هو ليس مجرد كاتب يمتلك رؤية منفتحة وفكر مستنير فحسب وليس مجرد روائي له في مجال الرواية أعمال رائدة , ولا هو بالذي يُحسب من أفضل كُتاب المقالة فقط , يوسف القويري الذي رحل مؤخراً كل هذا الخليط من أساليب الكتابة بالإضافة إلى كونه صاحب لغة متميزة تتجلى بوضوح في كتابة ما يُسمى بأدب الرحلات وبعض الكتابات الأدبية والنقدية حتى أنها تكاد تقترب من الشعر فتأخذ من طلاوته وموسيقاه وتنهل من رؤاه وأخيلته , ورغم أن ما يكتبه القويري ينتمي لفصيلة النثر دون مواربة إلا أن الشعر لا يني يندس ما بين السطور ويتخلل المعاني وهو في هذا البورتريه الذي رسمه للشاعر عبدالوهاب البياتي يبدو متمكنا من لغته قابضاً على ناصيتها حين يصف الشاعر من الخارج ويستقرئ هيئته , ومن ثم ينتقل بناء على الشكل الخارجي المرئي إلى الغوص في شخصية الشاعر من الداخل ويقدم عنه أجمل وأصدق بورتريه حظيَ به في حياته , إذ لم يحدث أن وصف أحدهم الشاعر عبدالوهاب البياتي مثل هذا الوصف البليغ والوافي والمكتمل , والقويري في هذا الوصف لا يضع مجرد وصف ويحشد المزيد من الصفات والنعوت حول شخصية الموصوف بل يبدو كأنه يرسمه على مهل بقلمه المرهف ويعيد تشكيل شخصيته من جديد وفق رؤيته والأمر ليس مجرد نقل لما هو ظاهر من هاته الشخصية.
والوصف هنا من الحيوية بحيث يعطي القارئ صورة مكتملة عن الشاعر تساعد في فهم شخصيته وحتى شعره بعد ذلك , ولا غنى لمن أراد أن يتذوق شعر البياتي عن أن يقرأ هذا البورتريه الذي وضعه يوسف القويري ونشره في كتابه ” الكلمات التي تقاتل ” ثم قام البياتي بعد ذلك بنشره كمقدمة أو كتوطئة لدواوينه التي طُبعت سنة 1990 بهيئة مجلد من جزأين , وفي هذه المقدمة التي كُتِبت بعشق كما أتصور من الشعر ما فيها , كما أنها فضحت حب القويري للشعر وتفاعله الكبير معه رغم أنه لم يكتبه صراحةً , ولكن في النثر الذي كتبه الكثير من الشعر الذي لا يخفى على كل ذي ذائقة شعرية ناجزة.
وهذه المقدمة التي حلّت بعد الإهداء مباشرة في دواوين الشاعر جاءت كقصيدة إضافية وافتتاحية للديوان أو كتهيئة لما سيأتي بعدها من دفق شعري كثيف , وإلا ما الذي سنصف به هذا الكلام الرائق العذب إن لم نُسبغ عليه صفة الشعر . . يقول القويري :-
” فيه شيء من الكآبة , مثل كل بناء عريق .
لقد اختلجت بهذا الشعور نفسه وأنا أقف مأخوذا أمام كاتدرائية ميلانو الرمادية , وتحت قدمي أبو الهول , وعندما كنت أتطلع إلى قباب قلعة محمد علي , وهنا حينما تحتويني ممرات الطابق الأرضي للسراي الحمراء .
مزيج من جلال التاريخ وكهولة المعمار ينقلان إلى القلب كآبة محببة . وهذا ما شعرت به حين قابلته .
مسحة من الحزن والمرارة على وجهه وثمة غبار أيضاً , لعله من بقايا الارتحال والطواف والمنفى .
وبشرة سمراء محززة عند زاويتي الفم وفوق الصدغين وحول الرقبة ضاربة إلى اللون البني الغامق مثل تربة ما بين النهرين .
وأنف كروي المقدمة , وجبهة مزدحمة بالتجاعيد تعطي إيحاء الأنشغال الدائم .
أما الرأس فيكسوه شعر رمادي , ناعم كثيف , تتخلله شعرات بيضاء , متناثر بانتظام , وكأنما كل شعرة رمادية تقابلها شعرة بيضاء , وشاربه قصير دقيق , لا تكاد تلحظه إلا حينما تقترب منهُ وتمعن فيه النظر , فتكتشف أن ثمة خطا رماديا يتمطى مع شفته العليا حين يبتسم , وهو نادراً ما يفعل ذلك .
ويبدو من بعيد وكأنما ينوء بحمل رأسه الكبير , فجسده أسطواني , نحيل جدا , ولكنه متماسك وصلب كمسلة فرعونية .
كان دخان سيجارته يتصاعد بكثافة من فمه ويعطي حركة خادعة لقسمات وجهه الرصين , الحالم , الشديد الأسى , وكانت أصابع يده اليسرى معقوفة كمن يتأهب لحمل شيء ما , وعندما رفعت وجهي إليه لمحت ابتسامة ضئيلة في بؤبؤي عينيه سرعان ما انطفأت عندما أسدل جفنيه الصغيرين بحزم ورشاقة .
خيل إلى أنه أشبه ما يكون بتمثال مقدس من الخشب المصبوغ بالحناء , منقوش عبر لحظة ألم عميق , من راحتيه ينضح العرق وتتضوع رائحة الكافور , وهو يخاطب الآن قبيلة قديمة تحبه وتنشد من حوله كالجوقة .
ذلك هو عبدالوهاب البياتي . .