم يعتقدون أننا سندخل الصيف، هذا وهم، ويجب أن نتحمل النتائج، لأن التغيير دائما دامي ودائما قاسي ودائما مخيبا للآمال، في كل الثورات لم يحدث على الإطلاق أن حققت خلاصا أو سعادة أو جاءت بالحقيقة، يجب على الثورة أن تحقق الحد الأدنى إذا أمكن”.

وحول المقولة المنسوبة لنجيب محفوظ “الثورة يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان، ثم يكسبها الجبناء” قال “إنها مقولة لأحد قادة الثورة الفرنسية، وكل قادة الثورات في أوروبا وروسيا وغيرها قالوا إن الثورات تسقط غنيمة في أيدي من لا يستحقونها، ولم يدفعوا فيها عرقا ولا دما، في حين يبقى النزهاء مهمشين ويبقى البسطاء مضطهدين، ويظل الجديرون بأن يحكموا أو أن ينالوا مغبونين وهذا من مفارقات الثورات.

والوضع في ليبيا صعب جدا مثل بقية جيرانها، أعتقد أن أمامها مراحل قاسية جدا، الجميع اعتقد أن المجتمع الليبي مجتمع بسيط ومسالم وأنه من الممكن بمجرد أن يزول هذا النظام سيعود مجتمعا مثاليا، لكن الواقع غير ذلك، كشف تعقيد الواقع، أن هناك في هذا الواقع عداوات وأطماع وجشع وإقصاء لأقليات، وهو ما أدى إلى حروب دامية وطاحنة، وهذا خطر شديد ينسف البلد نهائيا ويفقدها حتى الحد الأدنى مما يمكن أن تجنيه من التغيير”.

وأوضح “لقد قرأت التاريخ وجربت الحياة وعشت ثورات وانقلابات كثيرة، عشت العهد الملكي حيث كنت صحفيا، وعشت انقلاب القذافي، وعشت الثورة الآن، وعشت ذروة انهيار الاتحاد السوفيتي، وعاصرت يوما بيوم أكبر امبراطورية في العالم، وعشت في بولونيا عشر سنوات ونشوء حركة التضامن التي نسفت المعسكر الاشتراكي بالكامل، عشت الحرب اللبنانية، يوم الاجتياح كنت في بيروت، وترددت على بيروت حين كان الكل يقاتل الكل، هذه التجربة تسمح لي بأن أقول كلمتي، وفي ضوء ذلك فإن التفاؤل بما يجري نوع من الأحلام”.

مقالات ذات علاقة

حوار مع الكاتب المسرحي والشاعر عبد الحميد بطاو

المشرف العام

الشاعر بومختاظة: لم يحن الوقت بعد ﻹطلاق ديواني الأول والتكالب على النشر اليوم يفقدنا الإحساس بالجديد

منى بن هيبة

زنوبيا الشريف: إن فكرة التعليق عما أكتبه تبدو لي غير مجدية!

المشرف العام

اترك تعليق