لوحده ذاتياً, دون تدخل من أحد, ودون أن يسمع أو يرى ما يضحك.. انفلت يضحك ويضحك بلا توقف حتى تحول ضحكه الى قهقهة عالية وملفتة, تتقطع وتغيب أنفاسه معها الى ان يشرق ويسعل بشدة, حتى أدمعتْ عيناه من أثر ذلك.
التفت اليه جميعُ الحضور مندهشين وقد أخذتهم الحيرة في أمره, وكل واحد منهم ينقّل نظراته بين وجوه رفاقه مستفسراً عله يعثر على إجابة عند واحد منهم , وعندما لم يتحصلوا على إجابة من أي منهم, أخذوا يتضاحكون مثله في اندهاش من الموقف الذي حدث ويشاهدونه بأم أعينهم, ومن هذه الضحكات التي صدرت منه بلا سبب ولا ذريعة!, معتبرين ذلك من قلة الأدب وينتقص من خلق فاعله, وليس من اللائق فالوقت ليس وقت ضحك أو هزار, لأن الجميع مهمومون وتستحوذ على تفكيرهم المصاعب التي تواجههم أثناء الرحلة والظروف السيئة التي يمرون بها في بحث عن حلول لها, ومن بينهم من باله في الضحك مثل هذا المتصابى.
طلب منه الرفاق الإتيان بتفسير مقنع لما يضحكه بهذه الطريقة السمجة التي تدل على بوادر الجنون والاستخفاف بالحضور جميعاً, والا الأمر سيأخذ تأويلات لا تعجبه وهم معذورون في ذلك إذا لم يأتِ بمبرر مقنع, وهو الآخر وجد نفسه محرجاً في نهاية الضحك أمام أصحابه, وشعر بالخجل بعد أن أدرك خطأه متأخراً, وعليه أن يذكر لهم حقيقة مقنعه للسبب الذي أضحكه بهذه الطريقة المفاجئة والا سيغتاظون منه, وربما يقاطعونه بسبب هذه الخطوة الفجّة التي اقدم عليها طواعية ولم يرغمه عليها احد, وشعر بأنهم جميعاً قد استمجوا هذه البادرة التي فيها من السداجة والسخف ما فيها, وهو المعروف عنه التعقل والرزانة وسعة الأفق, لكنه طلب منهم التريث بحركة من يده اليمنى التي لمّ رؤوس أصابعها الخمسة الى بعض وأخذ يهزها فوق وتحت في حركة سريعة كإشارة الى طلب منهم القليل من الصبر.. يلملم أنفاسه التي شتتها الضحك, وهو لايزال يغالب الضحك الذي سيطر عليه و منعه من ذكر السبب لذلك.
وبدأ في سرد قصة قد وقعت لأبيه منذ سنين خلتْ وكانتْ سبباً في هذا الإحراج, تذكرها الآن فجأة وعلى حين غرة وفعلت فعلها فيه, عندما كان الوالد يحصدُ حقله المزروع قمحاً وشعيراً في أحد الأودية بمنطقة “القبلة” وكما هو معروف عن عملية الحصاد بالطريقة اليدوية التقليدية, فهي متعبة وشاقة جداً ولا يحتملها الا من اعتادها في عمر مبكراً, وتمتع بصبر وتجلد عظيمين, ولها أناس محدودون يستطيعون القيام بها.
البعض من الفلاحين شارف على اكمال الحصد ولم يتبقَ له إلا القليل, لأنه في الأساس لم يحرث مساحة كبيرة من الأرض تفوق جهده و أكثرهم حقولهم كبيرة ووسيعة لايزال أمامهم الكثير لاستكمال المهمة, وكان من بين الفلاحين العم (ضو) من أولئك الذين شارفوا على الانتهاء ويرغب في من يعينه هذا اليوم فقط حتى ينتهي من حصد كامل حقله, فاتجه الى شجرة الطلح الوارفة حيث يستلقي تحتها عدد من الفلاحين المنهكين الذين يلتمسون القليل من الراحة و الاسترخاء _بعد ان ثقلت عليهم أبدانهم من شدة التعب_ حتى يستعيدوا حيلهم ونشاطهم ويعودون الى الحقول من جديد, وهم أكثر إقبالاً من ذي قبل على الحصد.
قدران يغليان على الموقد في هدوء على مبعدة منهم كيلا تصلهم حرارة النار, ويحدث صوت البقبقة الذي يصل آذانهم في هدوء مع وشوشة الريح وهي تتخلل بين أغصان الطلحة هدهدة ناعمة قد أرخت الجميع وهيأتهم للنوم, والنوم بعد التعب يصبح لذيذاً وممتعاً, وتتضاعف لذته عندما يستمع الجائع الى صوت القدر وهو يبقبق بلحم الجدي الطيب على الموقد وأي جدي إنه الجدي الذي يتغذى على بقايا الحصيدة والأعشاب البرية بأنواعها والتي لها رائحة فوّاحة, ويصبح لحمه ولا ألذ منه, لاكتسابه طعم هذه الأعشاب مجتمعة الزعتر والإكليل والشيح, فهم نصف نائمين أي بين النوم واليقظة في استرخاء تام يستمتعون بهدأة القيلولة, في أوضاعٍ مختلفة منهم من يستلقي على ظهره ومنهم من على إحدى جانبيه ويمتد على طول قامته, ويغطي وجهه بعمامته بعد أن فكها عن رأسه في استكانة و استسلام انتظاراً لنضج الوجبة اللذيذة, الى أن وصلهم العم (ضو) الذي القى عليهم السلام ثم طلب من بعضهم التطوع باعانته على حصد القليل المتبقي له من زرع, حتى يرجع الى البلدة, والذي لا يأخذ الا ساعة أو ساعتين, متناسياً انهم قد تركوا زروعهم التي تخصهم في هذه القيلولة وفضلوا الاستراحة , فلم يجبه أحد منهم تهرباً من طلبه, رغم أن جميعهم يستمع اليه بوضوح وآثروا الصمت وعدم الرد عليه لأن طلبه فيه انانية و إجحاف في هذا الوقت تحديداً, وظناً منه بأن لم يسمعه أحد منهم, كرر طلبه مرة أخرى بصوت عالي جهور, وحتى هذه المرة لم يلتفت اليه ولا يرد عليه أي منهم ومعنى ذلك ان طلبه قد قوبل بالرفض, فكرر طلبه للمرة الثالثة موجهاً كلامه هذه المرة الى الأسطى صالح, فرد عليه بالقول:
– يا ضو علينا أن نستشير الطلحة التي نستظل بظلها أولاً ! إذا ارتضت الطلحة ووافقت على الانتقال معنا مشياً على جذورها الى الحقل لتظللنا فنحن لا نمانع أيضاً في اعانتك ونلبي طلبك, و سننهض ونذهب حالاً الى حقلك ونتم حصده معك, ولكن إذا رفضتْ الطلحةُ الذهاب معنا, فنحن مثلها تماماً لن نتحرك الى الشمس حيث تشتد الرمضاء, ونترك الظل في انتظار نضج اللحم والطعام.
تعليق واحد
أستاذ عبدالله
شاركتهم الضحك
شكراً لك