ما أفتأ أشدد على أهمية كتابات السير الذاتية، والسير، والمذكرات، واليوميات، لأنها تسلط الضوء، بدرجات متباينة من السطوع، على زوايا مهملة في الحياة الاجتماعية والتاريخية للبلد الذي ينتمي إليه، أو يعيش فيه، المتحدث عن نفسه (في السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات) أو المكتوب عنه (بالنسبة إلى السيرة).
وتزداد الحاجة إلى هذه الأنواع من الكتابة السردية إلحاحا في حالة مجتمع مثل المجتمع الليبي، الذي أهملت زوايا عديدة من تاريخه وتواجده الاجتماعي المعاصر (على امتداد حوالي قرن كامل).
لا أقصد من كلامي أعلاه أن هذا النوع من الكتابات هي كتابات تاريخية بالمعنى التقليدي والأكاديمي. لكنني أرى أنها تنطوي على الكثير من الجوانب التاريخية المهمة. ذلك أنه مهما كان صاحب
السيرة الذاتية أوالمذكرات أواليوميات فردانيا ومغرقا في ذاتيته، فلا مفر له من تناول أبعاد تاريخية واجتماعية، لأنه لا يعيش خارج عصره والمجتمع الذي يقضي حياته في كنفه.
*
من الكتب الصادرة مؤخرا، في موضوعنا هذا، كتاب عمر المختار الوافي “بين الأمل والألم: مذكرات” كتاب الوسط، مجموعة الوسط للإعلام، ليبيا، بنغازي – طرابلس، سبتمبر 2018.
*
عمر المختار الوافي «سجين سياسي سابق» حسب التعريف الوارد تحت اسمه في العنوان المثبت في الصفحة الداخلية. ونعلم أنه قضى في السجن “خمسة عشرة عاما باليوم والساعة والثانية” ص 387.
يمكن تقسيم سياق سرد هذه السيرة الذاتية (بغض النظر عن الفصول التي وضعها الكاتب لكتابه) إلى ثلاث مراحل:
* منذ الطفولة إلى انعطافة انخراطه في العمل السياسي السري، ضمن إطار حركة القوميين العرب (منذ 1944* وحتى بداية سنة 1965).
* منذ الانضمام إلى الحركة وحتى اعتقاله في أبريل 1973.
* مرحلة الاعتقال والسجن، حتى خروجه منه سنة 1988.
اتسم تناول عمر للمراحل الاجتماعية والتاريخية التي عايشها، وشهد عليها، بالرصانة والمسؤولية في التحليل وإبداء الآراء والأحكام. فلم يكن متحيزا أو متعصبا لقبيلة أو مدينة أو إقليم، واجتهد في أن يكون منصفا في تقييمه للنظامين السياسيين الملكي والنظام (أو لعله الأنظمة) الذي حدث بعد الحركة التي قام بها العسكر سنة 1969 وقادها وسادها معمر القذافي.
في المرحلتين الأولى والثانية، يتابع القاريء حياة الجيل الذي ينتمي إليه الكاتب الذي عركته الحياة منذ سني الطفولة الباكرة، حيث يدفع شظف الحياة وتدفع الفاقة الأطفال إلى العمل في سن مبكرة للإسهام في إعالة أسرهم. كما تكشف عن نشوء إحساس قوي ووعي واضح لدى كثير من الآباء البسطاء بضرورة إلحاق أبنائهم بالتعليم لتجنيبهم المصير الذي لاقوه هم، وعلى أمل أن يتمكنوا من مساعدتهم في تحمل جزء من أعباء المعيشة.
ومن جانب آخر توضح اكتشاف أفراد هذا الجيل نفسه أهمية التعليم والعلم والمعرفة فأصروا، بعزم لا ينثني، على مواصلة السير في طريقه رغم المشاق والصعاب المتنوعة، حيث اضطر الكثير منهم إلى العمل نهارا ومواصلة الدراسة ليلا. وكي لا نكون مغالين هنا، ينبغي الاستدراك بأن هذا التعلق لم يكن خالصا لوجه العلم أو المعرفة وحده، وإنما، أيضا، لأهميته في توفير مستوى معيشي أفضل ووجاهة اجتماعية. ويكشف تناول هاتين المرحلتين اهتمام العديد من أفراد هذا الجيل، وإن بتفاوت طبعا، بالشؤون العامة والقضايا السياسية الوطنية والقومية.
أما المرحلة الثالثة، فهي مترعة بالمعاناة والعذاب والألم، والقلق والتوتر النفسي، وتتقد، في نفس الوقت، بالصبر والجلد وعزيمة المقاومة والتفاؤل والأمل. إنها مرحلة نضال ضد القمع الخارجي وضد الذات.
في هذه المرحلة تمترست الروح وراء السعي إلى تنمية المخزون الثقافي وتطويره (أي تنمية الوعي وتوسيعه)، بأقصى ما يستطاع، وفق لحاف الإمكانيات المتاحة، لدحر هجوم السجن الذي يستهدف تدجين الذات وشلها، وحتى تدميرها. وسأكتفي هنا بمثال واحد:
طالت حملة الاعتقالات الهائجة عقب ما عرف بـ «خطاب زوارة» أو «النقاط الخمس» الذي أعلن فيه القذافي، من ضمن ما أعلن، ما سمي بـ «الثورة الثقافية» عددا من المثقفين العرب في ليبيا، من ضمنهم د. عبد الرحمن بدوي، الذي كان أستاذا بالجامعة الليبية في بنغازي، وكان مشهورا بانتمائه إلى الفلسفة الوجودية.
فأخذت التساؤلات تثار «وسط المعتقلين عن ماهية الوجودية؟ […] وزاد من أهمية التعرف على المذهب الوجودي تلك الأزمة التي كنا نمر بها على الصعيد الشخصي […] لأن الوجودية كانت تعبير [كذا] عن ثورة احتجاج من الفرد على طغيان الجماعة لإثبات حقه أمام دعاوى إلغائه وإفنائه وإثبات وجوده أمام السلطة الغاشمة [… و] تم اكتشاف المذهب الوجودي بالمعتقل عبر النقاشات والقراءات والحوارات الفردية والاجتماعية عبر الأيام» ص 223- 224.
يبدأ الكاتب الحديث عن رحلته الحياتية با8لحديث عن ولادته، وينهيه بالحديث عن يوم خروجه من السجن، كأنه يتحدث عن ولادتين. فيوم خروجه من السجن يعد ولادة ثانية. نهوضا للعنقاء من رمادها.
أريد أن أنهي حديثي عن الكتاب بمأخذ أعتقد أنه، رغم بساطته، مهم جدا من ناحية الأمانة التاريخية والتوثيقية. وهذا المأخذ يتعلق بحرص عمر طوال الكتاب على تسمية ما كان يدعى بـ «مجلس قيادة الثورة» بـ «مجلس قيادة الانقلاب»!. طبعا من حق أي أحد أن يعتبر هذا المجلس مجلس قيادة انقلاب أو زمرة أو طغمة أو عصابة، لكن من حق القاريء غير العارف وقراء أجيال المستقبل أن يعرفوا المسميات الرسمية للأشياء، وليقل فيها المؤلف، بعد ذلك ما يراه.
*
هناك ناحية تتعلق، في ما يبدو لي، بالمراجع اللغوي. فالكتاب به الكثير من الأخطاء النحوية التي لا أعتقد أن مصدرها عمر المختار. فأنا أعرف عمر المختار وعشت معه ما لا يقل عن ست سنوات في السجن، وأعرف لغته. وحتى لو كانت الأخطاء من قبل عمر المختار، فإن من مهمة المراجع اللغوي أن يصوبها. لكن المراجع اللغوي لم يحترم حدود مهنته، المتعلقة بمراعاة السلامة النحوية، وإنما أخذ يعيد كتابة بعض أسماء الأماكن على هواه. فـ «مَسَّة» التي كتبت في العنوان الداخلي بشكل صحيح، تتحول على يديه إلى «ماسة»!. وهذا الإسم يتكرر عشرات المرات، وفي جميعها، تقريبا، تتحول «مسة» إلى ماسة. وهذا العبقري لم يكلف نفسه عناء التساؤل: هل من المعقول أن يخطيء كاتب هذا الكتاب في كتابة اسم منطقة عاش فيها وعمل فيها؟!. كما إن «الرتيمي» تتحول إلى «الريمي»!.
ومشكلة الكتب الليبية التي تطبع خارج ليبيا، ولا يعتني بمراجعتها ليبيون، مشكلة فادحة. فكتاب يحمل في عنوانه اسم الشاعر الليبي جيلاني طريبشان يتحول إلى تريبشان!. وفي إحدى قصصي بكتابي «منابت الحنظل والشيء الذي ينأى» تتحول «الوطى» إلى «الوطني»!. في حين أنه لا علاقة للسياق بالوطنية. لفظة «الوطى» تعني في الاستعمال المغاربي الأرض، واللفظة تحمل دلالة الواطيء، مثلما أن السماء من السمو والدنيا من الدنو أو الشيء الداني.
توجد في الصين مقاطعة اسمها «خَنان». أعتقد لو أن كتابا يتحدث عنها وعهد بمراجعته لواحد من هؤلاء المراجعين العباقرة فسيتحول الإسم إلى “حَنان” أو «جِنان»!.
يقول مثل عربي: أعطِ القوس باريها. لكن يبدو أننا، كليبيين، تعودنا على إعطاء القوس لكاسرها.
____________________________________
* لم يحدد الكاتب تاريخ ميلاده، لكنه يقول أنه التحق بالمدرسة أوائل الخمسينيات، مع دولة الاستقلال. كما يقول “كنت يوم اعتقالي في عمر التاسعة والعشرين” وقد اعتقل سنة 1973.